في انتظار بابا نويل

قال:(.... لو أنك لم تعطه.. لكُتبت كذبة)

زهير سالم*

[email protected]

احتفل العالم بالأمس بميلاد سيدنا عيسى عليه السلام الروح والكلمة. ودائما تلتصق ذكرى الميلاد المجيد بصورة العذراء البتول عليها السلام وقد أجاءها المخاض إلى جذع النخلة وهي تنادي: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا). أو لعلنا نسمع من بين ثنايا الذكرى تقريع قومها ( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ). أو نسمع الوليد المبارك يدافع عن نفسه (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).

ملحمة الميلاد كما يحكيها القرآن الكريم ملحمة تضج بالحياة وبالصدق وبالمُثُل. المعجزة في الخلق بطريقة غير معهودة (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ). و معاناة المرأة الطاهرة المحصنة البتول تخرج على الناس ودليل إدانة مادي على ذراعيها، تواجه به رأيا عاما صارما لا يرحم. ومعجزة الطفل الصغير المبارك الذي يُلقى عليه عار أمه فيدفع عن نفسه بكلمات كانت هي الأخرى جزء من معجزة خلقه، ثم النبي الرسول من أولي العزم يخرج إلى الناس ليتم الناموس ويهذب الطبائع، ويدافع عن روح القيم وليس عن شكلها، ويقدم في مشروع الإيمان والصدق الذي يحمله متوالية من المعجزات فيبرئ الأعمى والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وقول القرآن الكريم هنا بإذن الله يحمل دلالته البالغة على مكانة الرسول المكرم الذي كان مع كل الكرامة يأكل الطعام ويمشي في الأسواق..

في ملحمة الميلاد المعجزة يعايش المؤمن كل هذه المعاني في عملية ربط مباشرة بين المخلوق والخالق، بين الجسد والروح، بين الطقس والشكل في العبادة والنشاط وبين أسرارهما التي تربطها بعالم القدس وتخرج بها عن عالم المادة وتداعياته..

كانت واقعة الميلاد المباركة موضع حفاوة وتكريم، فنسجت حولها العقول والقلوب الكثير من الحكايات والروايات، وحفتها بالمزيد من العجائب التي جاء بعضها مستنسخا من خلفية تنكبت مشروع الروح الذي جاء المسيح عليه السلام ليعززه وينميه ويؤكد عليه، وتدير ظهرها إلى حقيقة الصدق التي لا تبنى العقائد والقيم إلا عليه..

 وارتبطت منذ القرن الرابع للميلاد قصة الأب نيقولا بقصة الميلاد، حتى تقول طغت عليها، وغطت على مفاصل العظمة والإعجاز فيها، حكاية ولدت في قلب آسيا الوسطى لراهب أمير يُقال إنه أحب الخير للناس. ومنذ ألف وستمائة عام ما زالت قصة الأب نيقولا تكبر، وما زالت تنداح في البلاد، وما زالت بما فيها من طرافة حالمة تداعب مخيلات الأطفال. ما زالت كرة الثلج الأبيض الناصع تكبر حكاية عذبة خالبة في عقول ملايين الأطفال حيث يغفو الحلم والأمل، أحلام لا يكدرها إلا  شمس الحقيقة يتقدم بها النضوج وصحوة الإنسان.

وخلال ألف وست مائة عام تقريبا تكبر الحكاية، الحكاية الصغيرة عن الأمير القديس ، لتصبح دينا وعقيدة، وليصبح الأب نيقولا أو بابا نويل، أو سانتا كلوز أو الرجل صاحب العشرات من الأسماء الجزء الأكثر حضورا وانفعالا في قصة الميلاد. ولأمر ما أعجب بعض الكبار بالقصة كما أعجب بها الصغار، ولأمر ما تركوها تمر، ثم استثمروا فيها وتركوها تكبر، ثم خلعوا عليها غرورا ثوب القداسة، وضموها فصلا من فصول الميلاد والمعجزة!!  ومع كل ليلة ميلاد يغفو ملايين الأطفال حول العالم وهم يعتقدون أن الرب الذي يحبهم ويرعاهم سيرسل لهم هديتهم الخاصة في هذه الليلة الخاصة ملفوفة بورق السلفان الأحمر يحملها البابا نويل في كيسه العامر بالهدايا والخيرات.

