كن حكيماً في ترتيب الخيرات والشرور

م. محمد عادل فارس

[email protected]

المؤمن يتحرى رضوان الله في أموره كلِّها، فيسعى إلى فعل كل ما أمره به الله سبحانه، واجتناب كل ما نهاه الله تعالى عنه. لكنه يجد نفسه تنشط إلى فعل بعض المأمورات ما لا تنشط إلى غيرها، وتمتنع عن بعض المنهيات بلا أدنى كلفة، بينما تنجذب إلى فعل بعضها، فهي تحتاج إلى رياضة ومجاهدة حتى تستقيم على أمر الله. وهو المعنى الذي أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: "حُفَّت النار بالشهوات، وحُفَّت الجنة بالمكاره"، والحديث متفق عليه.

فإذا كان الابتعاد عن النار بحاجة إلى مجاهدة الشهوات، وكان التقرب إلى الجنة بحاجة إلى اقتحام المكاره، فعلى المسلم أن يروض نفسه على هذا وذاك لعله يفوز برضوان الله.

ولكن ماذا لو أنّ نفسه ضعفت عن هذا كله؟! لا شك أن عليه بذل الجهد أكثر في اجتناب ما كان نهيُ الله عنه أشدّ، وفي فعل ما كان أمرُ الله به آكد. فالوقوع في صغيرة ليس كالوقوع في كبيرة، والتقاعس عن فعل نافلة ليس كالتقاعس عن فريضة.

بل إن المسلم يواجه مواقف كثيرة في حياته الخاصة والعامة، لا سيما وهو يعيش في عصر تسود فيه أعراف ومواضعات يأباها شرع الله، يجد المسلم نفسه في هذه المواقف عاجزاً عن التزام أحكام الله بالشكل الأكمل، فهو بحاجة إلى معرفة قيمة كل خير وشر، أو كل مأمور به ومنهي عنه، ليقدِّم الخير الأعظم، ولو فاته خيرٌ أقلّ منه، ويجتنب الشر الأعظم، ولو وقع في شرٍّ أهونَ منه، سائلاً مولاه أن يعينه على فعل الخير كله، واجتناب الشرِّ كله.

هذه المفاضلة بين الخيرات، وبين الشرور كذلك، من الأمور التي دلّت عليها النصوص الشرعية:

نقرأ في كتاب الله تعالى:

}إن تجتنبوا كبائر ما تُنهَون عنه نكفّرْ عنكم سيئاتِكم، ونُدْخلْكم مُدخلاً كريماً{ النساء: 31.

}الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحشَ إلا اللمم. إن ربك واسع المغفرة{ النجم: 32.

ونفهم أن هناك كبائر وصغائر، وأن اجتناب الكبائر مقدّم على اجتناب الصغائر، وإن كان اجتناب المعاصي جميعاً مطلوباً.

ونقرأ في كتاب الله تعالى كذلك:

}أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله. لا يستوون عند الله. والله لا يهدي القوم الظالمين{ سورة التوبة: 19.

فنفهم أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من القربات الحسنة، ولكن ذلك لا يرقى إلى درجة الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله.

ونقرأ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ما يدل على تفاوت المأمورات والمنهيات في درجاتها:

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون، شعبة. فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان".

وروى البخاري في الحديث القدسي المشهور: "وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحَبَّ إليّ مما افترضتُ عليه".

وروى البخاري ومسلم عن ابن مسعود t قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أيُّ؟ قال: "برُّ الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".

ففي المأمورات ما هو "أفضل" أو "أحبّ".

وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أحب الأعمال أو أفضلها فيجيب كلاً بما يناسب حاله وظرفه، ولم يُنكر على واحد منهم مثل هذه الأسئلة، ولم يقل لهم: الأعمال كلها على درجة واحدة ولا قُربةَ أفضل من قُربة.

ولذلك يرى الإمام الغزالي أن من يحرص على النوافل أعظمَ من حرصه على الفرائض هو من المغرورين، ويقول: "ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل، ولا يجد للفريضة لذّة، ولا يشتدّ حرصه على المبادرة بها في أول الوقت، وينسى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه". يقول الغزالي: وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور".

ويقول أيضاً: "بل قد يتعيّن في الإنسان فرضان. أحدهما يفوت، والآخر لا يفوت. أو فضلان. أحدهما يضيق وقته، والآخر يتسع وقته، فإن لم يَحفَظ الترتيب كان مغروراً".انتهى كلام الغزالي رحمه الله.

ونضرب على كلامه أمثلة: فمن جلس يقرأ في كتاب الله بعد دخول وقت الصلاة واستمر في تلاوته إلى أن خرج وقت الصلاة ولم يصلِّها، كان آثماً، مع أن تلاوة القرآن من الطاعات العظيمة، فإنه انشغل بعبادة يمكن تأجيلها عن عبادة كانت "كتاباً موقوتاً".

وكذلك من كان يشتغل بصلاة وتلاوة وذكر... وبجواره إنسان سقط في الماء وكاد يغرق، وبإمكانه أن يسعفه فتقاعس عن إسعافه بحجة اشتغاله بتلك العبادات، كان آثماً. لأن إسعاف الغريق كان فرض عين عليه، وكان كذلك فرضاً لا يحتمل التأخير...

وهكذا فإن معرفة أولويات المأمورات بما يلابسها من ظروف، يعد من أهم الواجبات.

يقول الإمام سفيان الثوري: إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يَقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة.

ويقول الإمام ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين: "أفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار. والأفضل في وقت حضور الضيف القيامُ بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب. والأفضل في أوقات السحَر الاشتغالُ بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة، الاشتغال بمساعدته. فالأفضل في كل وقتٍ وحالٍ إيثارُ مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب الوقت".

وما ذكرناه من تفاوت مراتب الخيرات، ووجوب تقديم الأعلى مرتبة على الأدنى عند التعارض، نذكره كذلك في الشرور والآثام، فإنها تتفاوت، ويجب التحرز من أكبرها فأكبرها حين لا يمكن الاحتراز عنها مطلقاً، حتى قالوا: يُرتكب أهون الضررين وأقل المفسدتين عندما لا يمكن اجتنابها جميعاً. فالشرك بالله تعالى كبيرة لا تماثلها كبيرة، يلي ذلك السبع الموبقات ثم ما دونها، حتى نصل إلى الصغائر. والكبائر متفاوتة فيما بينها، والصغائر كذلك، والمكروهات تليها وهي متفاوتة كذلك.

روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي بَكرةَ t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" - ثلاثاً - قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئاً فجلس فقال: "ألا وقول الزور، وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.

وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس".

وروى البخاري  ومسلم عن أبي هريرة t قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".

وقد تحدث الإمام العز بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام" عن تفاوت المفاسد فقال: "والمفاسد ما حرّم الله قربانه، وهي رتبتان:

إحداهما رتبة الكبائر، وهي منقسمة إلى الكبير والأكبر والمتوسط... ولا تزال مفاسد الكبائر تتناقص إلى أن تنتهي إلى رتبةِ مفسدةٍ لو نقصت لوقعت في أعظم رتب الصغائر.

والثانية: رتبة الصغائر. ولا تزال مفاسد الصغائر تتناقص إلى أن تنتهي إلى مفسدةٍ لو فاتت لانتهت إلى أعلى رتب مفاسد المكروهات.

والمكروهات هي الضرب الثاني من رتب المفاسد، ولا تزال تتناقص مفاسد المكروهات إلى أن تنتهي إلى حدّ لو زالت لوقعت في المباح".

اللهم ألهمنا رشدنا، وبصِّرنا في ديننا، ووفقنا إلى عمل الخير، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونقِّنا من ذنوبنا وخطايانا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدنس، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.