دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية 8

دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية:

الحركة والشخصيات

(8)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

(ليست هذه الكلمات تاريخًا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والشطط، والمغالاة).

كان في شعبة المنزلة منهجان في التصدي للمنكر:

الأول: منهج الأستاذ محمد قاسم صقر قائد الجوالة، وهو الرجل الثاني بعد رئيس المنطقة الأستاذ عبد الرحمن جبر، وهو  يرى أن المنكر ـ وخصوصًا إذا لم يكن ضاريًّا ـ يجب أن يعالج في هدوء وحكمة، واتزان. وقد حقق نجاحًا في كثير من الأحيان.

والثاني: منهج القوة والحسم، وهو منهج الأخ طبيب بيطري عبده حمزة فراج مسئول الطب البيطري في مركز المنزلة.

وكان ذا بسطة في الجسم، وقوة خارقة، فهو يرى أن الشر يجب أن يضرب ابتداءً بقوة، وحسم، وخصوصًا إذا كان أصحابه ممن أخذتهم العزة بالإثم، فإقناعهم صعب جدًّا، أو مستحيل.

فبالقوة استطاع أن يؤدب "أبو فَرْقلّة" في مولد القعقاع بن عمرو التميمي، وأشهر من ذلك يتلخص في الواقعة الآتية:

ـ الجمالية قرية كبيرة تابعة لمركز المنزلة على بعد خمسة أميال، وسوقها الأسبوعية كان يوم الثلاثاء، وأشهر جزار فيها اسمه "محمد الجزار" (فالجزار لقب الأسرة كذلك) وكان يلقب كذلك بـ "فتوة الجمالية" , وقد رأيته مرة واحدة، وكأني أنظر إليه الساعة: "آدمي ضخم الرأس" يلتقي رأسه بجسده بعنق قصير غليظ، وهو عريض المنكبين، متوسط القامة "مدكوك" الجسد كأنه خلق من "كاوتشوك" شديد.

ذهب الأخ طبيب بيطري عبده حمزة إلى الجمالية يوم سوقها "للتفتيش" وفحص اللحم المعروض على دكاكين الجزارين،وكان نهاية مطافه "دكان محمد الجزار"،واكتشف الدكتور عبده أن اللحم المعروض غير صالح للاستعمال البشري، فأمر رجاله بمصادرة اللحم، واتخاذ الإجراءات القانونية ضد محمد الجزار، الذي هب يصرخ في استهانة: سيب اللحمة مكانها، وإلا حخلي أهلك يخدوا عزاك.  ورفع الساطور مهددًا.وتحول أخونا الطبيب إلى أسد كاسر، وأخذ يضرب الجزار ضربًا متلاحقًا، وكلما سقط الجزار على الأرض أنهضه الدكتور عبده إلى أن صار "دمه حميمه" ووجهه شوارع، ( كما قال أحد المشاهدين) . ولم يكتف بهذا بل حمله على يديه ورفعه إلى أعلى كالذي يحمل "طاولة عيش" وسار به في الشارع الرئيسي بالجمالية، والناس لا يصدقون عيونهم. وبذلك قضى على أسطورة الجزار، وبعدها استقام ولم يعد إلى الغش.

وقد يسألني القارئ أي المنهجين أصح؟ وأنا أقول: إن الموازنة المطلقة غالطة. فلكل واقعة ظروفها وملابساتها، والمهم اختيار أنسب التصرفات تجاهها.

***

هذا عن التصدي للمنكر.

أما النشاط الاجتماعي لإخوان المنزلة فإن التاريخ يحفظه بكل فخر. واستعرض في السطور الآتية صورًا من هذا النشاط:

في سنة 1947م أصيبت مصر بكارثة تتمثل في مرض "الكوليرا" وسرت عدوى هذه الآفة إلى كل بلد في مصر،وفتكت بالآلاف.

ويقال إن الكوليرا انطلقت من قرية "القرين" بمديرية الشرقية عن طريق "البلح" , وأن الإنجليز الذين كانوا يسيطرون على هذه المناطق، ولهم معسكرات فيها قاموا بتلقيح البلح بجرثومة الكوليرا حتى تشغل مصر عن قضية فلسطين، وعن مقاومة الاستعمار الإنجليزي في مصر.

وكان لنا ـ نحن الإخوان وخصوصًا قسم الطلاب ـ جهود تمثلت فيما يأتي:

1ـ توعية أهل المنزلة بخطورة هذه الآفة، والحرص على النظافة، واستخدام المطهرات.. وقد رأيت بعض البقالين ـ من شدة الحذر ـ يضعون في مقدمة محلاتهم أواني فيها مواد مطهرة، ويطلبون من الزبائن، وضع العملة الفضية ـ ثمن ما يشترون ـ في هذه الأواني ـ لتطهر من العدوى المحتملة، وَقّل الاختلاط، والمصافحة بالأيدي من شدة الحذر.

