تتريك العرب

صلاح حميدة

[email protected]

في نهايات الدّولة العثمانية برزت الفكرة الطّورانية، وهي صاحبة نظرة استعلائية وتقول بتفوق العرق التركي على بقيّة الأعراق، وكان لسيطرة هذه الجماعة ( الاتحاد والترقي) على مقاليد الأمور في الدّولة العثمانية أثر س

سلبي كبير على الشّعوب التي كانت تعيش تحت ظل هذه الدّولة، وخاصة الشّعوب العربية، وقام العرب بالتمرد على هؤلاء العنصريين، وكانت هذه الحركات المضادة للطورانية هي النّواة الأولى لما عرف فيما بعد بالقومية العربية.

جرت الكثير من الأحداث وبنيت الكثير من الجدران بين الأتراك والعرب منذ ذالك الوقت، بل قامت الدّولة العبرية بعقد تحالفات إستراتيجية مع تركيا، وشكلت هذه الدّولة عدواً وطعنةً في خاصرة العرب وعمقهم الاستراتيجي، وأصبحت في عداء فاضح مع العروبة والاسلام، وألغت اللغة العربية من حياة الشعب التركي، وبقيت الأمور على حالها حتى بدأت تركيا تصحو على واقع مرير عاشته وتعيشه بعد أن انسلخت عن واقعها الاسلامي، فلا هي أصبحت أوروبية ولا هي بقيت إسلامية، وبدأت الململة في الشارع التركي حتى جرت الانتخابات التي جاءت بحزب العدالة والتنمية للحكم، وكان أبلغ تعقيب على نتيجة الانتخابات لمحلل سياسي تركي علماني، حيث قال:- ( هذا تصويت على هوية تركيا).

إختارت تركيا العودة لهويتها بعد هجران قصري لعقود، هذه العودة لم تكن ولن تكون سهلة وستحفّها الكثير من المخاطر والمحاذير والتّحدّيات والعقبات، بل ستدفع تركيا أثمان كبيرة بسبب هذه العودة، ولكن بالتّأكيد أنّها ربحت ذاتها، فالفترة السّابقة لهذه العودة كبلت تركيا نفسها بالتزامات واتفاقيات مع الكثير من الدّول الغربية وبضمنها الدّولة العبرية، ولن يكون بهذه السّهولة التّنصل من هذه الالتزامات والاتفاقيات، إضافة لكون المعركة لها إمتدادات في النّخب التركية والتي لم يتم تدجينها بعد، ولا زالت موجودة في مراكز قوى هامّة في الدّاخل التركي.

تنبهت النّخب الحاكمة الجديدة من العدالة والتنمية لهذه القضية الخطيرة، بل درست كافّة الاخفاقات التي أجهضت تجربة العودة للهوية والدّور الذي تستطيع والمطلوب  من تركيا لعبه، ولذلك عملت هذه النّخب على جعل العودة للهوية والدور ذو فائدة إقتصادية لكافّة طبقات وفئات الشّعب التّركي، بل اكتشف الاتراك أنّه يوجد خلف الحدود إمتدادات لهم أداروا لها ظهورهم لعقود، وأنّ هذه الاستدارة كلّفتهم كثيراً، وأنّ التّواصل  مع هذا الامتداد له فوائد جمّة، ولذلك يقع على عاتق العرب والمسلمين، فرادى وجماعات وأنظمة ومؤسسات جعل هذه العودة التّركية ذات جدوى، فحتى من لا يعود بسبب قناعات دينية وثقافية أن تكون عودته لأسباب مصلحية.

تعلن النّخبة الحاكمة في تركيا أنّ مصيرها هو من مصير العرب، وهي حريصة على التّواصل وزيادة التّبادل والتنسيق على كافّة الأصعدة مع  الدّول والشّعوب العربية، وقامت بخطوات غير مسبوقة مثل إلغاء التأشيرات والمشاركة في الاجتماعات الخاصة بالجامعة العربية وغير ذلك من الخطوات التي جعلت الأتراك حاضرين في المشهد العربي والاسلامي بقوة مرغوبة لا قوة مرفوضة.

العودة الممنهجة من قبل الأتراك رافقها عودة التعريب في تركيا، فالنّخب السياسية والأكاديمية والاقتصادية العربية تحظى بمكانة فريدة في المشهد  التركي، بل يتم تنظيم مهرجانات ولقاآت واسعة وعلنية فيما يخص اللغة العربية وآدابها، والحركات الشعبية والاسلامية والمنظمات الخيرية...........الخ، وأصبحت النّخب العربية ضيفاً دائماً على الأتراك في مشهد لم يكن موجوداً من قبل، ويلاحظ كل مراقب  عملية تعريب ودراسة للعربية بشكل واسع جداً في تركيا، توّجت بتدشين قناة تركية ناطقة بالعربية إضافةً لإقبال واسع على تعلم اللغة العربية.

