ثورتنا بين علو الهمة وسقوط المروءة

حسام مقلد *

[email protected]

في الحقيقة لا أدري أين ذهبت تلك الروح العظيمة التي جمعت المصريين في ميدان التحرير وميادين مصر الأخرى طوال ثمانية عشر يوما هي عمر ثورتنا الشعبية المجيدة!! لقد بهرنا العالم بأسره بهذه الروح حتى أثنت علينا شعوب الأرض قاطبة، بل امتدحنا بعض رؤساء الدول والحكومات، وقال من قال: هؤلاء هم المصريون مهد الحضارة لا يزالون يعلمون العالم!! لكن بكل أسف ما هي إلا بضعة أشهر حتى تفرق جمعنا وتشتت شملنا واختلفت أحزابنا وتصارعت ائتلافاتنا على غنيمة لم نحزْها بعد!! ووالله لا أدري أين ذهبت روح ثورة يناير التي صهرتنا معا وأظهرت أفضل ما فينا حيث توحدت صفوفنا واتحدت أهدافنا، وكنا على قلب رجل واحد، وشاهد العالم جموع المسلمين تصطف للصلاة يحرسهم أخوانهم الأقباط، ورأوا كذلك الأقباط يقيمون قداسهم وتحمي ظهورهم حشود حاشدة من أخوانهم المسلمين، فأين ذهبت هذه الروح؟ وكيف أخلت مكانها بهذه السرعة المذهلة للعصبيات الدينية والسياسية والمصالح الاقتصادية؟ وكيف نسمح لأطماع الدنيا ومتاعها الزائل بأن تدمر وطننا وتجلب الفرقة والصراعات والخراب والدمار لأبناء شعبنا؟ كيف نسمح للدسائس والمكائد والمؤامرات ـ الداخلية والخارجية، المحلية منها والإقليمية والدولية...!! ـ بأن تجهض ثورتنا وتغتال أحلامنا وآمالنا؟ ترى أتغني المرء المناصب والأموال ( ملايين الدولارات...) عن بلاده؟ أتغنيه عن شعبه وأهله؟ أيمكن لمثل هذه المغريات الزائفة أن تُعمي الأبصار وتطمس على البصائر فلا ترى حقائق الأشياء ولا تبصر عواقب الأمور؟!! وما الرجل بغير وطنه وشعبه وأمته؟!! والله إن كرامة الإنسان لمن كرامة وطنه وعزته لمن عزته.

ولا أعرف بالضبط ماذا يريد المعتصمون في بعض ميادين مصر الآن؟! ألم يكن هدفنا جميعا هو سقوط النظام البائد السابق؟! وقد تحقق ذلك والحمد الله وسقط رأس النظام وكبار رموزه، لكن هل يظن أحد أن فكر هذا النظام الفاسد وفلسفته في الحكم ستزول بهذه البساطة في غضون عدة أشهر؟! نعم هناك بطء ملحوظ في تسريع إجراء المحاكمات وتنفيذ مطالب الثورة وتحقيق أهدافها، وأعتقد أن تسريع وتيرة سير هذه الملفات كفيل بإزالة حال الاحتقان التي يشهدها الشارع المصري الآن بسبب فقدان الثقة وانتشار الرِّيَبِ والظنون، وكثرة الشكوك والوساوس التي تملأ صدور الناس ونفوسهم، إضافة إلى مخاوف البعض من انفراد البعض الآخر بالسلطة وانقلابه على الديمقراطية بعد ذلك!!

