الانتماء للإنسانية.. مصطفى جمال الدين نموذجا

الانتماء للإنسانية..

مصطفى جمال الدين نموذجا

عماد كامل

العراق- البصرة

[email protected]

يعد الأدب عامل مهم في صناعة الحضارة الإنسانية،لأنه يسهم في الارتقاء بالواقع الثقافي من خلال عكس التجربة الشعورية للمجتمع.لذا فقد أسهم الأدب بشكل عام والشعر منه خصوصا بشكل فاعل في مواجهة التحديات التي تواجه المجتمع،عبر ممارسة عملية الكشف والتعرية للسلوكيات المنحرفة.

ومن الشخصيات الأدبية التي سخرت شعرها لخدمة المبدأ الذي كان يؤمن به وهو(الإنسان أعلى قيمة في الوجود) الشاعر مصطفى جمال الدين،ولعل مثل هذا المبدأ الذي عكسه الشاعر في شعره من المبادئ التي يصعب تحقيقها في العراق بل وفي اغلب الدول العربية لأنها لا تزال تعيش تحت وطأة أنظمة حكم تمارس القمع،وتغيب فيها حق المواطنة وحقوق الإنسان، وفي خضم الأزمة الحادة بين الشعب العراقي والسلطة تشكل وعي جمال الدين، وأصبح التغيير هاجسه ومصدر قلقه الدائم، فصاغه شعرا يعكس من خلاله مأساة شعبه.

اذ يمكننا ان نلاحظ التمرد والسخط على الواقع والنقمة على الحكام في قصائده المتنوعة التي نظمها في أكثر من مناسبة،فهو يرى ان الحرية كأشعة الشمس يجب أن تمنح لكل وطن ومواطن، في حين نرى كثير من الشعراء الذين عاصروا مصطفى جمال الدين سخروا شعرهم لخدمة النظام فمجدوا شخصه ومواقفه القمعية.

رؤية جمال الدين لازمة المواطنة في العراق:

ألازمة هي تعبير عن عدم التكيف مع وضع غير عادي يرتسم على مرايا النفس فيحدث نوعاً من الاغتراب والإحساس بالضياع(1)وكذلك هي عملية فصل وقطع عن حالة مألوفة،وهذا الفصل يصاحبه قلقا واضطرابا على المستوى النفسي والاجتماعي،إلا إن الأزمات في الوقت ذاته تفعل وتنشط العقل لكونه يبحث عن مخرج لتلك الأزمة التي يمر بها الفرد أو المجتمع.

ويمكننا القول إن المجتمع العراقي هو مجتمع متراكم الأزمات لذا فأنه يعجز عن خلق حلول مناسبة،وتراكم الأزمات إلى حد الاستعصاء دلالة على التردي، ولكي تكون للازمة نهاية فلابد أن يقوم بين الواقع والفكر جدل التحدي والاستجابة،فالفكر الذي يرفض أن يكون انعكاسا للواقع،يمتلك القدرة على التخطي وطرح البديل باعتماده على بذور التغيير الكامنة فيه،من هنا يضطلع المثقف بدور لا يقل أهمية عن السياسي في مواجهة ألازمة مع إن لكل منهم خصوصيته وأدوات اشتغاله إلا أنهما يتفقان في غاية واحدة وهي تجاوز الواقع وتغييره.

وغياب (المواطنة) واحدة من الأزمات التي مر بها المجتمع العراقي ولا يزال يكتوي بنارها وهي والتي أدت بدورها إلى تقليص الحريات الفردية والجماعية،وهذا الموضوع شغل مساحة كبيرة من شعر مصطفى جمال الدين لأنه كان يرى إن الحرية هي المناخ الصحي الذي تنمو فيه الأفكار.

لذا يقول في قصيدته(بغداد):

بغداد آن لك الأوان لترجعي

ما ابتز منك الحاكمون وزوروا

فوراء مجد يرفعون ضمائر

تعنى بصدق حديثه وتفسر

فتنقذي(ذهبا) يؤطر عصرك الزاهي بما يعشي العيون ويبهر

هل كان إلا من(حديد) همه

حصد النفوس ليستقر(المنبر)

إلى أن يقول:

المال بين يديه،يطرب أغيد

ببليغ رنته،ويرقص احور

فإذا تطلع (للسواد) بريقه

بح الرنين به،وغاض العصفر(2)

وقد اختلف المفكرون في سبب غياب المواطنة فمنهم من ربط ظهور هذه ألازمة بتصدّع البنى الاجتماعية والانهيار الاقتصادي(3)وآخرين يعزونها (إلى القيادة السياسية التي تصدرت المجتمع قبل الاستقلال وبعده(4)والواقع المزري للمواطنة في المجتمع العراقي كرس الظلم والاضطهاد لأنها كانت وقفاً على فئة قليلة من الناس، احتكرت لنفسها حق السيادة على الشعب، فجعلت من المواطن أداة استغلال يعيشون كالسائمة، دون أن يكون لهم حق في أن يحسُّوا أو يفكروا في هذه المواطنة القائمة على الاحتكار، فخلقت لها امتيازات وحقوقاً أبدية على الأموال والرقاب معاً، فأخضعت القوانين لمشيئتها، وحالت بين المواطن وبين التطلع لحياة أفضل.

من هنا فأن العلاقة بين الفرد والدولة حتما ستكون علاقة سيئة،اذ يسودها القهر والتسلط،ويتولد لدى المواطن شعور بالغربة،وغياب الحس الوطني،مما يولد ظهور التمرد كرد فعل على الواقع المأساوي،لان التمرد الاجتماعي لا يختلف عن التمرد السياسي من حيث هدفه الواضح ومنطقه الواعي.وهذا الواقع استطاع أن يؤثر على المنظومة الثقافية للمجتمع العراقي جاعلا منها منظومة ثقافية شاملة،استطاع النظام من خلالها أن يكرس مفهوم الطائفية والعشائرية،لذا فأن جمال الدين كان ينظر إلى الثقافة على إنها أداة للنهوض والمواجهة، إنتاج وإبداع،وليس استهلاك وتكرار، كان يرى إن الثقافة هي السلطة،وليست الثقافة أداة بيد السلطة.

ومن محاولاته الفذة التي استطاع من خلالها نشر الثقافة المنفتحة على الآخر, المبنية على التجديد إسهامه الفاعل في المطالبة بتجديد المناهج الحوزوية والتطور في إدارة شؤونها بما تقتضيه ظروف العصر،فيقول عن إحساسه بعمق المسؤولية الملقاة على عاتقه كشاعر منافح عن هذه المدرسة التي ينتمي إليها(كنت أحس بعمق الاهتزاز الذي تتبطنه مقررات هذه الجامعة الدينية،وجمودها،وعدم أخذها بأسباب التطور المطلوب، لذلك كان شغلي الشاغل كشاعر يستطيع أن يوصل فكرة للناس بأقرب وسيلة،وأكثرها إثارة لحماس الذين يشعرون مثلي بهذا النقص والجمود،أو هم على استعداد للشعور به،لذلك حشدت كل طاقتي وأنا أشارك بكثير من حفلاتها العامة،أن أثير هذا الموضوع،وبخاصة في الحفلات التي تعقد لتكريم احد مراجع الدين أو تأبينه)(5)

الوطن في مفهوم جمال الدين

مذ وجد الإنسان أصبح يعبر عن وجوده تعبيرا اجتماعيا،إذ قدم من خلال ولوجه في دائرة المجتمع بعض من رغباته الفردية من اجل الجماعة التي ينتسب إليها.وقد تعددت ظاهرة الانتماء ضمن المجتمع الواحد وتأطرت بأطر مختلفة منها العشيرة والقبيلة،وتولدت نتيجة لهذا الانتماء روابط اجتماعية ورثها السلف عن الخلف وفق الحيز المكاني والزماني الخاص بكل مجتمع.

ويشترك المنتمين ضمن الدائرة الواحدة وان كان خارج دائرة الوطن الواحد بعوامل عدة منها اللغة والدين،أما الانتماء إلى الوطن فيعني الشعور الذاتي الذي يشعر من خلاله المواطن انه جزء من وطنه الذي يعيش فيه،ويعزز انتماء المواطن بقيمة انتماءه لوطنه كلما أصبح المستقبل أمامه أكثر استشراقا لذا يرى بعضهم إن الانتماء كي يكون إنسانيا لابد من إدراك الماضي والحاضر واستشراف المستقبل ليكون من خلاله وعيه التارخي.(6) وكلما ارتفع مستوى الوعي لدى الفرد في المجتمع تمكن من خلاله التعبير عن أصالته وذلك عبر هضم موروثه الثقافي والسعي إلى تطويره وفق الوسائل الحديثة ليتمكن من الإسهام مع المجتمعات الأخرى في توسيع آفاق التقدم الحضاري.

ويتسم الانتماء للوطن بسمة الولاء التي تعني الترجمة العملية للشعور بالانتماء على السلوك الفردي تجاه وطنه،إذ يكون الفرد على درجة عالية من الإخلاص والتفاني تجاه وطنه في مجال تخصصه الذي يعمل فيه،وفي هذا المجال يقول مصفى جمال الدين في قصيدة كتبها لأحد أصدقائه وهو المدعو أبا علي الذي اضطرته الظروف السياسية الى العمل مدرسا في السعودية

أبا علي وكثير على

مثلك أن يهجر ريع الشباب

ان يسلم الزرع إلى حاطب

ويترك الضرع لسوء احتلاب

بغداد بغدادك لا للاؤلى

(مرو على (الدهنا) خفاف العباب)

ثم أفاق (الكوخ) من حولهم

يسأل عن سكان هذي(الهضاب)

بغداد أبناؤك في (غربة)

وأنت للعافين دار اغتراب

وبهذا فأن جمال الدين يجسد انتمائه الإنساني على الصعيد الثقافي معبرا عن آفاق إنسانيته الرحبة،موظفا قلمه في قضايا الوطن والإنسان وكأن العالم وطنه على الرغم من اغترابه في داخل الوطن وخارجه.وقد عبر عن انتمائه الصادق لوطنه في قصائده وما يحمل في قلبه من شوق وحنين إلى الوطن،وهو وفق هذا التصور منتمٍ إلى وطنه وأمته والعالم، لأن نظرته إلى الوجود نظرة كونية بلا حدود، لهذا فقد انطلق من رؤية شاملة دون أن يفقد خصوصيته، تحقيقاً لوحدة الإنسان بين انتمائه الوجودي، وانتمائه الإنساني الكوني.

ويعد مفهوم المواطنة جزءاً من مشكلة الهوية والمفاهيم التي ارتبطت بها، إذ عرفها البعض بكونها (انتماء إلى تراب تحده حدود جغرافية، فكل من ينتمون إلى ذلك التراب مواطنون يستحقون ما يترتب على المواطنة من الحقوق والواجبات التي تنظم بينهم، فالرابطة بينهم عَلمانية، وكذلك بين المواطنين وحكوماتهم رابطة علمانية أيضاً، تخضع لمقاييس النفع والضرر، نفع المواطن، ونفع الوطن، ولابد من انصهار المواطنين جميعاً بكل أديانهم ومذاهبهم ومللهم وجذورهم العرقية في هذه الرابطة الترابية المشتركة، وكذلك تنازلهم عن أية خصوصيات تتعارض مع هذا الإطار، كما أن هذه الرابطة تهن وتقوى بمقدار ما يتحقق من نفع لشركاء التراب الواحد)(7)ومصطفى جمال الدين وفق هذا المنظور انتقد النظام الحاكم في العراق،لأنه لم يجسد حقوق المواطنة في العراق وبالتالي فهو لا يحضى بالشرعية لأنه غير مؤهل لترسيخ روح المواطنة بين أبناء المجتمع الواحد.

والمواطنة في جوهرها سلوكا حضاريا يهدف إلى تحرير الإنسان من كافة أشكال العنف والإقصاء في إطار دولة مبنية على أساس المؤسسات المدنية،ويجدر الإشارة إلى إن مفهوم المواطنة شاع تداوله كمفهوم سياسي واجتماعي بعد الثورة الفرنسية إذ (شهد العالم أول وثيقة عرفت باسم إعلان حقوق الإنسان عام 1786، كما أقرت فرنسا أول دستور عام 1791، وكانت كليات الحقوق في الجامعات الفرنسية هي الرائد الأول في هذا المجال)(8)

وبين لفظتي الوطن والمواطنة تقارب شديد عرف عند اللغويون القدامى،فقد صور الجاحظ العاطفة الفطرية للإبل وحنينها إلى أوطانها بقوله( إني فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار والنزوع إلى الوطن، فسمعته يذكر أنه إذا اغترب من بلد إلى آخر، أمهد عن وطنه وأعمر من مكانه، وأخصب من جنانه، ولم يزل عظيم الشأن، جليل السلطان، فكان إذا ذكر التربة والوطن حن إليه حنين الإبل إلى إعطانها)(9)

ولعل تجربة الغربة والابتعاد عن الوطن لدى مصطفى جمال الدين وهجرته عن وطنه لم تزده إلا تشبثاً بالأرض والأهل والأصدقاء، فمن خلال إقامته في سوريا ظلت صورة الأهل عالقة بالذاكرة، رغم أنه جرد من حقوق المواطنة في بلده الذي ينتمي إليه، وبذلك اثبت جمال الدين أصالة انتماءه لوطنه،مبرهنا على صدق وطنيته الخالصة التي عكسها في شعره على الرغم من شقة البعد بينه وبين وطنه إذ يقول في قصيدته لرمادها ورماد الوطن:

يا أنت يا وطن حملت ربوعه

في غربتي، وجمعته بشتاتي

عيناك منبع رافديه، وملتقى

فرعيك خضر مروجه النضرات

وإذا نطقت سمعت عذب لحونه

بخرير ساقية،وعزف رعاة

إلى أن يقول

أم أنت يا وطنا تركت ربوعه

نهبا لنار وغى ونار ترات

أزمعت ألا تعكسيه بخاطري

إلا كما هو:كالح القسمات

وطني رماد جنائن محروقة

وأنا وأنت،هنا،رماد حياة(9)

يتضح مما سبق إن أزمة المواطنة أحدثت خللا عميقا في البنى النفسية والخلقية للفرد،وهي في الوقت ذاته متعددة الوجوه والأبعاد،إذ تجسد الوجه الآخر لبؤس الواقع العراقي الذي ما يزال يعاني أزمة على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتي مردها إلى أزمة الفكر السياسي الذي أحدثته تراكمات التخلف الحضاري عبر المراحل التاريخية الماضية.وقد برز الدور الريادي للشاعر مصطفى جمال الدين في الدفاع عن انتمائه الوطني والإنساني،متصديا لكل ما هو عنصري سواء عند الحكام أم لدى الأفراد في المجتمع،ليتجسد إنسانية الإنسان في إطار المجتمع والدولة، إذ إن المواطنة الصحيحة تعمق الانتماء للوطن وتجذره.

              

(1) ينظر:الاغتراب، ريتشارد شاخت: ترجمة كامل محمد حسين. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980.

(2) ديوان مصطفى جمال الدين،وزارة الثقافة والإعلام،العراق،بغداد،1972، 111-112

(3) أزمة العقل: فؤاد زكريا، مجلة الفكر، عدد آذار 1970 بيروت، ص56.

(4) أزمة العقل العربي: حامد خليل: ، دار كنعان، دمشق، ط1، 1992، ص6-6.

(5) ديوان مصطفى جمال الدين31

(6) ديب أبو لطيف: الوعي والانتماء، مطبعة الصباح، دمشق 1986، ص35.

(7) راشد بن الغنوشي: حقوق المواطنة، المعهد العالي للفكر الإسلامي، هيرندن، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط2، 1993، ص10 وما بعدها.

(8) جورج جبور: العروبة ومظاهر الانتماء الأخرى، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1976، ص 14 وما بعدها.

(9) عمرو بن بحر الجاحظ: رسالة الحنين إلى الأوطان، صححها وعلق عليها الشيخ طاهر الجزائري، دار المعارف، القاهرة 1952، ص4

(9) ديوان مصفى جمال الدين 208