لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ-39
لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ
39
رضوان سلمان حمدان
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾المائدة94
المعاني المفردة([1])
لَيَبْلُوَنَّكُمُ: قال الزجاج اللام في ليبلونكم لام القسم ومعناه لنختبرن طاعتكم من معصيتكم.
الصَّيْدِ: مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُصْطَادُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا وَمِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ الْوَحْشِيَّةِ لِتُؤْكَلَ، وَقِيلَ مُطْلَقًا فَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ الْمَأْكُولِ لَحْمَهُ إِلَّا مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ.
تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ: صغار الصيد وفراخه.
وَرِمَاحُكُمْ: كبار الصيد تؤخذ بالرمح.
لِيَعْلَمَ اللّهُ: يظهر علمه.
فَمَنِ اعْتَدَى: من صاد بعد التحريم. فمن تجاوز حدود اللّه بعد هذا البيان الشافي في الصيد.
الإعراب([2])
"لَيَبْلُوَنَّكُمُ" اللام واقعة في جواب القسم المحذوف. يبلون فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والكاف ضمير متصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. "اللّهُ" لفظ الجلالة فاعل. "بِشَيْءٍ" متعلقان بالفعل قبلهما. "مِّنَ الصَّيْدِ" متعلقان بمحذوف صفة شيء. وجملة "لَيَبْلُوَنَّكُمُ" لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم. "تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ" فعل مضارع والهاء مفعوله وأيديكم فاعله مرفوع بالضمة المقدرة على الياء. والكاف في محل جر بالإضافة. "وَرِمَاحُكُمْ" معطوف. "لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن" يعلم مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل. اللّهُ: لفظ الجلالة فاعله واسم الموصول من مفعوله والمصدر المؤول من أن والفعل بعدها في محل جر باللام. "يَخَافُهُ": فعل مضارع والهاء مفعوله. "بِالْغَيْبِ": متعلقان بمحذوف حال أي يخافه حالة كونه غائبا والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. "فَمَنِ اعْتَدَى" الفاء استئنافية. من اسم شرط مبتدأ. اعتدى فعل ماض متعلق به الظرف بعده. "ذَلِكَ" اسم إشارة في محل جر بالإضافة. "فَلَهُ" الفاء رابطة لجواب الشرط. له متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ عذاب. "أَلِيمٌ" صفة والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط. وجملة اعتدى خبر المبتدأ وجملة فمن اعتدى ، استئنافية لا محل لها.
في ظلال النداء([3])
تبدأ هذه الفقرة كما تبدأ كل فقرات هذا القطاع بالنداء المألوف : ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ . . ثم يخبرهم أنهم مقدمون على امتحان من الله وابتلاء؛ في أمر الصيد الذي نُهوا عنه وهم محرمون :
إنه صيد سهل، يسوقه الله إليهم. صيد تناله أيديهم من قريب، وتناله رماحهم بلا مشقة. ولقد حكي أن الله ساق لهم هذا الصيد حتى لكان يطوف بخيامهم ومنازلهم من قريب! . . إنه الإغراء الذي يكون فيه الابتلاء . . إنه ذات الإغراء الذي عجزت بنو إسرائيل من قبل عن الصمود له، حين ألحوا على نبيهم موسى - عليه السلام - أن يجعل الله لهم يوماً للراحة والصلاة لا يشتغلون فيه بشيء من شئون المعاش. فجعل لهم السبت. ثم ساق إليهم صيد البحر يجيئهم قاصداً الشاطئ متعرضاً لأنظارهم في يوم السبت. فإذا لم يكن السبت اختفى، شأن السمك في الماء. فلم يطيقوا الوفاء بعهودهم مع الله؛ وراحوا - في جبلة اليهود المعروفة - يحتالون على الله فيحوّطون على السمك يوم السبت ولا يصيدونه؛ حتى إذا كان الصباح التالي عادوا فأمسكوه من التحويطة! وذلك الذي وجه الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن يواجههم ويفضحهم به في قوله تعالى: ﴿واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم. كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون﴾ هذا الابتلاء بعينه ابتلى به الله الأمة المسلمة، فنجحت حيث أخفقت يهود . . وكان هذا مصداق قول الله سبحانه في هذه الأمة: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم. منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون﴾ ولقد نجحت هذه الأمة في مواطن كثيرة حيث أخفق بنو إسرائيل. ومن ثم نزع الله الخلافة في الأرض من بني إسرائيل وائتمن عليها هذه الأمة. ومكن لها في الأرض ما لم يمكن لأمة قبلها. إذ أن منهج الله لم يتمثل تمثلاً كاملاً في نظام واقعي يحكم الحياة كلها كما تمثل في خلافة الأمة المسلمة . . ذلك يوم أن كانت مسلمة . يوم أن كانت تعلم أن الإسلام هو أن يتمثل دين الله وشريعته في حياة البشر . وتعلم أنها هي المؤتمنة على هذه الأمانة الضخم ؛ وأنها
هي الوصية على البشرية لتقيم فيها منهج الله ، وتقوم عليه بأمانة الله .
هداية وتدبر([4])
1. الابتلاء والاختبار سنة الله في تمحيص عباده ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾العنكبوت2. فيبتلي الله من شاء بما شاء سبحانه. والمراد من الابتلاء في مثل هذا المقام أن يعامل العباد معاملة المبتلي المختبر، ليتعرف حالهم وهل يثبتون على المحن والشدائد أو لا يثبتون.
2. يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ليختبرنكم الله ببعض الصيد فـي حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجكم. لأنه لـم يبلهم بصيد البحر وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، إما باليد، كالبيض والفراخ وإما بإصابة النبل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به والمنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه، من الذي يخاف الله، فيتقي ما نهاه عنه ويجتنبه خوف عقابه بالغيب، بمعنى: في الدنيا بحيث لا يراه. فمن تجاوز حدّ الله الذي حدّه له بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فـاستحلّ ما حرم الله علـيه منه بأخذه وقتله فَلَهُ عَذَابٌ من الله مؤلـم موجع.
3. ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًا وجهرًا كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[الملك:12]. وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم.
4. تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر فإنّه مباح له.
5. في ﴿مِّنَ﴾ قولان: أحدهما أنها للتبعيض، ثم فيه قولان: أحدهما أنه عنى صيد البر دون صيد البحر، والثاني أنه عنى الصيد ما داموا في الإحرام، كأن ذلك بعض الصيد. والثاني أنها لبيان الجنس كقوله ﴿َاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ الحج 30.
6. في قوله وأنتم حرم ثلاثة أقوال: أحدها وأنتم محرمون بحج أو عمرة قاله الأكثرون. والثاني وأنتم في الحرم، يقال أحرم إذا دخل في الحرم وأنجد إذا أتى نجداً. والثالث الجمع بين القولين.
7. معنى التقليل والتصغير في قوله: ﴿بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ﴾: التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعضٌ من كلٍّ، بالنسبة إلى مقدور الله تعالى. وإنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول. وأنه مهما اندفع عنهم ممَّا هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل، لطفاً بهم ورحمةً. ليكون هذا التنبيه باعثاً لهم على الصبر، وحاملاً على الاحتمال. والذي يرشد إلى أن هذا مرادٌ، أنَّ سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه. فيكون أيضاَ باعثاً على تحمله. لأن مفاجأة المكروه بغتة أصعب. والإنذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه. وحاصل ذلك لطف في القضاء . . فسبحان اللطيف بعباده. وإذا فكّر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا، وجد المندفع عنه منها أكثر، إلى ما لا يقف عند غاية. فنسأل الله العفو والعافية واللطف في المقدور.
8. رأى الحنفية: أن أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من
أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرّم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. لحديث البهزي- واسمه زيد بن كعب- في رواية مالك وغيره عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر، فقسمه في الرّفاق. وحديث أبي قتادة عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفيه: «إنما هي طعمة أطعمكموها اللّه» فقد أكل النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم والصحابة مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي.
9. إنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ وَإِنْ كَانَ عَلامَ الْغُيُوبِ ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ ضُرُوبِ تَرْبِيَتِهِ لَكُمْ وَعِنَايَتِهِ بِتَزْكِيَتِكُمْ.
10. إشارة : إنْ مَنْ قصَدَنا فعليه نَبْذُ الأطماعِ جملةً، ولا ينبغي أن تكون له مطالبة بحالٍ من الأحوال. وإن من قصد بيتنا فينبغي أن يكون الصيد منه في الأمان، لا يتأذى منه حيوان بحال، لذا قالوا : البَرُّ مَنْ لا يؤذي الذر ولا يُضْمِر الشر.
[1] . زاد المسير في علم التفسير. لسان العرب. شرح الكلمات وما ترشد إليه الآيات. تفسير المنار. تفسير القرآن العظيم.
[2] . الحَاوِى فى تَفْسِيرِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ.
[3] . في ظلال القرآن.
[4] . تفسير الطبري. زاد المسير في علم التفسير. محاسن التأويل. وتفسير المنار. الحَاوِى فى تَفْسِيرِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ.