الماسونية
من المبادئ الهدامة
أ.د/
جابر قميحةكتب عن الماسونية ( masonry ) كثيرون ولكن هذه الكتابات تثير كثيرا من البلبلة في تحديد أبعادها الحقيقية وأهدافها وآلياتها، ويبدو أن السر في هذه البلبلة – كما يقول الدكتور علي شلش – يرجع إلى عصر السرية في الماسونية ، فالذين ينتمون إليها يحرصون على الدفاع عنها بالطبع لتبرير انتمائهم على الأقل ، والذين يخرجون عليها يحرصون على مهاجمتها لتبرير خروجهم عليها ، أما الذين لم ينتموا إليها فلا يمكن أن يتوصلوا إلى الحقيقة ، لأنهم لم يعرفوها من الداخل بحواسهم ، ولا يملكون إلا الموازنة بين الدفاع والهجوم للتواصل إلى نقطة ترضي رغبتهم في المعرفة ، ومع ذلك فقد كشف تراث الماسونية عبر القرون الماضية عن الكثير من الوثائق ، ومظاهر التورط في السياسة بصفة خاصة (1) .
والماسونية تطرح نفسها على أنها مؤسسة إحسانية ، وجمعية فكرية تسعى إلى استقطاب ذوي النفوس الحرة ، والأخلاق الحسنة الراغبين في العمل من أجل تحسين الشروط المادية والمعنوية للبشرية ، والارتقاء بها إلى مستوى ثقافي وحضاري أرفع . وتطمح الماسونية إلى أن تكون شمولية ، بحيث لا تتخطى الحدود السياسية والجغرافية الفاصلة بين الأقطار والأمم فحسب ، وإنما أيضا الحواجز العقائدية الفاصلة بين الأديان والأحزاب (2) .
**********
ومما جاء في تعريف الماسونية :
1- في دائرة المعارف البريطانية ( ط1981) :
الماسونية هي التعاليم والممارسات الخاصة بالطريقة الأخوية السرية للبنائين الأحرار ، والمقبولين ( من غير البنائيين ) . وهي أكبر جمعية سرية في العالم ، انتشرت بفضل تقدم الامبراطورية البريطانية ، وغيرها من بلدان الامبراطورية (3).
2- في دائرة العارف الأمريكية ( ط 1983 ) :
الماسونية اسم ودّي لجمعيات تطوعية من الرجال ، تستخدم أدوات البنائين
كرموز في تلقين الحقائق الأخلاقية الأساسية التي تؤكد أبوة الله ، وأخوة البشر (4) .
3- في دائرة المعارف اليهودية :
الماسونية جمعية سرية نشأت من روابط المهنيين التي كانت تتكون أساسا من
البنائيين ، ومنذ القرن السابع عشر ظهرت الجمعية كمؤسسة اجتماعية ، وأسست مبادئها ، وكلمات سرها ، ورموزها ، وشعائرها التي يعتقد أنها مستمدة من شعائر بناء أول معبد في القدس ...
وفي سنة 1873 أسس يهود لندن محفلا يهوديا ، أطلقوا عليه اسم " محفل إسرائيل " ، .. وحين غزا نابليون ألمانيا بجيوشه أنشأت هذه الجيوش عددا كبيرا من المحافل في ألمانيا بل تأسس محفل يهودي باسم ( الفجر الوليد ) ، واعتمده محفل الشرق الأكبر في باريس سنة 1808 (5) .. والقدس تعد عند الماسونيين مسقط رأس الماسونية منذ إقامة معبد الملك سليمان ، ولكن المحافل لم تعرف هناك إلا في منتصف القرن الماضي ، فقد تأسست خلال الحكم العثماني ستة محافل في فلسطين ، كان أولها في القدس في مايو 1873 .. (6).
4- في دائرة المعارف السوفيتية الكبرى (ط1977):
الماسونية حركة دينية ، وخلقية ، تدعو إلى وحدة البشر على أساس الإخاء
والحب والمساواة والعون المشترك .. وكانت تهدف إلى توحيد العالم في اتحاد أخوي ديني ، ثم اتخذت طابعا ارستقراطيا في أوروبا ، وازداد إلحاحها على الصوفية بدلا من العقلانية (7) .
**********
ودخلت الماسونية مصر في عهد الخديو إسماعيل ( 1863 – 1879 ) ، وكان
جمال الدين الأفغاني من أشهر من انضم إلى المحفل الماسوني المصري ؛ لأنه رأى في الماسونية وسيلة للإصلاح والتغيير ، مثلها مثل الصحافة والخطابة اللتين ارتبط بهما وقت دخوله الماسونية .. ويبدو أنه أعجب بشعار الماسونية الذي رفعته في ذلك الوقت في الحرية والإخاء والمساواة ، وهو ذاته شعار الثورة الفرنسية الذي روجته المحافل التابعة لفرنسا في مصر (8) . ثم اختلف مع رجال الماسونية في القاهرة ، ونأى عنها لأنه اكتشف أن الجبن يمكن أن يدخل بين اسطوانتي المحافل الماسونية ، وأن شعارات الماسونية استدرجته ، وجعلته ينضوي تحتها ، فإذا به يجدها مفعمة بالأنانية ، وحب الرياسة والأعمال التي تقودها الأهواء .. (9) .
وفي مصر وجد اليهود في الماسونية ما وجده فيها المسيحيون الشوام : مظلة للحماية ، ووسيلة لاحترام عطف الأغلبية واحترامها ، فضلا عن كونها مجالا خصبا للعلاقات العامة التي لا تتيسر المصالح بدونها ، بل إنهم نجحوا في سنة 1922 في تحويل الماسونية إلى أداة لخدمة الصهيونية ، وأحلام الوطن القومي في فلسطين (10) .
ومما يقطع بالصلة الوثيقة بين الماسونية والصهيونية أن حاييم وإيزمان رئيس المنطقة الصهيونية العالمية توقع وأنصاره في مطلع 1922 أن يقوم عرب فلسطين – كعادتهم – بأعمال عنف ضد اليهود أثناء احتفالاتهم بمولد نبيهم موسى . فطلب إلى ممثل المنظمة في القاهرة العمل على توجيه بيان من بعض أهل الثقة في مصر إلى عرب فلسطين لحثهم على التزام الهدوء أثناء تلك الاحتفالات التي يشهدها يهود من مختلف بلاد العالم ، فأصدر المحفل الماسوني الأكبر بمصر البيان المطلوب بتاريخ 2 من إبريل سنة 1922 ( قبل موعد احتفالات المولد ) ، ووقعه إدريس راغب الأستاذ الأعظم للمحفل وهيئة مكتبه (11) .
والنداء موجه " باسم الحرية والإخاء والمساواة التي هي الشعار المقدس للماسونية ذات المباديء الخالدة .. وباسم السلام العام الذي تدعو إليه جميع المذاهب الفلسفية وتأمر به كل الأديان السماوية والنداء موجه بالنص :
إلى أئمة الدين الحنيف ، وحفظة الشرع الكريم ..
إلى رؤساء جميع الأديان الأخرى ..
إلى أهل العقول الراجحة والبصيرة النيرة ..
إلى أرباب الأقلام والصحف ..
إلى أكابر المسلمين وأعيانهم ..
إلى أصحاب المناصب وذوي الحل والعقد ..
إلى التجار الذين تتنافر مصالحهم مع العنف والعدوان وسفك الدماء وتخريب العمران ..
إلى العمال والصناع الذين يستفيدون ويفيدون من ازدياد أسباب الثروة وتوافر عوامل الرخاء في فلسطين .
إلى أصحاب المزارع والضياع ، وأرباب المسقفات والمباني الذين سيكون نماء العمار في بلادهم سببا لتدفق الثروة عليهم .
إلى المزارعين ، والأكارين الذين سينالون أكبر المنافع باستخدام الأساليب الحديثة التي لا تلبث أن تتوافد عليهم ، فتعمهم الرفاهية وتتحسن أحوالهم المادية والأدبية .
إلى الشباب الناهض الذي سيجني أكبر الثمرات مما سيقام في فلسطين، مثل ما جناه أبناء سوريا مما أسسه المرسلون الدينيون في بيروت وغيرها ..
إلى المشاغبين (كذا) ، أولئك الذين لا تؤدى أعمالهم إلى شيء آخر سوى الضرر بمصالح العرب الحقة . إلى أولئك الذين يغريهم الدساسون الخادعون على اقتراب المحارم ، وسفك الدماء ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ..
.......
يا أهل فلسطين .. تذكروا أن اليهود إخوتكم ، وأبناء عمومتكم ، قد ركبوا متن الغربة فأفلحوا ونجحوا . ثم هم اليوم يطمحون للرجوع إليكم لفائدة وعظمة الوطن المشترك العام بما أحرزوه من مال وما اكتسبوه من خبرة وعرفان .
.......
حافظوا على شرف العرب القديم ، وعلى مجدهم الصميم ، ولا تندفعوا وراء الأيدي الخفية في تيار الظلم والعدوان .. وإياكم وإياكم أن تسفكوا الدم الذي حرم الله .. (12)
ونلاحظ على هذا النداء :
1- تمجيد الماسونية وإظهارها سادنة للقيم الإنسانية العليا من حب وسلام وإخاء .
2- التلويح بما سيجنيه عرب فلسطين من منافع مادية ورخاء ورفاهية بقبولهم اليهود وإقرار استيطانهم ، وخصوصا الزراع والفلاحين والعمال والتجار .
3- إظهار اليهود بمظهر المتفوقين خبرة ومعرفة وقدرة على استخدام الأساليب الحديثة في العمل والزراعة وغيرها ، وتحقيق الثروات ، والارتفاع بمستوى المعيشة لسكان فلسطين .
4- إظهار اليهود بمظهر المظلومين الذين ركبوا متن الغربة ، ومع ذلك أفلحوا ونجحوا .
5- إظهار اليهود بأنهم أصحاب رسالة " تعميرية " للنهوض بفلسطين ( الوطن المشترك ) بصورة شاملة اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا .
6- وصف المجاهدين الفلسطينيين الذين يدافعون عن أرضهم ، ويتصدون للاستيطان الصهيوني بأنهم مشاغبون ، سفاكو دماء ، اصحاب إثم وعدوان ، وأنهم عملاء يغريهم الدساسون العملاء من وراء ستار .
*********
وهذا النداء الخسيس يقطع بقوة الصلة بين الماسونية في مصر والصهيونية والصهاينة في فلسطين ، دونما رعاية لحق أو عدل أو شرف .
ولكن هذه الصلة أعمق وأبعد وأشمل وأوسع مدى من المظهر ، أو هذه الواقعة ؛ فما حدث إنما هو طرح عابر ، وموقف محدود يعبر عن أيديولوجية عميقة الجذور :
فالمعبد الإسرائيلي " هيكل سليمان " : تاريخه وبناؤه وهندسته وخرابه وإعادة بنائه ، ثم تدميره للمرة الثانية ، والحنين إلى بنائه من جديد هو الفكرة المركزية ، وحجر الزاوية ، وبؤرة كل الشعائر والمراسم والطقوس في الماسونية .
فالماسون مرتبطون في محافلهم وأنشطتهم بقصص وخرافات العصر الذهبي لليهود أيام المعبد القديمة ، وأما " البناء الثالث للهيكل " فهو الهدف الأسمى ، ونهاية الأرب عند الماسون .
وننقل بعض النصوص من مرجع حجة في هذا الموضوع (13) :
1- إن مهمة الرصاصة قتل وتدمير الجامعة والمعرفة والكنيسة والخلاص ، أما بالنسبة للماسون فهي بناء المعبد. (ص8)
2- لأن رسالة رسالة الماسون هي بناء المعبد ، فالماسوني الحق هو الذي يعمل بصدق لإقامة هذا المعبد (ص9)
3- إن التائهين المنفيين في جميع أنحاء الأرض منذ عدة قرون ، المحتقرين ، والمضطهدين في كل مكان ، قد جعلوا أنفسهم – رغم ذلك وإلى الآن – "شعبا متميزا" . وفي الحقيقة ، ونتيجة لهذه المحافظة الفريدة فإنهم يبنون بعاطفة جامحة أملهم الغالي في العودة : سيعودون يوما ما إلى القدس ، ومرة أخرى سوف يتوج هيكلها السامي تلك الأمجاد ، ويسطع في أبهة متجددة باشعة الشمس المشرقة ، سوف تدوي داخله من جديد ترانيم تمجيد " صهيون " ، وسوف تخيم مرة أخرى سحابات البخور والتقدمة – القرابين – على قاعاته المقدسة (89 – 90 ) .
4- ومع ان الماسونية – في معظم التفاصيل تقريبا – قد اجتازت تغيرات من وقت لآخر " لتلائم المراحل الزمنية " فإن هناك نقطة واحدة لم تتغير أبدا ، أعني الفكرة المركزية الباعثة لوجودها ألا وهي المعبد المقدس .
ومن أجل هذه الغاية كان تكوين المحفل الإنساني الماسوني (14).
وكان نابليون صادقا عندما قال قولته الشهيرة : " يجب أن نعترف ان الدنيا تدار من قبل المنظمات السرية " . وكانت الثورة الفرنسية – ومن نصوص البروتوكولات – إحدى الإنجازات الماسونية الكبرى . ففي البروتوكول الثالث من بروتوكولات حكماء صهيون :
تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها الكبرى .. إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيدا ، لأنها من صنع أيدينا .. ونحن الآن كقوة دولية فوق المتناول لأنه لو هاجمتنا إحدى الحكومات الأممية ، لقامت بنصرنا أخريات (15) .
ويتحدث آرثرإدوارد في " موسوعة جديدة في الماسونية " عن دور الماسون من درجة فرسان المعبد في الثورة الفرنسية ، وأنهم كانوا يخططون ويهدفون إلى تحطيم الحكومة الملكية في فرنسا ، وإلى تحطيم العقيدة الكاثوليكية .
