الأخلاق بلا تدين
المتدينون ... هل هم فعلا متدينون.؟؟؟
علاء الأسواني
الشروق على مدى سنوات، عملت طبيبا للأسنان فى هيئة حكومية كبرى تضم آلاف العاملين. وفىاليوم الأول بينما كنت أعالج أحد المرضى، انفتح باب العيادة وظهر شخص، قدم نفسهباسم الدكتور حسين الصيدلى، ثم دعانى لأداء صلاة الظهر جماعة، فاعتذرت حتىأنتهى من عملى ثم أؤدى الصلاة.... ودخلنا فى مناقشة كادت تتحول إلى مشادة، لأنهأصر على أن أترك المريض لألحق بالصلاة، وأصررت على استئناف العمل. اكتشفت بعد ذلك أن أفكار الدكتور حسين شائعة بين كل العاملين فى الهيئة. كانتحالة التدين على أشدها بينهم. العاملات كلهن محجبات، وقبل أذان الظهر بنصف ساعةعلى الأقل ينقطع العاملون جميعا تماما عن العمل، ويشرعون فى الوضوء وفرش الحصيرفى الطرقات، استعدادا لأداء صلاة الجماعة. بالإضافة طبعا إلى اشتراكهم فى رحلاتالحج والعمرة التى تنظمها الهيئة سنويا. كل هذا لم أكن لأعترض عليه، فما أجمل أن يكون الإنسان متدينا، على أننى سرعانما اكتشفت أن كثيرا من العاملين بالرغم من التزامهم الصارم بأداء الفرائض،يرتكبون انحرافات جسيمة كثيرة بدءا من إساءة معاملة الناس والكذب والنفاق وظلمالمرؤوسين وحتى الرشوة ونهب المال العام. بل إن الدكتور حسين الصيدلى الذى ألحفى دعوتى للصلاة، تبين فيما بعد أنه يتلاعب فى الفواتير ويبيع أدوية لحسابه..إن ما حدث فى تلك الهيئة يحدث الآن فى مصر كلها... مظاهر التدين تنتشر فى كلمكان، لدرجة جعلت معهد جالوب الأمريكى، فى دراسة حديثة له، يعتبر المصريين أكثرالشعوب تدينا على وجه الأرض.. وفى نفس الوقت، فإن مصر تحتل مركزا متقدما فىالفساد والرشوة والتحرش الجنسى والغش والنصب والتزوير.. لابد هنا أن نسأل: كيف يمكن أن نكون الأكثر تدينا والأكثر انحرافا فى نفسالوقت..؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟. فى عام 1664، كتب الكاتب الفرنسى الكبير موليير مسرحيةاسمها تارتوف، رسم فيها شخصية رجل دين فاسد يسمى تارتوف، يسعى إلى إشباع شهواتهالخسيسة وهو يتظاهر بالتقوى.. وقد ثارت الكنيسة الكاثوليكية آنذاك بشدة ضدموليير ومنعت المسرحية من العرض خمسة أعوام كاملة.. وبرغم المنع، فقد تحولتتارتوف إلى واحدة من كلاسيكيات المسرح، حتى صارت كلمة تارتوف فى اللغتينالإنجليزية والفرنسية، تستعمل للإشارة إلى رجل الدين المنافق. والسؤال هنا: هلتحول ملايين المصريين إلى نماذج من تارتوف.؟. أعتقد أن المشكلة فى مصر أعمق من ذلك.. فالمصريون متدينون فعلا عن إيمانصادق.. لكن كثيرا منهم يمارسون انحرافات بغير أن يؤلمهم ضميرهم الدينى. لا يجبالتعميم بالطبع، ففى مصر متدينون كثيرون يراقبون ضمائرهم فى كل مايفعلونه:القضاة العظام الذين يخوضون معركة استقلال القضاء دفاعا عن كرامةالمصريين وحريتهم، والمستشارة نهى الزينى التى فضحت تزوير الحكومة للانتخابات،والمهندس يحيى حسين الذى خاض معركة ضارية ليحمى المال العام من النهب فى صفقةعمر أفندى.وغيرهم كثيرون. كل هؤلاء متدينون بالمعنى الصحيح.. ولكن بالمقابل، فإن مئات الشبان الذين يتحرشون بالسيدات فى الشوارع صباح يومالعيد، قد صاموا وصلوا فى رمضان.. ضباط الشرطة الذين يعذبون الأبرياء، الأطباءوالممرضات الذين يسيئون معاملة المرضى الفقراء فى المستشفيات العامة، والموظفونالذين يزورون بأيديهم نتائج الانتخابات لصالح الحكومة، والطلبة الذين يمارسونالغش الجماعى، معظم هؤلاء متدينون وحريصون على أداء الفرائض.... إن المجتمعاتتمرض كما يمرض الإنسان. ومجتمعنا يعانى الآن من انفصال العقيدة عن السلوك.. انفصال التدين عن الأخلاق..