لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ 29
النداء التاسع والعشرون
لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ
رضوان سلمان حمدان
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾المائدة2
المعاني المفردة[1]
لاَ تُحِلُّواْ: لا تَنْتَهِكُوا. لا تستحلّوا.
شَعَآئِرَ اللّهِ: مناسِكِ الحج أوْ مَعَالمَ دينهِ. هي معالم دين الله المتركزة في "افعل" و"لا تفعل" زماناً ومكاناً، عقائد وأحكاماً.
وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ: الأشْهُرَ الأرْبَعةَ الحُرُمَ. قال ابن عباس : يعني : لا تستحلوا قتالاً فيه .
الْهَدْيَ: الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته، وهي نافة أو بقرة أو شاة.
الْقَلآئِدَ: مَا يُقَلَّدُ به الهدْيُ عَلامةً له.
آمِّينَ الْبَيْتَ: قَاصِدينَهُ وَهم الحجَّاجُ والعُمَّارُ.
يَبْتَغُونَ: يطلبون ويلتمسون.
فَضْلاً: الفضل: الإرباح في التجارة.
وَرِضْوَاناً: رضا الله عنهم، فلا يحلّ بهم من العقوبة في الدنيا ما أحلّ بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم بحجهم بيته.
وَإِذَا حَلَلْتُمْ: من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه: ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾.
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ: لاَ يحمِلنَّكمْ أو لا يكْسِبَنَّكم.
شَنَآنُ: الشَّنَآنُ: الإِبغاضُ.
أَن صَدُّوكُمْ: من أجل أن صدوكم.
الْبرِّ: هو العمل بما أمر الله بالعمل به.
في ظلال النداء[2]
وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى ﴿شعائر الله﴾ في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة
وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر. وقد نسبها السياق القرآني إلى الله تعظيماً لها، وتحذيراً من استحلالها.
والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم؛ وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم. وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء؛ فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان، أو بعض زعماء القبائل القوية! من عام إلى عام. فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها، وأقام هذه الحرمة على أمر الله، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة:
﴿إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم..﴾
وقرر أن النسيء زيادة في الكفر. واستقام الأمر فيها على أمر الله.. ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين، فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء؛ وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين، ثم يذهبون ناجين! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة.
والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته، وهي نافة أو بقرة أو شاة.. وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة. ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء؛ بل يجعلها كلها للفقراء.
والقلائد. وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على
نذرها لله؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يُشعر: أي
يعلم بعلامة الهدْي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم إحلالها بعد تقليدها؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له.. وكذلك قيل: إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا: إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد: ﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا﴾ وقوله: ﴿فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم﴾
والأظهر القول الأول؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدْي المقلد للنحر للحج أو العمرة، للمناسبة بين هذا وذاك.
كذلك حرم الله آمّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً.. وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله.. حجاجاً أو غير حجاج.. وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام.
ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام، في غير البيت الحرام، فلا صيد في البيت الحرام:
﴿وإذا حللتم فاصطادوا﴾..
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم.. منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى. وأن يروعها العدوان.. إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت؛ استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام في - ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه؛ ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام، وفي كل مكان..
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان، يدعو الله الذين آمنوا به، وتعاقدوا معه، أن يفوا بعقدهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم... دور القوامة على البشرية؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية، والعواطف الذاتية، والملابسات العارضة في الحياة.. يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية؛ وقبله كذلك؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحاً وندوباً من هذا الصد؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض. فهذا كله شيء؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر. شيء يناسب دورها العظيم:
﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله، إن الله شديد العقاب﴾..
إنها قمة في ضبط النفس؛ وفي سماحة القلب.. ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى
إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا
الأفق الكريم الوضيء.
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس.. التبعة التي لا بد أن ينسى
فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجاً من السلوك
الذي يحققه الإسلام، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام. وبهذا يؤدون للإسلام
شهادة طيبة؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه.
وهو تكليف ضخم؛ ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية، ولا يحملها فوق
طاقتها. فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب، ومن حقها أن تكره. ولكن ليس من
حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن.. ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في
البر والتقوى؛ لا في الإثم والعدوان؛ ويخوفها عقاب الله، ويأمرها بتقواه،
لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط، وعلى التسامي والتسامح، تقوى لله،
وطلباً لرضاه.
ولقد استطاعت التربية الإسلامية، بالمنهج الرباني، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية، والاعتياد لهذا السلوك الكريم.. وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه.. كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور: " أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ".. كانت حمية الجاهلية، ونعرة العصبية. كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى؛ وكان الحلف على النصرة، في الباطل قبل الحق. وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق. وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله.. يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ".. وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى، وهو يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد!
ثم جاء الإسلام.. جاء المنهج الرباني للتربية.. جاء ليقول للذين آمنوا:
﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله، إن الله شديد العقاب﴾..
جاء ليربط القلوب بالله؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله. جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية، ونعرة العصبية، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء..
وولد " الإنسان " من جديد في الجزيرة العربية.. ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله.. وكان هذا هو المولد الجديد للعرب؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض.. ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ".
كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء!
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية، وأفق الإسلام؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ". وقول الله العظيم: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾.
وشتان شتان!
هداية وتدبر[3]
1. رُوِيَ أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الحُدَيْبِيةِ مَعَ أصْحَابِهِ، وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَى المُسْلِمِينَ صَدُّ المُشْرِكِينَ لَهُمْ عَنْ بُلوغِ البَيْتِ، فَمَرَّ بِهِمْ أنَاسٌ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أهْلِ المَشْرِقِ، يُرِيدُونَ العُمْرَةَ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ نَصُدُّ هؤُلاءِ كَمَا صَدَّنَا أصْحَابُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ.
2. وجوب احترام شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه، وتركاً لما وجب تركه.
3. حرمة الاعتداء مطلقاً على الكافر.
4. وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين، ورحمة تعاونهم على المساس به.
5. في صحيح البخاري: عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات: ذو القَعْدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان".
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، كما هو مذهب طائفة من السلف.
[1] . تفسير الطبري. النحاس. الفراء. في ظلال القرآن. تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي. توفيق الرحمن.
[2] . في ظلال القرآن.
[3] . لباب النقول في أسباب النزول. تفسير القرآن العظيم. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير.