قراءه موجزه في التغيرات السياسية على الساحة التركية
قراءه موجزه في التغيرات السياسية على الساحة التركية
الحلقة ١ من ٣
النظام العلماني التركي حتى إعدام عدنان مندريس
م. هشام نجار
اعزائي القراء
كما هو معلوم تاريخيآ فلقد قاد مصطفى كمال أتاتورك حركة قومية فألغى السلطنة وأعلن تركيا جمهورية فتولى رئاستها عام١٩٢٣م حتى وفاته عام ١٩٣٨م وقد تمكن من استبدال المبادئ الإسلامية بأعراف قومية علمانية. ينسب الكثير من الأتراك هذا الرجل الى طائفة يهود الدونمه الذين هرب اجداده مع المسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطه بيد الفرنجه عام ١٤٩٢م وتوجه قسم كبير منهم الى عاصمة دولة الخلافه الإسلاميه في إستنبول فآمنتهم من بعد خوف واطعمتهم من بعد جوع ومنحتهم حياة لائقه فاظهروا الإسلام وابطنوا يهوديتهم وإستولوا على مفاصل الدوله وخاصة الإعلام وقطاع البنوك والجيش بمساعدات اوروبيه وعاثوا فسادآ وتخريبآ في الدولة العثمانيه.خلفه عصمت اينونو حتى عام ١٩٥٠ م والذي عزز النهج العلماني وعمقه ومنع الإنتساب الى الكليات العسكريه لكل من يحمل فكرآ دينيآ او تعاطفآ مع عقيدته .كان الصراع في تلك الفترة صراعآ لإنهاء الدين من قلوب وعقول الشعب التركي فقبض هذا الشعب على الإسلام في قلبه المؤمن، وتجاهل القوانين العلمانية، واتجه العلماء إلى بناء الإسلام سرًّا في النفوس؛ فظهر العالم الجليل الشيخ "سلمان حلمي" الذي اهتم بتحفيظ القرآن الكريم، فكان يستأجر المزارع البعيدة عن المدن، ويأخذ طلبته معه يعملون في الحقل بالنهار، ويدرسون القرآن الكريم بالليل، في إصرار عجيب على المحافظة على الإسلام والقرآن. وكانت "الطريقة النقشبندية" بزعامة الشهيد "عاطف الإسكليبي" الذي أُعدم بسبب كتاباته ضد القبعة الغربيه. وكان الشيخ "سعيد النورسي" صاحب "رسائل النور" الذي رفض تغريب تركيا، وحارب الإلحاد. وبدأت الحرب على الأبجدية العربية التي كانت تُكتب بها اللغة التركية، فصدر قانون الكتابة بالأبجدية اللاتينية، ونُقِّيت التركية من الكلمات الفارسية والعربية، فأصبح الأذان للصلاة بالتركية. وكم من العلماء شُنقوا وعُلقت أجسادهم أمام المساجد لأنهم رفعوا الأذان باللغة العربية. ثم جاءت الهجمة الشرسة على أسماء الشعب وهي ما عُرفت بـ"معركة الألقاب"، وبدا واضحًا أن أتاتورك ورجاله يسعون لتغيير دين الشعب وهيئته وأسماءه بعيدًا عن الإسلام؛ ففي الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية التركية جُمعت المصاحف والكتب الدينية ووضعت على ظهور الإبل ليقودها رجل يرتدي الزي العربي ليتجه بها نحو الجزيرة العربية، وعُلقت على رقاب الإبل لافتة تقول: "جاءت من الصحراء، ولتعد إلى الصحراء، وجاءت من العرب، فلتذهب إلى العرب
اعزائي القراء إذا كنتم قد زرتم تركيا فلا بد انكم لاحظتم ان وجهة تماثيل اتاتورك تأخذ دائمآ وجهة الغرب بشكل مقصود في تفسير لها بأن يجعل الأتراك قبلتهم الغرب ويتخلوا عن الشرق بأخلاقه وعقيدته وثقافته وحضارته.إذن نستطيع القول ان السياسيين الأتراك ربطوا مصير تركيا بمصير الغرب فكانت جزءآ من أحلافه العسكريه كحلف الأطلسي وحلف بغداد كون تركيا تعتبر
البوابه الشرقيه لصد اي هجوم سوفيتي عن اوروبا إبان الحرب البارده وتلقي الضربة الأولى نيابة عن الغرب, ومن هنا يتبين سبب التسليح العسكري القوي لتركيا وبناء قواعد عسكريه امريكيه في اضنه والمناطق المحيطه بها وكذلك حشد عسكري يصل الى ستمائة الف جندي في اعوام خمسينات القرن الماضي على الجبهة الشماليه مع الإتحاد السوفيتي في الحاله العاديه إضافة إلى تجهيز اسطول بحري على مقدره كافيه للسيطره على شرق المتوسط وبحر إيجه مع ثقه قويه من انهم قادرون على دحر السوفييت في اي حرب قادمه معهم
اعزائي القراء
تم إستغلال تركيا بعد الحرب العالميه الثانيه ايما إستغلال فلقد شارك جنودها في الحرب الكوريه بشكل فعال فأرسلت لواءاً من جنودها إلى مساعدة الغرب لتصبح ثاني أكبر الدول المشاركة بعد أمريكا من حيث عدد الجنود. وحظى هؤلاء الجنود الأتراك بشهرة كبيرة بوصفهم أكثر الجنود الشجعان في المعارك وذهب منهم ضحايا بأعداد كبيره حيث لم يكن لتركيا اي حصاد في هذه الحروب سوى ان عليها دورآ في الدفاع عن الغرب لقاء نكتة كبيره صدقها الحكام الأتراك من انهم جزء من العالم الغربي.فلقد كان كل ما تطلبه امريكا من جنود تركيا ان ينطقوا بكلمة الله اكبر اثناء خروج الجنود الأتراك من خنادقهم لمعرفتها بالتأثير القوي والإيجابي على معنويات الجنود بينما كانت تدعم العلمانيين الأتراك لتغيير مسار تركيا الإسلامي
ولم يكتفِ الغرب بإستغلال تركيا كرأس حربه لتنفيذ مصالح الغرب على الجبهه الأوروربيه, بل جعلوا منها فزاعه للدول العربيه لتخفيف الضغوط على إسرائيل فتم ربطها مع الأمن الإسرائيلي ولا زلت اذكر اعوام الخمسينات والستينات القرن الماضي كيف كانت العلاقات التدهوره بين الجارتين سوريا وتركيا الى درجه ان جواز سفري الذي كنت استخدمه لمتابعة دراستي في اوروبا مكتوب عليه يسمح له بالسفر الى جميع الدول ما عدا إسرائيل وتركيا.لقد إستغلت إسرائيل هذا الوضع المتدهور بسبب تسلط تيار القوميين من الطرفين على تحريض الجارتين على بعضهما فأوجدت بيئه مناسبه لها في تركيا بدعم غربي لتثبيت مصالحها فيها فقد وَقعّت مع إسرائيل معاهدة تعاون عسكري مشترك، يضمن بموجبها عدم اعتداء عليها من أية دولة من دول الشرق الأوسط، والرد عليها إن حدث ذلك , وعلى صعيد آخر فهناك لجنة مشتركة بين اسرائيل وتركيا لبحث موضوع المياه الفائضة في تركيا والشحيحة في اسرائيل، ويرأس الفريق الاسرائيلي في اللجنة مدير مكتب رئيس الوزراء ( افيجدور اسحاق) ويرأسها من الجانب التركي نائب وزير الطاقة
ولا تفوت اسرائيل مناسبة إلا وتحاول اثبات الحضور في تركيا، فحين وقع الزلزال الذي راح ضحيته أربعة آلاف تركي في عام ١٩٩٩، سارعت اسرائيل الى ارسال فرق الانقاذ، وأقامت قرية صغيرة في ضواحي مدينة «امنه بازاري»، ضمت ٣٥٠ منزلا (تكلفت ١٠ملايين دولار) اسهاما منها في إيواء الذين شردهم الزلزال، وفي مدخل القرية ثبتت لوحة حجرية كبيرة كتبت عليها باللغتين الانجليزية والتركية: القرية الاسرائيلية ـ التركية، هدية من الشعب الاسرائيلي والحكومة التركية الى شعب امنه بازاري، والى جوارها رفع العلمان التركي والاسرائيلي، وبهذه اللفتة الدعائيه حاولوا إثبات نجاحهم في الريف التركي
في خمسينات القرن الماضي برز إسم عدنان مندريس رئيسآ لوزراء تركيا كشخصيه ذكيه ذات طموح في إحداث تغيير في التوجه التركي وإرضاء تيار كبير من الشعب بمنحه بعض الحريه الدينيه . كان عدنان مندريس عضوا في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك ونائبا عن الحزب المذكور في البرلمان، لكنه اتخذ في عام ١٩٤٥ إلى جانب ثلاثة نواب آخرين موقفا معارضا لزعيم حزبهم ورئيس الوزراء عصمت إينونو خليفة أتاتورك وحامي ميراثه العلماني، انفصل النواب الأربعة ليشكلوا حزبا جديدا هو الحزب الديمقراطي بزعامة مندريس متحدين إجراءات منع الأحزاب آنذاك .