في إطار الأسبوع الوطني الفلسطيني للقراءة
العودة إلى الكتاب
د. لطفي زغلول /نابلس
بداية هناك ازمة قراءة في اقطار العالم العربي ومنها فلسطين . وتقف عوامل كثيرة وراء تراجع فعالية القراءة والتخلي التدريجي عن مصاحبة الكتاب ومصادقته سواء لدى الاطفال او الناشئة او حتى الفئات العمرية الأكبر سنا ، في عصر يفترض ان من اهم ملامحه وسماته تطور تقنيات الطباعة وتحديث اساليب اخراج الكتب وسهولة انتقالها من مكان الى آخر . وحينما نشير الى التطور التقني - باعتباره احد هذه العوامل - بالاتهام ، فاننا قد لا نكون مبالغين بذلك .
إلا اننا نستدرك ونقر احتراما وتقديرا للعلم والتقنية انهما ليسا مسؤولين مباشرين ، وانما جراء الفهم الخاطىء لرسالتهما والنظرة اليهما على ان من اهدافهما تحرير الانسان من مسؤولياته تجاه التفكير ومشقة البحث عن وسائل لحل مشكلاته ، وانهما ايضا جاءا ليطرحا بين ايديه آليات عديدة غير الكتاب تمده بالمعلومة التي يسعى اليها ، وبأسرع مما يتصور واسهل وادق واكثر تشويقا .
وحقيقة الامر لقد استولت التقنيات العلمية المتطورة " التلفاز عبر فضائياته والكمبيوتر بكل برامجه ، وشبكة الانترنت ، وأجهزة الإتصال الخلوية " وما زالت على مساحة كبيرة من اهتمامات المتعلمين وأوقاتهم ، وبخاصة الفئات العمرية الفتية والشابة في كل المراحل التعليمية . إضافة إلى هذه ، هناك الرسوم المتحركة ومسلسلات العنف والخيال العلمي ، والبرامج الترفيهية ، وبرامج تلفزيون الواقع ، تلقى رواجا لدى شرائح واسعة منهم .
وثمة الذين هم من فئات عمرية اعلى يشغلون جل اوقات فراغهم في الجلوس الى الكمبيوتر الذي يعتبرونه الوسيلة الأكثر رقيا والأكثر ملاءمة لروح العصر والأقدر على التزويد بكل الرغبات والمطالب المعرفية . وقد تكون شبكة المعلومات الدولية الانترنت في هذا الصدد اكبر منافس للقراءة والكتاب كونها تشكل محيطا هائلا لا ينضب من العلم والمعرفة في عصر المعلوماتية الذي فرض ثقافة التلقي والتلقين في اجواء من الانبهار والاندهاش جعلت المتعاملين مع هذه الشبكة ينظرون الى الكتاب نظرة صغار ودونية وعدم اكتراث واحترام او حتى التفات اليه .
وباختصار فان الداخلين في عبودية هذه المنظومة التقنية ايا كانوا وبخاصة من هم من المتعلمين تزداد اعدادهم يوما بعد يوم . واذا ما اضفنا الى كل ذلك غياب استراتيجية تربوية تأخذ على عاتقها فاعلية ترشيد استخدام هذه التقنيات والموازنة ما بينها من جهة وما بين القراءة والكتاب من جهة اخرى ، تتضح لنا معالم " المشهد القرائي " الذي تخيم عليه اجواء قاتمة .
واذا كنا لم نتطرق الى العوامل التقليدية الاخرى في هذا السياق ، واستهللنا حديثنا بعامل التطور التقني ، فلا يعني اننا نقلل من دور المؤسسة التربوية المتمثلة بالمدرسة بكل مراحلها والمنهاج واساليب تطبيقه ، كونها هي المسؤولة المباشرة عن المحصلة النهائية للأهداف التربوية المطروحة بغية تحقيقها .
وحتى الآن لم تتمكن المناهج التربوية العربية ومنها المناهج المطبقة في فلسطين من احداث نقلة نوعية في بنية التعليم التحتية او هيكليته او مدخلاته . وظلت الصورة التقليدية المتمثلة في نقل المعلومة من الكتاب المقرر تلقينا الى ذهن المتعلم ، واعتماد الحفظ وحشو المعلومات هي الوسائل السائدة .
