استثمار الطاقات و تكامل الأدوار

لبنى شرف / الأردن

[email protected]

دار يوماً نقاش بيني و بين إحدى الأخوات حول أهمية استخراج كل فردٍ مكنون الطاقة و الموهبة التي لديه لينفع بها أمته ، و لكننا اختلفنا في الأسلوب و المنهج الذي على الفرد أن ينهجه ليفيد أمته بما لديه من طاقات . فكان رأيها أن على كل فرد أن يُخرج طاقته و يستثمرها دون أن ينتظر مساعدة من أحد ، و كذلك كان رأي أختٍ أخرى في حديث آخر ؛ أن على المرء أن يستغني عن الناس قدر المستطاع .

أيها الإخوة ، أنا أرى أن التفكير بهذه الطريقة سيزيد من الفرقة بين أفراد الأمة ، لأن كلاً سيعمل على حداً ، و الأصل في الأمة المسلمة أن تكون مجتمعة و متآلفة و متعاونة و متعاضدة ، يرفد بعضها بعضاً ، و يساعد بعضها بعضاً ، فطالما أن المواهب و الاستعدادات و الإمكانات متفاوتة بين الأفراد ، إذاً فلابد من أن يحتاج كلُّ إلى الآخر ، و هذه سنة الله في خلقه ، فالله سبحانه و تعالى يقول : ﴿ .. و رفعنا بعضُهُمْ فوق بعضٍ درجٰتٍ لِّيتَّخِذَ بعضُهُم بعضاً سُخْرِيّاً .. ﴾ ..{ الزخرف : 32 } . فهذا آتاه الله علماً أو عقلاً راجحاً ، و ذاك مالاً ، و ذاك قوة في البدن ... ، و لولا هذا لما استقامت الحياة على سطح الأرض ! . يقول سيد قطب  يرحمه الله  : (( و طبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد و التفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فردٍ من عمل ؛ و التفاوت في مدى إتقان هذا العمل . و هذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض )) .

ثم إن الاستغناء المطلق عن الناس أمر مستحيل ، و هذا لا يحتاج إلى دليل كما أرى ، إنما الاستغناء المطلوب و الذي حث النبي الكريم  عليه و آله الصلاة و السلام  عليه أصحابه  رضي الله عنهم  ، هو الاستغناء في الأمور الشخصية و الفردية و التي بمقدور المرء فعلها دون مساعدة من أحد ، و في الأمور التي تحتاج إلى سعيٍ و حركة و التي أيضاً تكون ضمن وسع المرء و طاقته ، إن كان في كسب الرزق أو غير ذلك من أمور الحياة و حاجات المرء فيها ، فطلب العون في مثل هذه الأمور لا يكون إلا من باب الكسل و التواكل على الغير ، أو الرضا بالمرتبة الدنيا و اليد السفلى التي تأخذ و تستجدي الناس . قال عليه و آله الصلاة و السلام لمولاه ثوبان : " لا تسأل الناس شيئاً . قال : فكان ثوبان يقع سوطه و هو راكب ، فلا يقول لأحد : ناولنيه ؛ حتى ينزل فيأخذه " .. [ صحيح ، الألباني  صحيح الترغيب : 813 ] .

و لكن الأمر مختلف بالنسبة لقضايا الأمة ، فاستغناء المرء هنا عن إخوانه ، و الاكتفاء بالعمل الفردي أمر مرفوض ، لأن العمل للنهوض بالأمة يحتاج إلى تكاتف الجهود و تكامل المواهب و الطاقات و الاستعدادات و الإمكانات ، حتى تتكامل الأدوار و تُستثمر الطاقات بفعّالية أكبر و بوقت و جهد أقل .

أريد أن أضرب مثالاً لما أقول حتى تتضح الصورة أكثر ؛ الآن ، لو أن زيداً من الناس كانت طاقته في عقله ، و كانت موهبته في قدرته على إعطاء أفكار متميزة جدّاً و رائعة ، و لديه أيضاً القدرة على التخطيط ، و لكنه في المقابل يفتقر إلى مهارات استخدام الحاسوب ، و كذلك لا يمتلك المال اللازم لتطبيق هذه الأفكار ، فحتى لا يبقى طاقة معطلة ، فمن الضروري بل من الحكمة أن نجمعه مع أصحاب الطاقات و المواهب المُكَملة لطاقته و اللازمة لتطبيق ما لديه من أفكار  إن كانت تنفع الأمة طبعاً  ، و ليس من المنطق أن نُلزمه مثلاً بجمع المال ، أو بأخذ دورات ليجيد استخدام الحاسوب طالما أنه لا يحب استخدامه ، لأن هذا  في رأيي  مضيعة للوقت و الجهد ، و تجاهل للطاقات الأخرى التي ربما يبحث أصحابها عمن يساعدهم في استثمارها الاستثمار الأمثل .

بهذه الطريقة يمكن أن تجتمع و تتكامل الطاقات و الإمكانات و تتوزع الأدوار ، و ما من إنسان إلا و لديه موهبة و طاقة و دور يقوم به ، مهما صغر هذا الدور أو كبر ؛ فهذا بالأفكار ، و هذا بالتخطيط ، و هذا بالمال ، و ذاك بمركبته ، و ذاك بنشاطه الحركي و البدني ، و آخر بنشاطه الاجتماعي و علاقاته الواسعة ... ، هذا في العمل الواحد ، فكيف بها إذا تجمعت و تكاملت في القطر الواحد ، بل في العالم الإسلامي أجمع ؛ بين المراكز الدعوية ، و المراكز الخيرية و الاجتماعية و المشاريع الصناعية و النهضوية التي يلتزم أصحابها بأحكام الشريعة الإسلامية ؟! ، بل و حتى بين الجماعات التي تلتزم بالكتاب و السنة ، فالأصل أن تتوحد جهودها طالما أنهم متفقون في الأصول و اختلافهم في القضايا الاجتهادية ، فهذا لا يهدم للود قضية ، فتقوية و تمتين الصلة و حبال الود بين هذه الجماعات أفضل للنهوض بالأمة ! .

أيها الإخوة ، أمتنا اليوم بحاجة إلى كل طاقة و كل جهد و كل إمكانية مادية كانت أم معنوية عند كل فرد فيها ، بحاجة إلى استثمار هذا كله أحسن استثمار ، و استغلاله أفضل استغلال ، فهناك طاقات كثيرة معطلة ، و جهود مبعثرة ، و إمكانات غير مستغلة ، و لو وُظِّف هذا كله بطريقة صحيحة و مدروسة في نهضة أمتنا لأصبح الحال غير الحال !! .

اللهم اجعل قلوبنا مُجتمعة على محبتك ، و مُتآخية على طاعتك ، و مُتوحدة على دعوتك و نصرة شريعتك ... اللهم آمين ، و الحمد لله رب العالمين .