2ـ توزعنا مجموعات على مداخل المنزلة كل يوم أحد: وهو يوم سوق المنزلة، إذ يقصد الفلاحون من القرى المجاورة لبيع بضاعتهم في سوق البلد، فكنا نعدم ما يحملون من بلح؛ لأنه كان مظنة حمل العدوى، ونقلها.

3ـ اتخذ المسئولون شعبة الإخوان مركزًا لتطعيم الناس بالمصل الواقي من الكوليرا، وقد استغرقت هذه العملية أكثر من أسبوع.

***

ومن الأنشطة الرياضية:

1ـ قيامنا بعقد مباريات في كرة القدم مع الشعب الأخرى، مثل شعبة المطرية، وشعبة الدراكسة، وشعبة منية النصر، وقد أشرت إلى ذلك في حلقات سابقة.

2ـ كان في شعبة المنزلة أقوى فريق في الدقهلية لرفع الأثقال كان على رأسه الأخ طه أبو موسى (بطل عملية القُلة).

الرحلات والمعسكرات:

كانت من أهم الأنشطة الرياضية، والتربوبية والدعوية وقد أشرت من قبل إلى رحلة استغرقت يومًا واحدًا إلى المنصورة سيرًا على الأقدام. أما أهم الرحلات فكانت إلى "الدهرة" وهي شبه جزيرة بين بحيرة المنزلة، والبحر الأبيض المتوسط، بعرض قرابة ميل.

وبها قرية بيوتها كلها تقع على البحيرة، وسكانها جميعًا من الصيادين، وكنا نقيم معسكرًا تربويًّا كل عام لمدة عشرة أيام، ولا نحمل من المنزلة إلا الخبز، والأرز، والجبن. أما السمك فكان هو الضيف الدائم في كل وجبة، ونحصل عليه بإحدى الطريقتين الآتيتين أو هما معًا:

الطريقة الأولى: الصيد الذاتي "بالعس" إذ ينزل جماعة منا إلى البحيرة بعد صلاة الفجر إلى عمق لا يتجاوز مترًا، وعلى ظهر كل واحد مقطف صغير، ثم نقوم "بعس السمك" الذي يرقد في جحوره أي مد الأيدي إلى قاع الجحر، والإمساك بالسمك الذي كان غالبًا من البلطي ووضعه في المقطف، وبالممارسة تعلمنا أن الجحر إذا كان دافئًا يكون في عمقه سمك، وإلا فهو جحر خال. كما كنا نتفادى الإمساك "بالكابوريا"؛ لأن سلاحها هو العض الذي قد يدمي أصابعنا.

ونغادر البحيرة، ونجمع حصيلة صيدنا، ونكلف بيتًا من بيوت القرية للقيام بعملية الشي.

الطريقة الثانية: الحصول على السمك بالشراء: إذ كان يحلو لنا أحيانًا أن نتجه بعد صلاة الفجر إلى شاطئ البحر الأبيض لنرى الصيادين مجموعات، كل مجموعة أو (مآية) كما يطلقون عليها من عشرين صيادًا , يقومون بمد الغزل على هيئة نصف دائرة مفتوحة ناحية الشاطئ، وكل صياد يمسك بجزء من الغزل يضمه إلى ما أمسك به بقية إخوانه، ويضيق نصف الحلقة شيئًا فشيئًاأصا

 إلى أن يتجمع الغزل كله بعضه إلى بعضه الآخر جامعًا ما حجزه من السمك..(مع ملاحظة أن الصيادين يمسكون الغزل من أعلاه , اما أسافله فتنتهي بقطع من الرصاص تجعل الغزل – بثقلها – مدلى إلى ماء البحر دائما . )

وتتجدد العملية عدة مرات إلى أن تجمع كل "مآية" حصيلة مرضية.. يشتريها تجار بورسعيد الواقفون بسيارات الجيب.

ونقوم نحن بشراء بعض ما يصيدون. وبناء على ما شاهدت أطرح الملاحظات الآتية:

1ـ كان أغلب الصيد من سمك البوري، وكان الصيادون لا يجمعون إلا السمك "العِفِر" أي الكبير، أما المسك "الدِّوِر" أي الصغير، فيعيدونه للبحر مرة أخرى.

2ـ كان أعدى أعداء الغزل "أبو جلامبو" أي الكابوريا، إذ أنه يمزق خيوط الغزل بأسنانه الحادة. كما أنه مغرم بنهش سمك البوري من موضع التقاء الرأس بالبطن.

3ـ بعد أن يبيع الصيادون حصيلة صيدهم للتجار المنتظرين يعودون إلى قريتهم الواقعة مباشرة على بحيرة المنزلة، وينشرون غزلهم، ويصلون ما انقطع من خيوطه استعدادًا ليوم جديد.

ونعود نحن إلى معسكرنا بما اشتريناه منهم ليشوى في أحد بيوت القرية.

وما زال للحديث بقية.