إيجابيات المكان وسلبيات الزمان
إيجابيات المكان وسلبيات الزمان
صبحي غندور*
في 18 كانون الأول/ديسمبر 1994، جرى النشاط الأول لمركز الحوار العربي في واشنطن، فكانت بداية لتجربة حوارية دورية ومنظمة بين كفاءات عربية في العاصمة الأميركية. تجربة حوارية وظّفت إيجابيات المكان الأميركي من أجل التعامل مع سلبيات الزمان العربي. فالمكان - منطقة واشنطن- فيه الكثير من الإيجابيات، أذكر منها: نوعية الكفاءات العربية التي تعيش هنا بشكل دائم أو مؤقت، فهذه الكفاءات تشمل أساتذة جامعات وإعلاميين ومفكرين وطلبة جامعات ورجال أعمال وسفراء ودبلوماسيين ومسؤولين عن الجمعيات العربية الفاعلة في الساحة الأميركية. وهذا التنوّع في المهن، وهذه النوعية المهمة من الكفاءات العربية، يرافقهما من حيث إيجابيات المكان والظروف، تنوّع في الانتماء الوطني لمعظم البلدان العربية وأيضاً في الانتماء لأكثر من دين وطائفة.
وفي إطار إيجابيات ظروف المكان، أضيف أيضاً، أنّ واشنطن أصبحت مزاراً مهماً للعديد من الشخصيات العربية الفاعلة في المجتمع العربي على الصعيدين الرسمي والمدني، والتي لم يكن متاحاً لها كثيراً في السابق فرص اللقاء مع الكفاءات العربية المقيمة هنا.
ولعل أهم عنصر في إيجابيات المكان الأميركي، والذي اعتمد عليه “مركز الحوار العربي” في تأسيسه، هو إمكانية التفاعل بشكل حر وديمقراطي بعيداً عن أجواء الحذر والخوف من تبعات الكلمة. فكانت ضمانات حرية الكلمة هي المقدّمة الأولى لفكرة تأسيس مركز الحوار العربي، وللحوار الحر الديمقراطي فيه.
ومن وحي إيجابيات ظروف المكان، بل ومن المستلزمات الأساسية لإنجاح الحوار بين هذه الكفاءات العربية، كان لا بدّ أن يقوم مركز الحوار العربي، على أرضية عربية مشتركة لا تميّز على أساس خصوصيات دينية أو وطنية أو عرقية.. بل تسعى لبناء حوار عربي جاد يسمح للكفاءات العربية المتفاعلة فيه، بأن تمارس واجبها، بل مسؤوليتها، تجاه رداءة الزمن العربي الراهن، وما فيه من سلبيات تشمل العرب أينما كان.
إنّ مركز الحوار العربي بدأ ويستمر في زمن عربي لم تعد هناك فيه قضية واحدة تجمع العرب، ولم يعد هناك همّ واحد للعرب.
ما حاولته تجربة "مركز الحوار" في أعوامها السابقة كلّها، وبالإصرار عليه، هو مسألة الجمع بين الهوية العربية الحضارية في الهدف، والحوار العربي في الأسلوب. أيضاً، السعي قدر الإمكان للتنسيق، ولو في الحدّ الأدنى، بين الطاقات الفكرية والثقافية والحركية العربية المتواجدة بمنطقة واشنطن. فكانت تجربة المركز كدور المنسّق، ودور المجمّع لقطع قيّمة جداً، لكنها مبعثرة بحكم الظروف قبل أي شيء آخر، وكلٌّ منها مهمّ جداً بذاته وبموقعه، لكن حينما تجتمع هذه القطع المبعثرة، فإنها تُشكل وحدة نوعية عربية جديدة بمرور الزمن والتفاعل المستمر.
هذا ما طمحت إليه هذه التجربة منذ نشأتها، وليس المنفعة الذاتية والربح المادي، فطبيعة عمل هذه التجربة أصلاً لا يحقّق ذلك، إنّها تجربة سبحت وتسبح عكس التيار الراهن بكل سماته اللاعربية هنا وهناك!..
ما تطمح إليه هذه التجربة الحوارية العربية الفريدة هو المساهمة، ولو الجزئية المحدودة، في بناء عناصر لنهضة عربية جديدة.. كيف؟
لأنّ النهضة العربية الجديدة لن تتحقّق ما لم يصل العرب إلى قناعات حاسمة بـ:
(1) إن أُسلوب الحوار بينهم ( أي بين العرب)، هو المطلوب وهو الأجدى قبل أي حوار عربي مع غير العرب.
(2) حسم الهوية العربية التي تقوم على مراعاة واستيعاب خصوصيات التعدّد الوطني والديني والعرقي في المجتمع العربي.
(3) حسم البُعد الحضاري الإسلامي في الثقافة العربية وفي الحياة العربية أينما كان..
(4) إقرار مبدأ ووسائل التفاعل الديمقراطي الحر المطلوب لبناء أي وطن، وبالتالي حقّ الرأي الآخر بالوجود والتعبير، وضمانات الحريات العامة في المجتمع.
(5) أهمّية تكامل الطاقات العربية وعدم إلغاء وجود بعضها كمبرّر لوجود البعض الآخر، على مستوى الأفراد أو الجماعات.
إنّ هذه القناعات الخمس هي خلاصات تجربة "مركز الحوار" التي استهدفت زرع نبتة جديدة في حقل الفكر والثقافة العربيتين، نبتة خير قد تؤدي إلى ألف سنبلة عربية في أكثر من مكان.
إنّ مركز الحوار العربي هو صيغة جديدة غير مسبوقة عربياً في الساحة الأميركية، وبالتالي له خصوصيات لا تقارن بالمؤسسات الأخرى القائمة. فالمركز أساساً يعتمد على الحوار المباشر الدوري لقضايا عربية متنوعة بين عرب وعرب مقيمين في منطقة واحدة، إضافة إلى اهتمامه بالحوار مع الأميركيين غير العرب من خلال ندوات خاصة ومن خلال مطبوعة "الحوار" وموقع "الحوار" على شبكة الإنترنت.
أي ليس "مركز الحوار العربي" كالجمعيات التي تعتمد على التحرّك والعلاقات خارج مكاتبها وفي أماكن متعددة.. وليس هو كمراكز الأبحاث والمعاهد التي تركّز على مجال واحد هو مجال الفكر، أو من خلال الكتابة والنشر فقط... وطبعاً ليس هو بنادٍ اجتماعي ترفيهي، أو بمقهى للتسلية والعلاقات الاجتماعية. فخصوصية تجربة المركز تتضّح في مجال الأنشطة الأسبوعية التي تشمل تنوّعاً بالمحاضرين وبالحضور وبالموضوعات، لكن على أساس من وحدة الهدف (تعزيز الهوية الثقافية العربية) ووحدة الأسلوب (الحوار الجاد).
إنّ المشاركة الدائمة والتعاون الحاصل بين معظم المشتركين في المركز، قد حقّقا ولا يزالان الأهداف التالية:
· المعرفة الأفضل لمعنى العروبة وللهوية الثقافية العربية، وللتلازم بين العروبة ومضمونها الحضاري الذي يشمل العرب المسلمين وغير المسلمين منهم.
· الإدراك الأحسن لدور الدين في الحياة العربية، ولما جاءت به الرسالات السماوية عموماً من قيم ومبادئ حضارية صالحة لكل زمان ومكان، وبعيداً عن أجواء التعصّب والتطرّف.
· الأسلوب السليم في الحوار بين العرب من جهة، وبينهم وبين غير العرب من جهة أخرى، وبناء قواعد وضوابط للتحاور وتبادل الآراء.
· الدور الأنشط في إطار المجتمع الأميركي من خلال:
أ ـ بناء المعرفة الفكرية والسياسية والثقافية، حيث أنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
ب ـ التدرّب على أسلوب التحاور الجاد والهادئ.
ج ـ الدعوة لأنشطة حركية للجمعيات الأخرى، وتوظيف "مركز الحوار" وأنشطته الدورية لصالح أنشطة ومطبوعات وتحرّك الجمعيات والمؤسسات العربية عموماً.
· التعريف بكفاءات وطاقات فكرية وأدبية عربية (في منطقة واشنطن وخارجها)، وتوفير منبر لها للوصول إلى الآخرين في أميركا وفي المنطقة العربية.
***
لقد كان الهاجس في السنوات الأولى من تجربة "مركز الحوار العربي" هو هاجس التأسيس والتعريف بالتجربة.. ثمّ كان الهاجس لاحقاً، هو إثبات الوجود وترسيخ القناعة بأهمية الهوية الثقافية العربية المشتركة وبأسلوب الحوار المنشود بين العرب..
وفي كلّ السنوات الماضية كان الهمّ الأول هو هاجس الاستمرار والتطوّر للأفضل، في ظلّ المحافظة على استقلالية تجربة ذات سمة عربية متجاوزة للخصوصيات الوطنية ولا تسمح بتبنٍّ كامل لها من جهة عربية واحدة.