الأكثرية في السياسة الشرعية

وآليات الديمقراطية المعاصرة

دندل جبر

من وسائل تحقيق الشورى في الإسلام اتفاق آراء الناخبين أو المستشارين في أمر من أمور الدولة أو المجتمع وهذا ما يسمى بالإجماع ، أما إذا اختلفت آراء الناخبين أو المستشارين ولم يتحقق الإجماع فعندئذ يؤخذ برأي الأغلبية لتحقيق المراد من عملية الشورى .

وهذه الأكثرية كما تعتبر إحدى وسائل تحقيق الشورى في الإسلام ، فهي كذلك إحدى الآليات والوسائل التي تشكل أسس الديمقراطية المعاصرة أيضاً .

أدلة الأخذ برأي الأكثرية :

الأدلة التي توجب الأخذ برأي الأكثرية في حال اختلاف الآراء أثناء البحث في قضية من القضايا التي تهم الأمة وتحقق المصلحة العامة لها :

1 ـ قول الله تعالى : (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (آل عمران ـ 159) .

" فالآية إنما تعني وجوب الشورى كاملة ، لأن هذا ما ينصرف إليه الذهن ، وهو المتبادر من الأمر الصريح ، والشورى الكاملة هي التي تنتهي بنتيجتها التي تقررها الجماعة أو الأكثرية لا الأقلية أو الفرد ، لأن رأي الجماعة هو الرأي الفاصل المرجح على غيره ، حيث لا دليل آخر مرجح ، وليس من المناسب ـ لا عقلاً ولا شرعاً ـ أن يكون رأي الفرد أو الأقلية هو الرأي الفاصل المرجح ، ومعنى هذا أن وجوب الشورى يتضمن الالتزام برأي الأكثرية لأنه هو الذي يتمم الوجوب ويحققه ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " (الدكتور عبد الحميد إسماعيل الأنصاري ـ بحث نشر في مجلة الأزهر ـ ذو القعدة 1402 هـ ـ 5 آب 1982م) .

2 ـ وقال تعالى : (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (الشورى ـ 38) .

" ويمكن أن يقال ، إن هذه الآية توجب الشورى على وجهها الأكمل والأعم ، والأخذ بنتيجة هذه الشورى من التزام رأي المشيرين إن اجتمعوا ، والأخذ برأي أغلبيتهم إن اختلفوا ، واجب على الإمام أن يأخذ بالشورى تامة ، فيجب أن يأخذ برأي الأغلبية لأن ثمرة الشورى وفائدتها الجليلة التامة لا تتحقق إلا في مجال التطبيق العملي لهذا ، ومن المعلوم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " (الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس ـ حكم الشورى ومدى إلزامها ـ المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ـ مؤسسة آل البيت ـسلسلة الشورى في الإسلام ـ ج2 ـ ص821) .

كذلك الآية تخبر ـ على سبيل الثناء والوجوب ـ أن أمور المسلمين تتم بالمشاورة فيما بينهم ، ومن مقتضى المشاورة الحقة أن تجري أمور المسلمين وفق ما يتقرر بالإجماع أو الأكثرية " (الدكتور عبد الحميد الأنصاري ـ الشورى وأثرها في الديمقراطية ـ ط 3 ـ ص 193) .

3 ـ غزوة أحد :

حين علم المسلمون بقدوم المشركين قاصدين المدينة لحربهم كان رأي النبي صلى الله عليه وسلم هو وكبار الصحابة ألا يخرجوا من المدينة للقاء المشركين ، فإذا دخل المشركون لاقاهم في الدور والطرقات ، ولكن شباب الصحابة بما فيهم من حماس كانوا يرون الخروج إلى الكفار وكانوا أغلبية ، فنزل الرسول على رأيهم رغم أنه كان يملك رأياً آخر .

4 ـ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما " (رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن غنم) قال هذا عليه الصلاة والسلام " لأنه يعرف أنهما رأيان ضد رأي واحد رغم أن هذا الرأي الواحد هو رأي الرسول الكريم " (الدكتور يوسف القرضاوي ـ مجلة الوطن العربي ـ العدد 973 ـ الجمعة 27/10/1995م ـ ص 40) واتفاق رأيهما يعني رأي الأغلبية نسبة إلى رأي الفرد إذا خالفهما .

5 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجتمع أمتي على ضلالة " (قال العجلوني في كتاب كشف الخفاء ـ ج 2 ص 488 ـ رقم الحديث 2999 : رواه أحمد والطبراني في الكبير ، وابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي نضرة الغفاري رفعه في حديث " سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها " والطبراني وحده وابن أبي عاصم في السنة عن أبي مالك الأشعري رفعه " إن الله أجاركم من ثلاث : أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً ، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق ، وأن لا تجتمعوا على ضلالة " رواه أبو نعيم والحاكم ، وأعله اللالكائي في السنة وابن منده وروى الحاكم عن ابن عباس رفعه بلفظ " لايجمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة) .

وقال عليه الصلاة والسلام : " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة ، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم " (رواه عبد بن حميد وابن ماجه عن أنس) عن كتاب كشف الخفا ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ـ للشيخ العجلوني ـ طبعة مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ هامش ص 470 ـ الجزء الثاني) والسواد الأعظم بين جمهور العلماء وعامتهم والعدد الأكبر منهم . (الدكتور يوسف القرضاوي ـ فتاوى معاصرة ـ الجزء الثاني ـ ص 648) (أي رأي غالبيتهم) .

