شفاء غيظ المجنى عليه
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
السمة الواضحة فى الشريعة الإسلامية أنها راعت حقوق العباد، وكفلت لهم ما تشرئب إليه مهجهم ومكنتهم من إطفاء نيرانهم المتأججة وإخماد ضرام سخائمهم المتقدة التى ذكاها مجرم خارج على الشرع تعدى فيها على شرف أثيل أو أزهق روح إنسان نبيل، فالشرع الإسلامى عظيم الصولة والأخذ، شديد القوى والأسر، لا يتوانى فى ردع كل صائل متعدى وبتر هامتة وجعله مثلاً مضروباً ونكالاً مرهوباً، ولا يعد ذلك إنتقاما اللهم إلا إذا حسبنا أن إشاعة العدل بين الناس إنتقاماً، والشريعة الإسلامية فطنت لتلك المشاعر التى تعترى من ذاق مرارة الظلم والرغبة الجامحة فى التشنيع والتنكيل التى تجتاح من ذُلت ناصيته واستُِبيحتْ محارمه من الخليع الذى لا يردعه توبيخ والممعنّ الذى لا ينفعه تعنيف وربما لا يقتصر الأمر على الجانى فقط بل قد يتعداه ليشمل ذويه وعترته، فجريمة القتل الأولى قد يتبعها أخرى طلباً للثأر، ويتبع الثانية ثالثة للسبب نفسه وهكذا تتوالى سلسلة الجرائم ويعيش المجتمع فى أتونها وحرها، لأجل ذلك شُرِع القصاص حتى ينقذ المجتمع من العطب والدمار، القصاص أو العقاب بالأحرىالذى يشفى غيظ المجنى عليه وأفراد أسرته من الحيف الذى طالهم.
ولقد" كان القصاص العقوبة الأساسية فى الاسلام بالنسبة للجرائم الواقعة على الأشخاص؛ لأنه يشفى غيظ المجنى عليه؛ وذلك لأن مقفؤء العين لا يشفى غيظه مال من الجانى مهما كان قدره، ولا سجن مهما كانت مدته، ولكن يشفى غيظه أن يجده مقفؤء العين، ومن لطم فى مجتمع عام لا يشفئ قلبه غرامة مهما زاد مقدارها، ولا سجن مهما يكون أمده ولكن يشفى غيظه أن يلطم وجه المعتدى على ملأ من الناس وهكذا فإن قانون المساواة يوجب أن تتساوى العقوبة مع الجريمة، وأن يتساوى الأذى الذى نزل بالمجنى عليه مع الأذى الذى نزل بالمجنى عليه مع الأذى الذى ينزل بالجانى عقوبة له على ما اقترف والبادى بالشر أظلم، بل لا ظلم فى القصاص، والظلم كل الظلم فى أن يترك الجانى من غير قصاص".
والقوانين الحاضرة التى ابتدعتها طائفة من البشر لا ترقى إلى السمو والكمال الإلهى فالقوانين الوضعية يحيط بها القصور من كل جانب لأن القصور والخطأ من شيم البشر والكمال صفة لا يتصف بها إلا الرب عزوجل، وخير دليل على قصور تلك القوانين وفشلها فى درء الجريمة وشفاء غيظ المجنى عليهم أن الجرائم تترى فى تلك المجتمعات التى تُتطبق فيها تلك القوانين الوضعية، بينما تنعم المجتمعات التى أقرت بشريعة الله وارتضت بأحكامه بسكينة وطمانينة، لأن الشرع الإلهى يعلم مكنون تلك النفس وما يجيش فى دواخلها من مشاعر ورغبات، قال تعالى :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ﴾الإسراء:33. وهى بذلك تغلق الباب أمام الإحن والمصائب التى قد تنجم من الرغبة فى الأخذ بالثأر والتى لم تنجح قوانين البشر فى اقتلاعها وإطفاء جذوتها، ولا يفكر المجنى عليه أو من لحق به الضيم فى الثأر والإنتقام.
إن تمكين المجنى عليه أو أولياء الدم من الجانى لإستيفاء حقهم فى القصاص من شأنه أن "يساهم فى تهدأة الخواطر والنفوس المضطربة وبسبب برودة الأعصاب والدماء الثائرة، ومن ثم شفاء غيظ المجنى عليه أو أولياء الدم مما يخفف من رغبة الإنتقام والأخذ بالثأر،على العكس مما لو لم يمكن المجنى عليه أو أولياء الدم من استيفاء حقهم فى القصاص حتى لو عوقب الجانى بالحبس أو الفراق، فمن شأن ذلك أن يزيد فى ثورة النفوس والدماء والغضب فيدفع هولاء بإتجاه الإنتقام والثأر إستجابة للدواعى المذكورة فى أنفسهم".
ولعل هذا الأمر تفردت العقوبة الشرعية، بخلاف القوانين الوضعية التى أغفلت هذا الجانب، وفاتها بذلك صون الكثير من الدماء التى أريقت طلباً للثأر وإقالة عثرات الكثير من العباد الموتورين الذين تراصوا لنداء الإنتقام بعد أن امتلئت صدورهم سخماً وضغينة.
ومع أن الشريعة الاسلامية "جعلت العقاب لشفاء غيظ المجنى عليه إلا أنها لم تهمل الحق العام أى "حق المجتمع".فاعتبرت الشريعة أن من قتل شخصاً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، قال الله تعالى:﴿ ِمنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا ﴾المائدة:32. ولتحقيق المعنى الشخصى جعل الشرع لولى الدم الحق فى رفع الدعوى وإسقاطها، والعفو".،قال تعالى وقال الله تعالى فى القصاص:﴿ َمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾البقرة:178..