حساسية زائدة
د. طارق باكير
جامعة الباحة
كان صاحبا عزيزا .. سعيت ليكون جارا لي ، حرصا على القرب منه ، وعلى المودة التي بيننا ، ولأن الدنيا لا تدوم على حال ، فقد حصل بيننا جفاء ، ليس أحدنا سببه ، وبقي بيننا شيء من المودة والمجاملة ، وكنت أتودّد إليه ، وأحرص – حسب علمي - على المحافظة على مشاعره ، ما وسعني ذلك ، وأتجنب أي موقف يمكن أن يغيظه ، وفاء لما كان بيننا من الودّ ، فكنت أدعوه إلى بيتي ، عندما يأتيني ضيف ، ولا سيما إذا كان له به معرفة ، وكان يردّ لي ذلك ، واحدة بواحدة ! ولكنه كان يتفوق علي بعلاقاته الواسعة ، وطبعه الاجتماعي القريب من الناس ، وكثرة خلانه ، ولم أكن كذلك ..
وكنت أشعر بأنه لا يبادلني الحرص ذاته ، وكان أكثر ما ينتابني هذا الشعور في رمضان ، فأحيانا - على سبيل المثال - يكون معه ضيف ، أو ضيوف أعرفهم ، وكنا نصلي المغرب ، ونخرج سويا من المسجد ، في حارتنا الضيقة ، فكان يتجاهل وجودي ، ويخرج يختال أمامي – أو هكذا كان يُخيّل إليّ - مع أصحابه ، أو الذين صاروا أصحابا ودودين له ، بعد الجفاء بيني وبينه ، دون أن يطيّب خاطري بكلمة : تفضل معنا ! مع أنه كان يتهمني بالحساسية الزائدة ، والتأثر بالمواقف التي يعدها غيري عابرة .. ولم أكن أعدّ ذلك عيبا ، وإنما ميزة ، لأنني أرى أنّ من متطلبات الذوق واللياقة الآدمية ، أن يتمتع المرء بقدر من الحساسية ، على الرغم من أنّ هذا يحتاج إلى قلب كبير كقلب الرياضيين ، لأنه سيكون مستهدفا ، من جانب بعض (أصحابه)، ومن حسن حظي ، أنني علمت ، أني أملك مثل هذا القلب ، ولله الحمد ، كما أخبرني الطبيب.
وكنت أتألم أحيانا ، وأشعر ، لِفَرْط حساسيتي ، كما يقال عني ، بأن (صاحبي) يريد أن يغيظني ، وينكد عليّ ليلتي الرمضانية ، فكنت أدعو بحرقة : يارب ، امنحني قلبا يتحمل القهر، من جانب الذين يعلمون أن عندي حساسية زائدة ، فيتعمدون إغاظتي ! إلى أن شعرت ببعض الاطمئنان ، بعد أن علمت بحال قلبي الكبير.
كما كنت أشفق على (صاحبي) أحيانا أخرى ، وأقول في نفسي : ألا يستحق منه رمضان ، أن يداري قليلا ، هذا الذي كان صاحبا له في يوم من الأيام ؟ أو هذا الجار البائس ، لحساسيته الزائدة .. وأن يصون – هو - جوعه وعطشه ، ويحافظ على كامل الأجر في هذا الموسم المبارك ؟
وإذا كان لي من موعظة ، في هذا المقام ، وبمناسبة هذا الشهر الكريم ، فهي موعظة نابعة من ألم ومعاناة .. وذلك بأنْ يرتقي المسلم ، ليس بكثرة العبادة والطاعة والإنفاق .. فحسب ، وإنما بمراعاة مشاعر المسلمين من أهل وجيران وزملاء وأناس عابرين .. وأصحاب ، حتى وإن كانوا ألِدَّاء !
ويا أيها الصائمون : اذكروا قول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف : (إذا كنتم ثلاثة ، فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما ، فإن ذلك يحزنه)، وانظروا كم حرص ديننا الحنيف ، على مراعاة مشاعر المسلم نحو أخيه المسلم ، في كل حال ؟ وكم لهذه المراعاة من قيمة ومكانة عند الله عزّ وجل ؟ فكيف إذا كان المسلم قريبا ، أو جارا ، أو صاحبا في يوم من الأيام ؟ وكيف إذا كان الحال في شهر الرحمة والمبرّة ، والتسامح والمغفرة .. رمضان؟
هذه المشاعر التي يسميها بعضهم ، مِمّن لا يقدرون – حقّا - قيمة المشاعر الإنسانية :
حساسية زائدة !
* * *
لمحة
سَلاماً رمضان ..!
رمـضانُ يا مَلقَى الأحبّةِ فائِضَا
يـا مؤنسَ البؤساءِ يا صَفْوا ويا
هَـلاّ حَـملتَ لِمَعْشَرٍ في غُرْبة
نـلقى به الأحبَابَ من أهلٍ ومِنْ
ونـكحِّل العينينِ بالأرضِ التي
ونـبـلّـلُ القلبَ السّقيمَ بِفَرحَةٍ
رمضانُ يا شَهرَ الفضائل والنَّدى
هَـلاّ نـراك بـسَاحِنا وبِدُورنا
هَـلاّ رَجَعْتَ من الكَريمِ بمِنْحَةٍ
رمـضانُ ما خَابَ الذينَ قَبِلتَهُمْعَـطْـفـا وجُـودا سَائغا ووِئاما
عَـوْنَ الـغَـريبِ يُكابدُ الآلاما
أمـلاً يُـفـرّج كُـرْبـة وسِقاما
صَـحـبٍ كِـرام ستابقوا الأيّاما
ضـمّـت رُفَاتا طاهرا وعِظاما
ونَـشُـمُّ تُربةَ مَنْ مضَى مِقْداما
هـل نلتقي يوما ونُبصرُ (شَامَا)
لَـرَأيـتَ كـيـفَ نُقدِّم الإكراما
تُـشفي الصّدورَ وتُنعِشُ الأحلاما
ورَضِـيـتَ صَوما مِنْهُمُ وقِياما