كتب الكثير عن الإقبال التركي على العرب والعروبة وعلى الإسلام والمسلمين، حتى أنّ بعض المحللين لجأ لاتهام النّخب الحاكمة في تركيا في نواياها تجاه العرب والمسلمين، بل هناك من بالغ لحد الاتهام بأنّ هذه الاندفاعة التركية عبارة عن أداء لدور ثانوي لصالح الأمريكان، وما هي إلا محاولة لاستيعاب الحركات الاسلامية المقاتلة وإبعادها عن المحور الايراني.

لو نظرنا للأمور بسطحية لكنا صدّقنا هذا النّمط من التّحليل، ولكن فهم المحاذير التي يسير فيها من يحكمون تركيا ستساعدنا بالتّأكيد على فهم ما يدور هناك، ومن المؤكد أنّ إنحسار الدّور الأمريكي بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، أدّى إلى  نشوء فراغ كبير وهذا الفراغ كان لا بد من ملئه من قبل قوى أخرى في العالم، ولذلك خرجت الولايات المتحدة باستراتيجية جديدة تقوم على التعاون مع الشركاء لا مع حلفاء تقودهم هي، وهذا اعتراف واضح بانحسار وتراجع دورها في االعالم ولكن بطريقة تحفظ كرامتها، إضافة لتمدّد قوى إقليمية ودولية كثيرة في هذا الفراغ ومن ضمنها تركيا.

المنطقة العربية تعاني من فراغ شديد وتراجع في الدّور وصناعة السياسة في المنطقة والعالم من قبل النّخب السياسية الحاكمة فيها، ومن قبل الإطار الذي من المفترض أن يجمعها ويعبّر عن طموحات وآمال الشّعوب العربية والذي يطلق عليه جامعة الدّول العربية، ومنذ عقدين من الزمان سلّم النّطام الرسمي العربي رقبته للسياسات الأمريكية في المنطقة، واستمر في الانحدار في الوادي الأمريكي حتى خسر غالبية أوراقه، وظهر ذلك بأبشع صوره بتحالف أنظمة عربية مع دولة الاحتلال في حصار وقتل الفلسطينيين وفي الحرب على مقاومتهم ولقمة عيشهم والذي تجلى في الحرب الاخير على غزة وما قبلها وما بعدها، وبلغت ذروة سنامه في الاجتماع السّخيف لوزراء خارجية العرب في القاهرة وخلافهم على مصطلح (فك الحصار) ( وكسر الحصار) حيث كان وزير خارجية دولة عربية (كبرى) مرتعب من ذكر كلمة ( كسر الحصار) وأصر على تقييد اعتراضه في البيان الهزيل الذي صدر، بل زاد الرسميون العرب بنقل القرار المنوط بهم أن يتّخذوه إلى مجلس الأمن، وهو اعتراف واضح أنّ عصمتهم ليست في يدهم، بينما كانت تركيا تخوض معركة اعلامية وحقوقية ودبلوماسية دولية دفاعاً عن غزة، وتعلن بكل صراحة أنّه لو أدار كل العالم ظهره للغزيين فهي لن تدير ظهرها لهم وستبقى معهم.

ما تقوم به تركيا العائدة لهويتها  كبير، وتركيا العائدة بقوة عائدة لتلعب ذلك الدور الذي يليق بها كقائدة للعالم الاسلامي، وهي تمهر هذه العودة بدماء أبنائها وبتبني المظلومية الفلسطينية، وهي القضية التي تعتبر المدخل الإجباري لكل من يريد قيادة الأمة العربية والاسلامية و العالم الحر أيضاً، وهذه العودة والسّعي للعب هذا الدّور له ضرائب  كبيرة تدفعها وستدفعها تركيا الساعية لملء الفراغ النّاجم عن استقالة النّظام الرسمي العربي، ولذلك ووجهت الاندفاعة التركية بدموية شديدة من قبل الكيان المصطنع على أرض فلسطين وبمباركة أمريكية وغربية، التي لا تريد ولا ترغب بهذا الدّور بالرغم من التراجع الكبير الذي يصيب هذه القوى وأدواتها في المنطقة.

العودة التركية بمجملها عودة محمودة، ولا بد من أن يتم احتضانها وتطويرها والتحالف معها لا اتهامها، وهي عبارة عن محصلة تعريب وأسلمة للترك العائدين لهويتهم التي هجروها منذ زمن، كما أنّ العرب يحتاجون لنوع من التتريك، لا التتريك العنصري الفاشي على نمط الاتحاد والترقي الذي ثبت فشله، ولكنه التتريك الذي يعيد العربي  لهويته وحضارته ودوره الحقيقي المناط به، ويكمن هذا التتريك بدعم العودة التعريبية التركية واحتضانها ونبذ من يعاديها من فوق الطّاولة أو من تحتها، فالأتراك عائدون للساحة العربية بعد أن فقد النّظام الرسمي العربي دوره وأصبح عبئاً على الواقع والمستقبل العربي، فهل يعيد التاريخ نفسه بعودة الأتراك وبنائهم للدولة الجامعة المانعة بعد أن أصبح حكام العرب عبئاً على الواقع والمستقبل العربي والاسلامي؟.