وخلص إلى القول : ببساطة يمكن أن نضع الفرض هكذا .. إن الماسون من درجة فرسان المعبد كانوا يهدفون إلى ثورة في فرنسا ، وإن الثورة الفرنسية قد جاءت (16) .
ومن الحقائق التاريخية التي تدين الصلة بين الماسونية والصهيونية والثورة الفرنسية أن الأسطول الفرنسي لما دمر على الشواطيء المصرية سار بونابرت بجيشه عبر صحراء سيناء إلى فلسطين مضمرا في نفسه أن ينشيء دولة يهودية بها استجابة لطلب المحافل الباريسية الصليبية الصهيونية . وفي الرابع من إبريل عام 1799 خطب بونابرت في صهيونيي يافا وحيفا والقدس الذين انتظروه مع غيرهم من اليهود القادمين من رومانيا فقال :
" ... أيا ورثة فلسطين الشرعيين ، الأم العظيمة تناديكم لتستردوا ما سلب منكم بالغزو ، أسرعوا لقد حانت اللحظة .. لحظة المطالبة باسترداد حقوقكم المدنية ، وكيانكم السياسي كامة للأبد " (17) .
وأصبح نابليون الذي احتمى بمحفل الماسون واحدا من صفوتهم ، منحه مجلس الشيوخ الماسوني (سنة 1804) منصب الإمبراطور الوراثي ، ولقب نابليون الأول ، ونقشت أمجاده الإجرامية على قوس النصر الذي شيده الملك الماسوني " فيليب إيجاليتيه " بميدان ليتوال " النجمة السداسية " بفرنسا (18) .
ومن الشكليات التي تقطع بعمق الصلة بين الصهيونية والماسونية أن المحفل الماسوني يعني " خيمة موسى في البرية " ، وان " النور" عند الماسون يعني " النور الذي تجلى لموسى فوق الجبل " ، وأن الهيكل " يعني هيكل سليمان " ، وأن " العشيرة " التي تستخدم بمعنى " الجمعية الماسونية " تشير إلى " عشائر بني إسرائيل " ، وأن " العقد الملوكي " تمثله قلائد نقش عليها أسماء " أسباط " بني إسرائيل .
كما أن الماسونية الرمزية تستخدم بعض أسماء انبياء بني إسرائيل للدلالة عليها ، مثل : بوغر بمعنى: الأخ ، وجاكي بمعنى : الأستاذ ، ويهوذا أو جاهونا بمعنى: الأستاذ الأعظم . وأن درجات الماسونية الملوكية تقابل بعض أسماء أبطال السبي البابلي ، مثل زر بابل ونحميا وعزرا ويشوع .
كما أن طالبي الترقية إلى الدرجات العليا يتقدمون إلى غرفة العقد الملوكي التي ترمز إلى هيكل سليمان ، وهم " خالعو الأحذية " تشبها بموسى الذي أمره الله بأن يخلع نعليه ، لأنه بالوادي المقدس .
كما أن الحوار بين رؤساء المحافل والأعضاء قبل ترقيتهم الى رتب ماسونية أعلى يؤيد ذلك : إذ يقول العضو إنه قادم من بابل , وإنه يقدم مساعدته فى بناء هيكل أورشليم ثانية لإله بنى إسرائيل " مهندس الكون الأعظم " , وإن بينه وبينهم " أى اليهود " أخوة ... (19) .
(1) د. شلش : اليهود والماسونية في مصر 193.
(2) موسوعة السياسة 5/657.
(3) شلش السابق 194.
(4) شلش السايق 96.
(5) شلش السابق 197 – 198.
(6) السابق 200.
(7) السابق 201.
(8) السابق 224.
(9) السابق 231.
(10) السابق 248.
(11) السابق 272.
(12) انظر نص النداء كاملا في كتاب علي شلش السابق 334 – 338.
(13) هو الكتاب الذى ألفه : أ . س . ماكبرايد وعنوانه : (الماسونية التأملية – رسالتها وتطورها ومعالمها – جلاسجو 1914)
A.S Macbride :Speculative Masonry : its mission ; its evolution and its landmar, Glagsow , 1914 .
(14) عن كتاب محمود الشاذلي : الماسونية عقدة المولد وعار النهاية 45-52 .
(15) محمود الشاذلي : المسألة الشرقية 143 .
(16) الشاذلي : السابق الصفحة نفسها .
(17) أبو إسلام أحمد أبو عبدالله : الماسونية فى المنطقة 245 ص 32 .
(18) السابق الصفحة نفسها .
(19) انظر: سعيد الجزائري : الماسونية : ماضيها وحاضرها 120 .