ربط السبابة اليمنى
محمد زهير الخطيب/ كندا
قبل أن يولد المسيح عليه السلام بمئات السنين، هاجم بختنصر ملك بابل مملكة اليهود في فلسطين وخرب هيكلهم وأحرق كتبهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم وسيرهم معه إلى بابل فبقوا هنالك ما يقرب من قرن وظهر فيهم رجل صالح إسمه العُزير وباللهجة اليهودية (عزرا) وغُيّرتْ اللفظة عند التعريب كما غيرت لفظة (يسوع) فصارت بالتعريب عيسى و لفظة (يوحنا) صارت يحيى.
ثم لما غزا قورش ملك الفرس بابل قرب إليه العُزير لصلاحه وأصبح ذومكانة عنده، ثم تشفع العُزير لليهود فأجاز قورش شفاعته وسمح لهم أن يعودوا إلى فلسطين. ويحكى أنهم مروا في طريق عودتهم بقرية تادف الواقعة قريبا من مدينة حلب نحو الشمال الشرقي والتي ذكرها امرؤ القيس في أشعاره عندما زارها في رحلته المعروفة من الجزيرة العربية إلى بلاد الرومان ليقابل قيصرحيث قال:
ألا رب يوم صالح قد شهدته بتاذف ذات التل من فوق طرطرا
وبسبب توفر الماء والخضراء والعيش الحسن طاب لليهود المقام في تادف فحطوا رحالهم واستوطنوا هذه القرية الجميلة التي يمر فيها نهر الذهب الذي ينتهي بمملحة الجبول.
وكان اليهود قد فقدوا كتبهم ومراجعهم ونسخ التوراتهم أثناء ترحالهم وتشردهم وشتاتهم ويذكر أن العُزير كان يحفظ التوراة عن ظهر قلب فأملاها عليهم فكتبوها على جلود الغزلان وتركوا مكان لفظ الجلالة فارغا وقالوا لو كانت النسخة صحيحة فنسأل الله أن يكتب اسمه على النسخة كمعجزة لنتأكد من صحتها ويزعمون أن المعجزة حصلت ووجدوا لفظ الجلالة مكتوبا في المكان المطلوب. ثم أنهم قدسوا العُزير وغالوا في أمره وزعموا أنه ابن الله، تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا، فقد قال تعالى في الآية 30 من سورة التوبة: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون).
وقد بنى اليهود في تادف كنيسا مهيبا على شط النهر وجعلوا تحت قبته مقاما للعُزير ووضعوا بجانبه نسخة التوراة التي كتبوها، وبقيت هذه النسخة إلى جانب المقام في ذلك الكنيس حتى تم نقلها إلى كنيس مدينة حلب للحفاظ عليها بعد احتلال اليهود لفلسطين عام 1948م وخشيتهم على توراتهم من الضياع أو التلف في هذه القرية الصغيرة. ويروى عمن عاصر اليهود في هذه الفترة أنهم كانوا يرددون في جنائزهم حين يندبون ميتهم باللهجة العامية ويقولون: (يا موت ليش أخذته؟ ... عمرو ما ضرب مرتو ... عمرو ماكسر سبته ... عمرو مانصح مسلم!! ) ثم يربطون سبابة الميت بخيط بحيث لا يمكنه أن يتشهد بها مخالفة لتشهد المسلمين.
وبعد أن كانت تادف محطة ومزاراً لليهود من أماكن كثيرة من العالم على مدى عقود، دارت الايام وغادروا القرية الجميلة بسبب الحروب والاحداث السياسية التي شهدها الشرق الاوسط، وأصبح كنيسهم أطلالا و ديارهم أثراً بعد عين.