وهذا بطبيعة الحال دفع المتعلمين الى التركيز بشكل محلوظ على المادة المقررة دون سواها ، كون اية معلومة خارج نطاق المقرر - حتى ولو كانت صحيحة - لا ينظر اليها بجدية وفي الغالب لا تحسب عند الفحوص والاختبارات ، ذلك ان الاجابات قد حددت سلفا . ومن ناحية اخرى فقد افتقرت البرامج التعليمية الى حصص مكرسة للقراءة الخارجية ، أو ما كان يسمى القراءة الصامتة . واذا ما صدف وكانت هناك حصة او اكثر فانها غالبا ما تحول الى حصص تقوية في موضوعات مقررة اخرى اسوة بباقي حصص الأنشطة الاخرى .
ومع ذلك ففي اعتقادنا ان الصورة ليست قاتمة الى الحد الذي يحملنا الى الاحباط واليأس. ان القراءة عادة . وكما تعلمها السابقون واحبوها وصادقوا الكتاب باخلاص ووفاء ، يمكن لابناء هذا الجيل ان يسيروا على نفس الخطى ، ولكن ضمن خطة مدروسة كي ما تصبح القراءة ثقافة وطريقة حياة ، ولكن في ظل اجواء نقية مهيأة لتفعيل هذه العادة ، وهي تبدأ بالمدرسة والمنهاج الملقى على عاتقهما توليد اتجاهات ايجابية وتعزيزها .
وهذا لا يعني اننا نعود الى الماضي لننهل من اساليبه فحسب . وفي هذا السياق نود ان نشير الى انه في البلدان الصانعة لأرقى الوسائل التقنية الحديثة ، ما زال سوق الكتاب رائجا ، وما زالت القراءة احدى اهم الفعاليات والهوايات لدى شرائح عمرية وثقافية واجتماعية مختلفة .
وتظل حقيقة الحقائق ان القراءة عادة ، وكونها كذلك يصبح من السهل التحكم باتجاهاتها ، ويتمثل ذلك في جعلها جزءا من المنهاج التربوي والبرنامج الاسبوعي والنشاط المدرسي . وان اساليب كتابة التقارير والاوراق العلمية والبحوث ومراجعة الكتاب وتلخيصه يمكن ان تسهم في تطوير العملية التربوية وفي مقدمتها ازدهار فعالية القراءة .
وفي ذات السياق فإن الإعتقاد السائد ان الحوافز بكل اشكالها تلعب دورا رئيسا في تطويرها وبلوغ اهدافها . وهذا يفرض على المنهاج والقائمين عليه ان لا يعولوا اعتمادهم المطلق على الكتاب المقرر . إن هذا التوجه على الارجح يلعب دورا سالبا في ترك عادة القراءة الخارجية والنظر اليها على انها غير مجدية كون كل معطياتها ومخرجاتها خارج اطار المنهاج المقرر . ان القراءة فعالية مستمرة ، ولا ينبغي ان يحتفل بها في اسبوع واحد من السنة وانما يفترض ان تحتل فعالياتها مساحة شاسعة من العام الدراسي وحتى العطلة السنوية .
كما يفترض ان تساهم في احياء هذه الفعاليات مؤسسات رسمية وشعبية لا ان تلقى اعباؤها على طرف دون آخر يتذكرها دون سواه ويذكر بها . وعلينا ان نتذكر ان الذي صنع كبار الفلاسفة والمفكرين والأدباء والمبدعين الانسانيين الآخرين هو الكتاب . فهو المعلم الأول الذي علمهم المثابرة على طلب العلم وتحصيله . وهو الذي علمهم كيف يفكرون ويحلون المشكلات .
وكلمة قد لا تكون الأخيرة في هذا السياق . إننا اذا ما اردنا لأطفالنا ان ينشأوا فاعلين قادرين علىالتفكير والابداع والتقويم والتعليل والتحليل والتفكير الناقد والاستحواذ على كنز من الذخيرة اللغوية ، فلنجعل الكتاب كالخبز والماء والهواء بين ايديهم ، ولتكن القراءة جزءا لا يتجزأ من حياتهم . ومهما تعددت التقنيات فلن تلغي دور الكتاب الذي هو الاساس . فما احرى العودة اليه .