إستطاع عدنان مندريس ان يحصل على دعم مجلس النواب التركي لخمس فترات متتاليه في الحكم حافظ فيها حزبه على اغلبيه نيابيه وإحتفظ لنفسه لمنصب رئيس مجلس الوزراء منذ ٢٢ مايو ١٩٥٠ وحتى الإنقلاب العسكري التركي عليه والذي قاده الجنرال جمال جورسيل بتاريخ ٢٧ مايو١٩٦٠ بدعم امريكي بالرغم من انه لم يجر اي تغيير في تحالفاته الخارجيه مع الغرب وإسرائيل, بل كل مافعله الرجل انه تجاوب مع بعض رغبات شعبه والذي يحمل بين جوانحه غيرة على دينه حدآ يفوق الوصف
اعزائي القراء لا نستطيع الجزم من ان الرجل كان مؤمنآ بالتغيير التدريجي والإنفتاح على دين الشعب التركي إلى اقصى مداه ,ام ان غايته كانت الوصول الى اصوات الناخبين والذين زادت نسبة المتدينين فيهم . وعلى اي حال فلقد اعاد الرجل الأذان الى اللغه العربيه وفتح الجوامع امام الصلوات الخمسه واعاد مدارس تعليم القرآن الكريم . هذه الجمله من الإصلاحات الدينيه والتي لم تمس السياسه الخارجيه إطلاقآ كلفت الشعب التركي خسارة للديموقراطيه بتنفيذ جمال جورسييل لإنقلابه بإيعاز امريكي وتم إعدام الرجل شنقآ في جزيرة يصي أدا في اواسط إيلول / سبتمبر١٩٦٠, وبالرغم من ان الرجل ترعرع في عباءة العلمانيه التركيه الا انه قاد اول تغيير في حياة المجتمع التركي نحو إعطاءه مزيدآ من الإنفتاح على عقيدة الأمه
في خمسينات وستينات القرن الماضي كانت المانيا الغربيه في ذلك الوقت تعيد بناء ما هدمته الحرب العالميه الثانيه وكانت حاجتها الى عماله تعوض عن خسارتها لملايين الجنود الذين سقطوا في الحرب امرآ حيويآ لإعادة بناء إقتصاها المُدَمر, أذكر انه في عام ١٩٦٢ كنت اقوم بتدريب في احد مصانع التبريد في مدينة هانوفر كان معظم العمال الذين يديرون المصنع من إيطاليا وإسبانيا , ثم بدأت بعد ذلك العماله التركيه تتزايد علماً من ان ايطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان وكلها دول اوروبيه وتكابد حالة بطاله عاليه وبحاجة الى من يأخذ بيدها الى مجال العمل وهو متوفر في ذلك الوقت في المانيا الغربيه, الا ان دخول الأتراك على خط العماله في المانيا كان وراءه سببآ جوهريآ وهو رغبة المنظرين الغربيين بصهر هذه الطبقه العامله بالحضاره الغربيه وتقليل اثر الدين في حياة الأتراك في المانيا .فشل الألمان والمنظرون فشلآ ذريعآ في تحقيق غايتهم وحصلت بين المتطرفين الألمان والأتراك معارك ساخنه. كان لها تأثيرآ سلبيآ على تمتع الأتراك والذين يزيد عددهم عن ٣ ملايين تركي في المانيا بالحصول على حقوقهم . نتيجة لهذا التأثير السلبي فلقد تحرك رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوجان محذرآ حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من مغبة استمرار السياسة القائمة على حرمان الجالية التركية في ألمانيا من حقوقها الطبيعية وطالب أردوجان حكومة ميركيل بالسماح بإقامة مدارس وجامعات تركية في بلادها، ومنح مواطنيه الأتراك المقيمين في ألمانيا جنسية مزدوجة، ودعم حصول بلاده على العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي
اعزائي القراء في الحلقه الثانيه سنتكلم عن صعود التيار الإسلامي المثقف بقيادة البروفوسور المهندس نجم الدين أربكان مؤسس حزب السلامه والرفاه واستاذ كرسي لمادة الثرموديناميك في جامعة إستنبول ثم لتقلده منصب نائب رئيس مجلس الوزراء في فترة سياسية حرجه وتنازع دولي حول جزيرة قبرص فإلى اللقاء