من أساليب التربية النبوية 21
من أساليب التربية النبوية
الجمل الموسيقية (21)
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل من نطق الضاد ، فحين أوتي القرآن الكريم
أوتي الحديث ليشرحه ويوضح متشابهه ويفصل مجمله . فكانت ألفاظه ومعانيه مشرقة أيّما
إشراق ، بليغة قمة البلاغة . وقراءة في ( البيان والتبيين ) للجاحظ(1)
، نرى جمال العبارة في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقوة المعنى ، ولا
غَرْو في ذلك ، فالذي نزَّل عليه القرآن علمه وأدّبه ، قال تعالى : (
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
)(2).
يقول الجاحظ في وصف أسلوب الحبيب المصطفى خير من نطق بالضاد : ( فكيف وقد عاب
التشديق ، وجانب أصحابَ التقعيب ، وهجر الغريب الوحشيّ ، ورغب عن الهجين السوقيّ ،
فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة ، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة ، وشيد بالتأييد
، ويسر بالتوفيق ، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة ، وغشّاه بالقبول ، وجمع
له بين المهابة والحلاوة ، وبين حُسْن الإفهام وقلّة عدد الكلام ، مع استغنائه عن
إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته ، لم تسقط له كلمةُ ، ولا بارت له حُجّة ، ولم
يقم له خصم ، ولا أفحمه خطيب ، بل يبُذ الخُطبَ الطوال بالكلام القصار ، ولا يلتمس
إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصمُ ، ولا يحتجّ إلا بالصدق ،ولا يطلب الفلَج (
الفوز)إلا بالحق ، ولا يستعين بالخلابة ، ولا يستعمل المواربة ، ولا يهمز ولا يلمِز
، ولا يبطئ ولا يَعجَلُ ، ولا يُسهب ولا يحصَر ، ثم لم يَسمعِ الناسُ بكلام قط أعمّ
نفعاً ، ولا أقصَد لفظاً ولا أعدلَ وزناُ ، ولا أجمل مذهباً ، ولا أكرمَ مَطلباً ،
ولا أحسنَ موقعاً ولا أسهل مخرجاً ولا أفصح معنىً ولا أبْيَن في فحوى من كلامه صلى
الله عليه وسلم كثيراً ).
ملاحظة
: قصدْت فقط الجمل الأخيرة مما نقلت عن الجاحظ ، وما سردتُ صفة كلام النبي صلى الله
عليه وسلم كله إلا للتبرّك بمعرفة روعة أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - ليس غير.
فبالإضافة إلى المعنى الدال على أن اللغة العربية واضحة بينة ، معروفة بالبلاغة
والبيان ، هناك معنى لطيف : إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان فصيح اللسان ،
بيّن النطق ، واضح العبارة . وكانت قراءته للقرآن على المشتركين تذلهم ، وقصة
الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وأبي جهل بن هشام ، الذين سحرهم القرآن بلسان
الرسول الكريم دالة على تأثيره فيهم ، لذلك روى القرآن عنهم موضحاً مكرهم : قال
الله تعالى : (
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
)(3)
.
والمقصود في هذه الآية عدم سماعهم للقرآن من منبعه البليغ الأصيل ـ صلى الله عليه
وسلم ـ ، فهم لا يرغبون بسماعه ، ويحاولون الصياح في وجهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
حتى لا يدري ما يقول .
وقد قال مجاهد : ( المعنى والغَوا فيه بالمكاء " أي الصفير " والتصفيق والخلط في
المنطق حتى يصير لغواً ) ، وقال أبو العالية وابن العباس : ( قعوا فيه وعَيَّبوه (
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
) محمداً على قراءته فلا يظهر ولا يستميل القلوب )(4)
.
وقد وظف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصاحته وبلاغته في خدمة دعوته ، ومن
أساليب هذه الفصاحة التي استمال بها القلوب : الجمل الموسقية من حسن في
التقسيم ، وسجع ، ومقابلة ، وطباق . . .
وقد كان العرب يحفظون الشعر ـ وما أكثره ـ لموسيقاه ، فاغتنمها الرسول الكريم في
الوصول إلى عواطفهم وقلوبهم ، ومن ثمَّ إلى عقولهم وأفكارهم .
ومن ذلك ما كتبه المغيرة بن شعبة إلى معاوية بما سمع من رسول الله : إني سمعته
ينهى عن :
كثرة السؤال ، وإضاعة المال ، وقيل وقال(5)
.
فأنت ترى معي جمال الموسيقى ـ في الجمل الثلاثة ـ الناتجة عن حسن التقسيم ، وعن
السجع ( انتهاء الكلام باللام المسبوقة بالألف ) .
ونلمح أيضاً جمال التقسيم ، والسجع في هذا الحديث الذي رواه أبو أسيد ـ رضي الله
عنه ـ قال : كنا عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال رجل : يا رسول الله ، هل
بقي من برِّ أبويَّ شيء بعد موتهما أبَرُّهما ؟
قال : نعم ، خصال أربع : ـ الدعاء لهما ، والاستغفار لهما ، ـ وإنقاذ عهدهما ، ـ
وإكرام صديقهما ، ـ وصلة الرحم التي لا رَحمَ لك من قِبَلهما(6)
.
نلاحظ تكرار ( هما ) في آخر كل خصلة من الخصال .
وانظر معي إلى هذه النواهي التي وردت متوالية ، كأنها عقد نضيد من التوصيات والحكم
، جاءت كموسيقا العرض العسكري الأخاذ :
عن
أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إياكم
والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تناجشوا(7)
ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تنافسوا ، ولا تدابروا(8)
، وكونوا عباد الله إخواناً ))(9)
.
وكذلك ما نراه في هذا الحديث الشريف : فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
عليك بالرفق فإنه لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شأنه(10)
.
حسن التقسيم واضح في الجملتين ،
والمقابلة بينهما : ( لا يكون : لا ينزع ) ، ( زانه : شانه ) .
والجناس الناقص : ( زانه : شانه ) .
والسجع الجميل في ( النون والهاء ) في نهاية كل من الجملتين .
وكذلك نلحظ جمال التعبير الموسيقي الذي يأسر القلوب ، ويمتلك العواطف في الحديث
التالي :
عن
أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
يسِّروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا(11)
جملتان متقابلتان فيهما موسيقى آسرة متنوعة ، تجمع بين حسن التقسيم ، والجناس ،
والطباق دون تكلف أو تصنع ، ألم يقل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أدبني ربي فأحسن
تأديبي ) .
(1)
الجزء الثاني : ص / 44 / ، طبعة دار الفكر للجميع ،
1968 .
(2)
سورة الشعراء : الآية 195 .
(3)
سورة فصلت : الآية 26 .
(4)
تقسير القرطبي المجلد / 15 / في تفسير الآية السابقة
من سورة فصلت : 26 .
(5)
الأدب المفرد الحديث / 16 / .
(6)
الأدب المفرد الحديث / 35 / .
(7)
التناجش : أن تزيد في ثمن سلعة ليس لك بها حاجة تريد
أن ترفع سعرها ليقع فيها غيرك .
(8)
لا تدابروا : أي لا تقاطعوا .
(9)
الأدب المفرد الحديث / 410 / .
(10)
الأدب المفرد الحديث / 469 / .
(11)
الادب المفرد الحديث / 473 / .