 في ظاهر الأمر كم هو عذب وجميل أن ينام الطفل الصغير البريء يحلم بهدية الميلاد يحملها إليه: بابا نويل عطاء غير ممنون في ليلة الفرح والبركة، ما أعذب أن ينام الطفل على أمل وحلم ويصحو ليجد الوعد ناجزا عند رأسه أو عند قدميه. ينام الطفل والحلم والأمل معلق ببابا نويل وبالرب الذي يسيره وبالكرم الذي يغدقه عليه..

مرة أخرى نتساءل ما أعذب الحلم وما أرضى؟! لو أن بابا نويل حقيقة يقرع كل الأبواب، يوزع الهدايا على عالم الطهر بالسوية، ولا يغفل عن مثل بائعة الكبريت الصغيرة التي طالما استنزفت دموعنا وهي تتدفأ على أعواد الكبريت  في ليلة الميلاد بحلتها المنيرة البيضاء، لو أنه يمر أيضا على مخيمات اللاجئين والمهجرين والمحاصرين وزنازين المعتقلين والمظلومين..

ما أعذب الحلم وما أرضى؟! لو كان للإنسان أن ينساه الزمان فيبقى الصبي والصبية في أجواء الحلم الميلادي وتحت أحضان الشجرة المزدانة يفتحان في كل عام الهدية الملفوفة بحنان الوالدين وبأزهى الألوان..

لقد كبر الصبي..!! وهاهي العقيدة التي ينبغي أن تكون الأسمى والأبقى تواجه امتحان المصداقية. يقول لك صاحب: قصة العقيدة والدين كلها هي قصة بابا نويل، كم داعب الحلمُ العذبُ الجميلُ المخيلةَ ثم أفقتُ  !!، ولا بد للإنسان أن يصحو من حلم، وأن يستجيب لتحديات الواقع، وأن يدفع عن وسادته كل مصادر ومشتقات الأحلام والأوهام.

ويكتب دانتي: (الكوميديا الإلهية ) تأمل العنوان، لتعلم كيف تحولت العقيدة الكلية بالقياس البريء إلى (حديث خرافة...)

وتتذكر بل لا بد أن تتذكر الصادق الأمين فتتساءل:

كم كان عظيما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رفض توظيف  الناس لكسوف الشمس وربطه بموت ولده إبراهيم. تصايح الناس لقد كسفت الشمس لموت إبراهيم!! فردهم صاحب الخلق العظيم إلى الحقيقة الكونية: إن الشمس والقمر آيتان لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته...

أذكره مرة أخرى..

يسمع أما تقول لطفلها تعلله تعال أعطيك، وتمد  يدها مقبوضة، قال لها محمد الصادق الأمين: وماذا تعطيه؟ قالت أعطيه تمرة. قال أما أنك لو لم تعطه شيئا لكتبت كذبة..

كذبة وأي كذبة أعظم من كذبة تكون باسم الله ودينه وأنبيائه فينطبع في الضمير النقي أن الدين كله عقيدة انتظار ننتظر كبارا ما انتظرناه صغارا من بابا نويل..

 (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ..)

كم كان عظيما في اللحظة لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل توظيف الناس لكسوف الشمس يوم موت ولده إبراهيم وتصايح الناس لقد كسفت الشمس لموت إبراهيم!! لقد ردهم صاحب الخلق العظيم إلى الحقيقة الكونية: إن الشمس والقمر آيتان لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وعلى إخوانه النبيين أجمعين طالب عظمة كان صاحب مشروع هداية..

                

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية