العلماء العاملون؟ هذا شأنهم
يحيى بشير حاج يحيى
ذكر الإمام ابن الجوزي في كتابه " صفة الصفوة " ، أن هارون الرشيد قدم الرقة ، فانجفل الناس خلف " عبدالله بن المبارك " وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة .. وأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج من قصر الخشب ، فلما رأت الناس ، قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبدالله بن المبارك . قالت : هذا ـ والله ـ المُلك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان !!
فماذا كان شأن عبدالله بن المبارك حتى نال هذه المنزلة ؟ وهل كان ابن المبارك حريصاً على ازدحام الناس من حوله ؟
يقول أحد مرافقيه : كنت مع ابن المبارك يوماً فأتينا على سقاية ، والناس يشربون منها ، فدنا منها ليشرب ، ولم يعرفه الناس فزحموه ودفعوه ... فلما خرج قال لي : ما العيش إلا هكذا . يعني حيث لم نعرف ، ولم نُوقّر .
قال : وبينا هو بالكوفة يُقرأ عليه كتاب المناسك ، انتهى إلى حديث وفيه : " قال عبدالله ، وبه نأخذ " . فقال : من كتب هذا من قولي ؟ قلت : الكاتب الذي كتبه . فلم يزل يحكه بيده حتى درس . ثم قال : ومن أنا حتى يُكتب قولي .؟!
إن ابن المبارك لم يكن يطلب الدنيا ، ولكن الدنيا كانت تطلبه ، ولم يكن يبحث عن الشهرة ، ولكن الشهرة كانت تجري وراءه .. لم يعش بدينه ، ولم يأكل الدنيا به ، ولكنه عاش لدينه ، وقد سئل مرة : من السّفلة ؟ فقال : الذين يعيشون بدينهم .
كان يعطي للناس ، فيطمع الناس بماله ، ولم يكن يأخذ منهم ، ولم يطمع بما في أيديهم ، وقد بلغ ما كان ينفقه على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم !
وأما علمه وحرصه على العلم فقد بلغ به الدرجات العلى . ولا يعرف الفضل لأهله إلا ذووه . وقد قال سفيان الثوري لرجل سأله عن مسـألة : من أين أنت ؟ قال الرجل : من المشرق . قال سفيان : أو ليس عندكم أعلم أهل المشرق ؟! " يعني ابن المبارك " ثم قال : وأعلم أهل المغرب .
وأما جهاده فقد كان يحج عاماً ، ويغزو عاماً ... وفي إحدى المعارك مع الروم خرج بطل منهم يصول ويجول ، ويجندل الفرسان .. فخرج إليه رجل ملثم تصاول معه طويلاً ، ثم أرداه قتيلاً .. فلحق به المسلمون ليعرفوه ، وكان حريصاً أن لا يُعرف ، فإذا هو عبدالله بن المبارك .. الذي اجتمع له العلم والإنفاق والجهاد في سبيل الله ، مع حرص شديد على البعد من الشهرة والسمعة بين الناس .. وهذا شأن العاملين .