حياءُ الأُنثى.. أم الجرأةٌ في حق

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

ينشأ المرء منا في مجتمعه يتلقّف العادات والأعراف دون أن يدري مصدرها الأصلي ومنبتها أمن شرقٍ أم من غربٍ أم من شرعٍ! وقد يبلغ منه الأمر أن يرفض ما يناقض هذه العادات ولا يقبل التجاوب مع طرح عكسها لأنه ألِف ما تربّى عليه. ومن هذه العادات أن يكون الشاب هو الذي يبادر بالتقدّم للخطبة وأن تكون الفتاة هي المطلوبة وليست الطالبة. وحتى الآن لا مشكلة فليس في هذا العرف ما يناقض الشرع ولكن يصبح الأمر له وعليه حين يرفض "أغلب" الناس قضية عرض الفتاة نفسها للزواج ممّن تتوسّم فيه الخير والصلاح.

مجتمعنا في حقيقة الأمر يعجّ بتقاليد منها الغثّ والسمين ومنها المنكَر والمقبول ومنها المتساهِل في حق الرجل والمجحِف في حق المرأة. وكمثال سريع على ذلك تجد نظرة المجتمع إلى المطلقة نظرة "دون" في حين أن الرجل المطلّق هو رجلٌ طحنته الحياة ومن حقه أن يعيش تجربة أُخرى ولا يجب أن يبقى وحيداً! وإن ترك الرجل زوجته لأنها عاقر فله كل الحق في ذلك أما إن طالبت بالتفريق لأنه لا ينجب فهي مخطئة لأنها يجب أن تصبر على قضاء الله تعالى وإن أخطأ الشاب وأقام العلاقة تلو الأُخرى فهو يعيش "عمره" وسيهتدي حالما يتزوج ويلتفت إلى أسرته أما الفتاة فيا ويلها إن تنفست ليس لأنه حرام ولكن لأن الناس ستلوكها بألسنتها. وحدِّث ولا حرج في مثل هذه القضايا التي عهدناها في مجتمعاتنا الشرقية البعيدة أحياناً كل البعد عن الشرع الرباني والملتزمة بعرفٍ وعادات مقيتة بالية!

ما أطرحه اليوم أعرف أنه سيثير حفيظة الكثيرين ولكني مع ذلك أحببت أن أبيِّن وجهة نظر في موضوع عرض المسلمة نفسها على الرجل الصالح من الناحيتين الشرعية والاجتماعية وأنه لا ضير إن قامت به النساء بشروط معيّنة في زمننا هذا الذي انتشر فيه الفساد وأمراض القلوب وإساءة الظن وعزّ فيه الصالحون وكثر الطالحون وتقزّم تطبيق الدين على الصلاة والصيام والصوم وسائر العبادات لتجد من يطبقها يستنفر إن اعترضت على ما تعوّد عليه "عرفاً" ولو جئت بدليل جوازه فلكل مقام مقال!

أما قول الشرع في قضيتنا فهو واضح وقد أفرد الإمام البخاري في صحيحه باباً أسماه "باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ". فعن أنس رضي الله عنه قَالَ : جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ بِي حَاجَةٌ؟ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَاسَوْأَتَاهْ وَاسَوْأَتَاهْ. قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا. وقد يقول قائل أن هذه المرأة قد وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلّم وله خصوصية في هذا الأمر وهو كذلك ولكن الإمام البخاري حين وضع عنواناً لهذا الباب لم يقل باب "هبة" المرأة نفسها للرجل الصالح (لأنه لا يجوز للمرأة أن تهب نفسها للرجل بلا مهر ولا ولي) وإنما قال "عرض" واستنبط الحكم بالجواز. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: "قال ابن المنيِّر في الحاشية: من لطائف البخاري أنه لما علم الخصوصية في قصة الواهبة استنبط من الحديث ما لا خصوصية فيه وهو جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح رغبة في صلاحه، فيجوز لها ذلك، وإذا رغب فيها تزوجها بشرطه."

وقال بدر الدين العيني في كتابه "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": قول أنس لابنته "هي خير منكِ" دليل على جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، وتعريفه رغبتها فيه لصلاحه وفضله، أو لعلمه وشرفه، أو لخصلة من خصال الدين، وأنه لا عار عليها في ذلك، بل يدل على فضلها، وبنت أنس رضي الله عنه نظرت إلى ظاهر الصورة، ولم تدرك هذا المعنى حتى قال أنس "هي خير منكِ"، وأما التي تعرض نفسها على الرجل لأجل غرض من الأغراض الدنيوية فأقبح ما يكون من الأمر وأفضحه."