6 ـ اجتمع المسلمون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة في المدينة المنورة ليتشاوروا فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في إدارة شؤون المسلمين ، وقد استقر رأي الأغلبية العظمى التي تكاد تكون إجماعاً من الحضور على مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وذلك بعد أخذ ورد في الآراء حول ذلك .

7 ـ قتال المرتدين :

ارتدت بعض قبائل العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فأخذ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق قراره بقتال المرتدين بعد مشاورة وإقناع الأمة بما رآه ، ولم يباشر بقتالهم إلا من بعد موافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

8 ـ أراضي سواد العراق :

لما فتح الله تبارك وتعالى على المسلمين بلاد الشام والعراق ، اختلف الصحابة في مصير أرض سواد العراق ، فمن قائل توزع الأرض على الفاتحين ، ومن قائل تبقى الأرض في أيدي أهلها ويضرب عليها الخراج ، وينفق منه على مصالح المسلمين ... وأكثر الروايات استقصاء لجزئيات الموضوع ما ذكره أبو يوسف في كتابه الخراج : أن عمر بن الخطاب لم يستبد برأيه ـ وهو أمير المؤمنين ـ بل استشار المسلمين وفتح باب الحوار بينه وبين مخالفيه ثلاثة أيام ، وكل يدلي بحجته ويرد على مخالفه ، ولما قتل الموضوع بحثاً شرح الله صدر الأكثرية إلى ما ذهب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الصواب . (الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس ـ حكم الشورى ومدى إلزامها ـ المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ـ مؤسسة آل البيت ـ سلسلة الشورى في الإسلام ـ ج2 ص 835 ـ عمان ـ 1989م) .

9 ـ موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية الشورى بعد أن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي ، حيث عهد بأمر الخلافة إلى الستة الكبار من الصحابة الذين يمكن أن يجتمع الناس على واحد منهم تختاره أغلبيتهم من بينهم ، فقال : إذا وافق خمسة وخالف واحد فلابد أن يتنازل عن رأيه للأكثرية ، وهكذا إذا وافق أربعة ورفض اثنان ، أما إذا تساوت الأصوات ثلاثة إلى ثلاثة فيمكن أخذ رأي مرجح من غيرهم ، وهو رأي عبد الله بن عمر ، فإذا لم يقل رأيه فالثلاثة الذين منهم عبد الرحمن بن عوف يعتبر لصوتهم مزية ترجيحية ، وتلك عملية تصويتية عادلة لا مثيل لها . (انظر ابن سعد ـ الطبقات الكبرى ـ ج3 ص 61) .

10 ـ يرى الدكتور محمد ضياء الدين الريس : أن علماء الفقه يعتمدون رأي الجمهور وهو رأي الأكثرية ، وعلماء الأصول عند بحث الإجماع يعتبرون الكثرة حجة . (الدكتور محمد ضياء الدين الريس ـ النظريات السياسية الإسلامية ـ ص 323) .

11 ـ أدلة أخرى على اعتبار الأكثرية :

أ ـ في القضايا الاجتهادية مما لا نص فيه ، أو ما فيه نص يحتمل أكثر من تفسير ، أو يوجد له معارض مثله أو أقوى منه ، فلا مناص من اللجوء إلى مرجح يحسم به الخلاف ، والتصويت وسيلة لذلك عرفها البشر وارتضاها العقلاء ومنهم المسلمون ، ولم يوجد في الشرع ما يمنع منها ، بل وجد في النصوص والسوابق ما يؤيدها . (فتاوى معاصرة ـ الدكتور يوسف القرضاوي ـ الجزء الثاني 1414 هـ ـ 1993م ـ ص 649) .

ب ـ إن الاحتمال بأن الخطأ يمكن أن يكون مع الكثرة ، وقد يكون الصواب مع القلة ممكن ، وليس مستحيلاً استحالة عقلية ولا شرعية ، ولكن الذي نريد أن نقول هناأي الفريقين أقرب إلى الصواب في الغالب ، الكثرة أم القلة ؟ من المعلوم أن الرأي ثمرة التفكير وسعة الاطلاع ، وقوة العقل وخبرته في الحياة ، ورأي المجموعة من الناس هو منبثق عن مجموع قدراتهم العقلية والعلمية وسعة تجاربهم وما إليها ، فهو محصلة هذه القدرات جميعها ، فإذا رأت كثرة كاثرة رأياً في مسألة وهو محصلة قدراتها ، ورأت قلة قليلة في نفس المسألة رأياً آخر ، وهو محصلة قدراتها ... فما الحكم ؟ إن المنطق الشرعي والعقلي يجزم بأن رأي الأكثرية في الظرف الواحد أقرب إلى الصواب غالباً من رأي الأقلية في نفس المسألة ، لأن محصلة رأي الأكثرية أقوى بكثير من محصلة رأي الأقلية ، ومع هذا لا تنفي نفياً قاطعاً احتمال أن يكون رأي الأقلية أحياناً أقرب إلى الصواب ، ولكنه احتمال نادر وقليل ، وهو من الاستثناءات ، والقاعدة هي التي تطبق وليس الاستثناء . (الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس ـ حكم الشورى ومدى إلزامها ـ المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ـ مؤسسة آل البيت ـ سلسلة الشورى في الإسلام ـ ج 2 ـ ص808 ـ 809 ـ عمان ـ 1989م).