وهذا المرض له أسباب متعددة: أولها النظام الاستبدادى الذى يؤدى بالضرورة إلىشيوع الكذب والغش والنفاق وثانيا إن قراءة الدين المنتشرة الآن فى مصر إجرائيةأكثر منها سلوكية. بمعنى أنها لا تقدم الدين باعتباره مرادفا للأخلاق وإنماتختصره فى مجموعة إجراءات إذا ما أتمها الإنسان صار متدينا. سيقول البعض إنالشكل والعبادات أركان مهمة فى الدين تماما مثل الأخلاق.. الحق أن الأديانجميعا قد وجدت أساسا للدفاع عن القيم الإنسانية: الحق والعدل والحرية.. وكل ماعدا ذلك أقل أهمية...المحزن أن التراث الإسلامى حافل بما يؤكد أن الأخلاق أهمعناصر الدين. لكننا لا نفهم ذلك أو لا نريد أن نفهمه. هناك قصة شهيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قابل رجلا ناسكا منقطعاللعبادة ليل نهار.. فسأله: ـ من ينفق عليك.؟. قال الرجل: ـ أخى يعمل وينفق علىّ... عندئذ قال صلى الله عليه وسلم: أخوك أعبد منك... والمعنى هنا قاطع وعظيم.. فالذى يعمل وينفق على أهله أفضل عند الله من الناسكالمنقطع للعبادة لكنه لا يعمل. إن الفهم القاصر للدين سبب رئيسى فى تردىالأوضاع فى مصر. على مدى عشرين عاما، امتلأت شوارع مصر ومساجدها بملايينالملصقات تدعو المسلمات إلى الحجاب.. لو أننا تخيلنا أن هذه الملصقات كانتتدعو، بالإضافة للحجاب، إلى رفض الظلم الواقع على المصريين من الحاكم أو الدفاععن حقوق المعتقلين أو منع تزوير الانتخابات..لو حدث ذلك لكانت الديمقراطيةتحققت فى مصر ولانتزع المصريون حقوقهم من الاستبداد.. إن الفضيلة تتحققبطريقتين لا ثالث لهما: إما تدين حقيقى مرادف تماما للأخلاق. وإما عن طريقالأخلاق وحدها حتى ولو لم تستند إلى الدين.... منذ أعوام مرضت والدتى رحمهاالله بالسرطان..فاستدعينا لعلاجها واحدا من أهم أطباء الأورام فى العالم،الدكتور جارسيا جيرالت من معهد كورى فى باريس.. جاء هذا العالم الكبير إلى مصرعدة مرات لعلاج والدتى ثم رفض بشدة أن يتقاضى أى أتعاب ولما ألححت عليه قال: ـ إن ضميرى المهنى لا يسمح بأن أتقاضى أتعابا مقابل علاج والدة طبيب زميلى. هذا الرجل لم يكن يعتقد كثيرا فى الأديان، لكن تصرفه النبيل الشريف يضعه فىأعلى درجة من التدين الحقيقى.. وأتساءل: كم واحد من كبار أطبائنا المتدينيناليوم سيرد على ذهنه أصلا أن يمتنع عن تقاضى أجره من زميل له..؟. مثال آخر، فىعام 2007.. بغرض تجميل وجه النظام الليبى أمام العالم.. تم تنظيم جائزة أدبيةعالمية سنوية، بقيمة حوالى مليون جنيه مصرى، باسم جائزة القذافى لحقوقالإنسان.. وتم تشكيل لجنة من مثقفين عرب كبار لاختيار كل عام كاتبا عالميالمنحه الجائزة.. هذا العام قررت اللجنة منح الجائزة للكاتب الإسبانى الكبيرخوان جويتيسولو البالغ من العمر 78 عاما.. ثم كانت المفاجأة: فقد أرسل جويتيسولو خطابا إلى أعضاء اللجنة يشكرهم فيه علىاختياره للفوز بالجائزة، لكنه أكد فى نفس الوقت أنه لا يستطيع، أخلاقيا، أنيتسلم جائزة لحقوق الإنسان من نظام القذافى الذى استولى على الحكم فى بلادهبانقلاب عسكرى ونكل، اعتقالا وتعذيبا، بالآلاف من معارضيه.. رفض الكاتبجويتيسولو جائزة بحوالى مليون جنيه مصرى، لأنها لا تتفق مع ضميره الأخلاقى.. هلنسأل هنا: كم مثقف أو حتى عالم دين فى مصر كان سيرفض الجائزة..؟ ومن هو الأقربإلى ربنا سبحانه وتعالى..؟!.. هذا الكاتب الشريف الذى أثق فى أن الدين لم يخطرعلى باله وهو يتخذ موقفه الشجاع النبيل، أم عشرات المتدينين المصريين، مسلمينومسيحيين، الذين يتعاملون مع الأنظمة الاستبدادية ويضعون أنفسهم فى خدمتهامتجاهلين تماما الجرائم التى ترتكبها تلك الأنظمة فى حق شعوبها. إن التدينالحقيقى يجب أن يتطابق مع الأخلاق.. وإلا.. فإن الأخلاق بلا تدين أفضل بكثير منالتدين بلا أخلاق.