 ونحن بالفعل في غنى عن كل ذلك، وكان في يد المجلس العسكري والحكومة تبديد تلك الشكوك والمخاوف بدلا من تعميقها طيلة الأشهر الستة الماضية بحالة الغموض والانسيابية التي تعيشها مصر حاليا، لكن هناك إنجازات كبيرة قد تمت وتحققت بالفعل، ولا يوجد أدنى شك لدى غالبية الشعب المصري في انحياز الجيش لمطالبهم وحمايته لثورتهم، وما كان جدير بشباب الثورة وبعض ائتلافاتها أن تسمح لقلة من الناس بالتطاول على الجيش والوقيعة بينه وبين الشعب وتعميق حالة الارتباك والقلق والخوف والتوجس لدى الجماهير، فمن شأن هذا الشحن المتواصل وتوتير الأجواء المستمر أن يلهب المشاعر والأحاسيس، ويُفْلِتَ الأعصاب، ويفجر الوضع برمته في وقت نحن أحوج ما نكون فيه للهدوء وبناء الثقة، والإعداد للانتخابات؛ ليتم الانتقال السلس للسلطة المدنية المنتخبة من قبل الشعب، وبدلا من هذا الموقف الحالك الذي وضعنا فيه معتصمو التحرير كان حريا بهم أن يفكروا في مستقبل مصر بطريقة إيجابية أكثر، وقميص عثمان الذي يرفعه البعض الآن، ويرددون حوله الكلام في كل الفضائيات وأعني به: حقوق الشهداء، ومحاكمة رموز النظام الفاسد السابق، ورفع الحد الأدنى للأجور....إلخ، كل ذلك مهم ولا شك ولابد من تنفيذه بالسرعة المطلوبة، لكنه ليس الطريق لبناء دولة مصر الحديثة المدنية المستقلة، والطريق للوصول إلى هذه الغاية معروفة جيدا ومحددة ومرسومة وفقا لخارطة الطريق التي وافق عليها الشعب وأقرها بأغلبية كبيرة في استفتاء 19مارس الماضي، فما سر محاولات الالتفاف على إرادة الجماهير وتعطيل المسيرة المتفق عليها التي أكد المجلس العسكري مرارا أنه متمسك بها وملتزم بتنفيذها في التوقيتات المحددة؟!

نعم كلنا يعلم أن الشباب أشد عزيمة، وأقوى أفئدة، وأرق نفوسا، وأسرع تأثرا، وأخف حركة، وقدرتهم على التغير والتكيف أكبر من غيرهم، وذلك أن طاقاتهم تتفجر وعنفوانهم يتدفق لا يعرف حدودا، وهذا طبيعي لأنهم يستقبلون من حياتهم أكثر مما استدبروا منها، ويتطلعون لمستقبل أفضل، وينظرون للأمام دائما لا يشدهم للخلف شيء: لا ثروات جمعوها، ولا مناصب حصلوا عليها، ومن الأمور المألوفة في أغلب الشباب سرعة الغضب وقسوة الانفعال وأحيانا النزق وشدة الاندفاع (أقول هذا وأنا لست بشيخ فانٍ ولا رجل مسن بل ما زلت شابا، لكن هذه الصفات جزء من طبيعة الشباب وحقيقة من حقائق الحياة، ولا ضير من الاعتراف بها) وبعض الشباب اليوم يبالغون في نقمتهم وحقدهم على نظام مبارك الفاسد السابق ورغبتهم الجامحة في الانتقام منه، ويسرفون في انتقاد المجلس العسكري، ويتشددون جدا لحد التطرف في تحقيق مطالبهم الآن وفورا، وهم بذلك يشقون صفوف القوى الوطنية المصرية، ويمزقون لحمتها ويوهنون قوتها ويضعفون عزيمتها، وأقول بكل صراحة ووضوح: إن بعض الشباب في غمرة اندفاعهم وشدة حماستهم وقعوا دون قصد أو وعي منهم في الفخ الذي نصبه لنا أعداء مصر، ويريدون جرجرة المصريين من خلال اندفاع هؤلاء الشباب للوقوع في نفق مظلم أو حفرة عميقة سحيقة يتخبطون فيها لعقود قادمة!!

وأنا رجل بسيط من أبناء مصر لا أدعي الحكمة ولا أزعم ما ليس في، لكن ألم نتعاهد جميعا منذ بداية ثورتنا على أن نخلص لبلدنا ونسعى إلى بنائها بناء جديدا على أسس راسخة ودعائم قوية تجعل منها دولة مدنية عصرية حديثة؟! لكن ما أسرع ما ينسى الناس عهودهم!! وإلا فلماذا يخون بعض الناس بمثل هذه السرعة عهودهم التي قطعوها على أنفسهم فيقدمون مصالحهم الشخصية على مصالح وطنهم ولا يفكرون في مصيره الذي سيؤول إليه لو تصارع أبناؤه؟! أهذه هي الرجولة؟ والله ما أعلم الغدر والخيانة من شيم عظماء الرجال أبدا، فهذه الخلال الخسيسة والأخلاق الذميمة ما هي إلا بعض صفات المنافقين وأشرار الناس وأراذلهم!!

وحقيقة لا أفهم كيف يحرص بعض الناس على خنق أحلام أمتهم ووئد آمال أبنائها؟ ولا أعلم لماذا ينخدع هؤلاء لأعدائهم، ويستسلمون لأهواء نفوسهم ووسوسة شياطين الإنس والجن الذين يتلقفونهم ويعدونهم ليخربوا بيوتهم ويهدموا أوطانهم بأيديهم؟! وأتساءل حقا: لماذا ينجر هؤلاء لحتفهم ومصارع أقوامهم وضياع بلادهم وأوطانهم دون وعي منهم وكأنهم سكارى ؟! وكل هذا من أجل ماذا؟! أهو من أجل النجاح وشهوة السيطرة وحب الرياسة!! وأي نجاح هذا الذي يحققه المرء على حساب أهله ووطنه؟!

أعلم أن البعض قد يزهد في كلامي هذا قائلا: والله ما هذا بحديث السياسة، والقمة ـ كما يقال ـ لا تتسع لرجلين، ومن حق الناس والأحزاب الطموح للوصول للقمة والفوز بالسلطة، ولقد انتصرت كثير من الثورات والحركات فبطشت على الفور بأعدائها أول الأمر، فإذا ما فرغت منهم ارتدَّت على بعض أهلها ورفاق دربها فأخذتهم بالرِّيَبِ والظنون حتى لم تُبْقِ منهم أحدا، كل ذلك ليخلو لها الطريق وحدها، ويحدثنا التاريخ أن هذا هو ما دأب عليه الناس في ثوراتهم وحروبهم وصراعاتهم من أجل الحكم والسيطرة والهيمنة وبسط النفوذ، وهذا هو ما استقرت عليه الشعوب والقبائل منذ القدم (ونراه عند:العرب، والفرس، والروم، والوندال، والقوط، والهونيون، والسلتيون، والجرمان التيوتونيون... وغيرهم).

لكن وإن كان هذا صحيحا تاريخيا، وقد خبرته البشرية مرارا وتكرارا إلا أن الأمم الراقية والشعوب المتحضرة قد أدركت أن هذه الطريق الوعرة ليست هي طريق تشييد الحضارة وبناء العمران وتحقيق التقدم والرقي، بل هي طريق التناحر والهلاك والدمار والضياع، وما يفتُّ في الأكباد ويشعل النار في الأفئدة أننا لا نريد أن نتعلم أبدا من تجاربنا وتجارب السابقين، ونعرف تماما مصير الفرقة والخلاف ربما أكثر مما نعرف أنفسنا، ومع ذلك لا تزال العصبيات والمطامع والمصالح الشخصية تحكمنا وتحرك مشاعرنا، وتجعلنا نخوض في أعراض بعضنا البعض، فينهش الواحد منا (أو الجماعة أو الحزب...) لحم أخيه ويتهمه بالعمالة والتخوين، أو يطعن في نزاهته وشرفه ويهيج الناس ضده، ويستعدي المسئولين أو الشعب عليه، هذا فضلا عن سبه وشتمه ووصفه بأقذع الكلمات والأوصاف، وهذا والله ليس من المروءة في شيء، وكلنا يعلم أن لسان الرجل حصانه به تفتح له القلوب ويمتلك النفوس، أو يوطأ بالأقدام ويضرب بالنعال، ووالله أظن جازما أن ثورتنا هذه لن تنجح أبدا قبل كشف هؤلاء الناس ضعيفي النفوس، خائري العزائم، واهني الهمة، ساقطي المروءة، الذين يتآمرون على الوطن ويضعون أيديهم في أيدي أعدائه!!

                

 * كاتب إسلامي مصري