وقال النووي : "وفيه استحباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها."

كما أن البخاري أفرد باباً في صحيحه عنوَنَه "باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير" وفيه جواز عرض الرجل ابنته أو أخته على من يعتقد خيره وصلاحه. ثم قال الحافظ ابن حجر : "عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه وأنه لا استحياء في ذلك". وقد عرض سيدنا عمر بن الخطاب ابنته حفصة رضي الله عنها حين تأيّمت على سيدنا عثمان بن عفان وعلى سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما كما أن صالح مدين عليه السلام عرض ابنته على سيدنا موسى عليه السلام حين لمح منها اعجاباً بقوة وأمانة موسى عليه السلام. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: " قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ". وهذا التابعي سعيد بن المسيّب يرفض تزويج ابنته للوليد بن عبد الملك بن مروان ويعرضها على تلميذه الذي وجده صالحاً نابذاً الدنيا بزخرفها راجياً الصلاح والدين لسعادة ابنته.

إذاً من الناحية الشرعية فقد ثبت جواز عرض المسلمة نفسها أو عرض الوليّ ابنته على الرجل الصالح أو جعل وسيط بين الرجل والمرأة كما حدث مع أمنا خديجة رضي الله تعالى عنها وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد يتقبّل المجتمع في حالات قليلة عرض الرجل لابنته أو أخته على أهل الصلاح، ولكن تبقى المعضلة: هل يتقبّل المجتمع عرض المسلمة نفسها لرجل صالح وإن كان شرعاً جائزاً؟ لو طرحنا هذا السؤال على رجالٍ كثير ونساء لوجدنا أن الغالب الأعمّ سيرفض هذا الأمر لأسباب عديدة أهمها:

- لم يجرِ "العرف" عليه والسائد أن الشاب هو من يختار ويتقدّم للخطوبة.

- "كرامة" المرأة لا تسمح لها أن تكون المبادِرة بهذا الأمر.

- أين "حياء" الأنثى وكيف لها أن تتقدّم من الشاب وهي التي تستحي من نظرة الخاطب لها فكيف لها أن تبدأه السؤال؟!

- التقدّم للخطوبة هو حق من حقوق الرجل وليس للمرأة شأن به.

- خوف المرأة من أن يعيِّرها زوجها بعد الارتباط انها هي من سعَت وراءه قد يكون عاملاً لرفض هذه الطريقة.

- ارضاء غرور المرأة أن تكون هي المطلوبة وليست الطالبة.

- خلق أزمة نفسية عند المرأة إن كان الرد بالرفض.

- الرجل يعلم متى يستطيع الباءة بينما المرأة قد لا تدري جيداً ظروف الرجل فتسيء التوقيت.

- أين ستتعرّف المرأة على الرجل وتعرفه جيداً لتتقدّم لخطبته؟

- ماذا لو كان مريض القلب واستغل صدق مشاعر الفتاة؟

طبعاً الأمر سيكون مستهجناً إلى درجة كبيرة إن حصل في مجتمعاتنا العربية وقد تختلف درجة الرفض من مجتمع لآخر على حسب الانفتاح والتحرر والاختلاط بين الجنسين حتى الملتزمين منهم إن في الجامعات أو في الوظائف أو في المحيط العائلي. ولكن المؤكّد أن نسبة الرافضين ستكون أكبر فهكذا تربّوا وعلى هذه العادات ترعرعوا.

ولئن تغيّر الزمان كثيراً عن زمن الحبيب عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله تعالى عليهم والعصور التي كان يكثر فيها الصالحون وهذا من المسلّمات فقد تتغيّر أيضاً معه أمور شرعية يرفضها العصر الجديد.. ومن هذه الأمور موضوع عرض المسلمة نفسها على الرجل الصالح. وبسبب هذا الاختلاف الزمني عن خير العصور والوضع المتدني الذي وصلنا فيه إلى تقهقر أخلاقي وانعدام للتربية الأخلاقية والاسلامية في مجتمعات كثيرة ومنهج اتّباع الأهواء والشهوات ونقص الوازع الديني أصبح من الصعب تحرّي صلاح الرجل أولاً وتطبيق هذا الأمر الشرعي لبُعدنا عن الدين وانغماسنا في التقاليد ثانياً.

وليكون الأمر بَيْنَ بيْن يمكن التوصل إلى رؤية قد تكون مرضِية كحلّ وسطي وهي:

v    أن لا تتقدّم الفتاة نفسها إلى من ترجو صلاحه وإنما تجعل بينها وبينه واسطة كأبيها أو أخيها أو أي وسيط آخر.

v    أن تتحرّى الفتاة والأهل دين وأخلاق وصلاح الرجل حتى لا يقعوا بفخ المظاهر الخادعة فليس أي رجل يصلح أن يُتعامَل معه على أساس ديني شرعي دون أن يفجّر حمم بركانه بعد الزواج في وجهها.

v          أن ييسّر الملتزمون عرض المسلمات على من يرجون صلاحهم لتسهيل أمور التعارف والزواج.

شكت لي إحداهنّ أنها أرادت ترك عملها في مؤسسة اسلامية نتيجة ما شعرت به من فتنة ولفت الأنظار لها بالرغم من محاولة اقناعهم لها أن الاختلاط هناك هو ضمن "ضوابط شرعية" ويقصدون طبعاً غض البصر والحجاب وعدم الخلوة؛ المهم أن أهلها لم يستوعبوا مجرد فكرة تركها للعمل "لأسباب واهية" وأين ستجد مؤسسة أُخرى تقبل بحجابها؟ هؤلاء هم نفس الأهل الذين منعوها من الصلاة في المسجد بحجة أن صلاة المرأة في بيتها أفضل!! وأخت ثانية تقول رفضني أهل شاب اختارني لالتزامي وأخلاقي لأني مطلقة وأمه تريد لابنها "الأفضل" بالمعيار الاجتماعي طبعاً ضاربة بعرض الحائط رغبة الشاب وحين تأتيها بوقائع من حياة خير القرون والسلف الصالح تأبى الاقتداء!

فلنحدِّد هل نريد تحكيم شرعنا القويم في حياتنا اليومية أم عرفنا الشائع؟!!

هل أصبح تاريخنا الاسلامي بكل ما فيه وحياة الرسول صلى الله عليه وسلّم والصحابة للترف الفكري والمعلومات "لأن زماننا غير زمانهم" وما كان مقبولاً عندهم غير مقبول عندنا؟!! أم أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين هي للتأسي وللإقتداء؟!!

ان ما بين أيدينا هي مسألة من مسائل كثيرة تشابكت حلقاتها في مجتمعاتنا فرضينا بها إما لانغماسنا في أهوائنا واتباعاً لأنفسنا وإما خوفاً من التصادم مع العادات الاجتماعية والتعيير بأننا "مختلفون" وعلى هذا فيكون ما للدين للدين وما للمجتمع للمجتمع! وبئس ما نرقّع وحسرة على ما نمزّق!

وعودة الى بدء.. المسألة ليست مسألة حياء وكرامة للفتاة فلا أظن فتياتنا يتمتعن بحياء يفوق الصحابيات ودين يرقى عن دين الصحابة وأمهات المؤمنين بل المسألة باختصار هي ضبابية في الرؤى واتّباع وخضوع لعادات وأعراف.

وكما قبلنا التغريب والغزو الفكري والثقافي في المجتمع فعلينا أن نجعل هذا المجتمع نفسه يقبل التغيير الذي يوافق الاسلام.

فليبدأ أصحاب الفضيلة والعلماء والمسؤولون والمربّون والنساء خاصة بأسلمة العادات ونشر المفاهيم الشرعية انطلاقاً من أسرهم والمحيطين بهم وإن لاقت استهجاناً في بادئ الأمر إلا أنه يجب علينا أن نمهّد الطريق لأبنائنا لتغيير مجتمعاتنا إلى ما يُرضي الله جل وعلا لا ما يُرضي الناس فيكون المعيار هل هذا حلال أم حرام؟ وليس هل هذا عيب؟!

لطالما كنّا أمّة التغيير فما بالنا اليوم نركن؟! نحن من "يصنع" المجتمع فلا يقبلنّ أحدنا أن يكون إمّعة!