قراءة في وثيقة فلسطين قبل النكبة
قراءة في وثيقة
فلسطين قبل النكبة
د. محمد ياسر عمرو
تعتبر الوثائق من أهم مصادر المعلومات وأوثقها، وما زال الدارسون والمختصون والأكاديميون يدرسون الوثائق من جوانب عدة، فمنهم من يدرسها من ناحية المضمون أو الموضوع، وغالبا ما يتم الالتفات هنا إلى النص الرئيس للوثيقة، ومنهم من يدرسها من الناحية اللغوية ومنهم من يدرسها من الناحية الفنية، وإن كان الأفضل الدراسة التحليلية للوثيقة بكل أبعادها ومضامينها.
والتاريخ الفلسطيني ما قبل النكبة زاخر بالوثائق التي تشكل معلماً هاماً من معالم دراسة التاريخ وفهمه وكتابته، ونحن هنا بين يدي وثيقة تحصيل ضرائب في حكومة فلسطين أثناء الانتداب، وعند التأمل نلحظ مايلي:
كتبت الوثيقة باللغات الثلاثة، الانجليزية والعربية والعبرية، وقدمت الانجليزية بسبب الانتداب البريطاني وسيطرته، ووجود هذه اللغات الثلاثة يعطي صورة للحالة السياسية في تلك الفترة، فالحكم والسلطة للانتداب الذي جعل لغته الأعلى والأقوى، اللغة العربية كانت اللغة الثانية، أما لغة إرضاء وجود التجمعات اليهودية الدخيلة على الأرض والنظام، فكانت لغة رسمية لحكومة فلسطين في تلك الحقبة الزمنية، كما نصت على ذلك المادة الثانية والعشرون من صك الانتداب البريطاني وجاء فيها:
"تكون الإنجليزية والعربية والعبرية اللغات الرسمية لفلسطين وكل عبارة أو كتابة بالعربية وردت على طوابع أو عملة تستعمل في فلسطين يجب أن تكرر بالعبرية وكل عبارة أو كتابة بالعبرية يجب أن تكرر بالعربية"
وجود اللغة العبرية في أوراق حكومة فلسطين ما قبل النكبة والنص عليه في هذه المادة يرسم للدارس صورة عن ذلك الواقع الذي يحتاج الكثير من الدراسات الجادة لظروفه وأحواله التي مهدت للنكبة والسقوط .
1- نجد حكومة فلسطين أدرجت نوعاً جديداً من الضرائب لم يكن موجوداً أو معروفا، وهو ضريبة المدرسة، أو ضريبة التعليم كما كانت تسمى في وثائق أخرى، ولقد وجدت عشرات صكوك الضرائب التي تدفع فيها ضريبة المدرسة، وكانت هذه الضرائب تذهب لدعم التعليم والمدارس، وهذا فكر متقدم في دعم التعليم في تلك الفترة، ولعل تقصير حكومة الانتداب في الاهتمام بالتعليم كان أحد أسباب ذلك.
2- لم تكن ضريبة التعليم مقرة ابتداءً، وإنما تم إقرارها لاحقاً، بدليل عدم وجود بند لها في نموذج الضرائب، وهذا دليل المرونة لدى الحكومة في إضافة نوع من الضرائب وحذف آخر.
3- ذكرت الوثيقة أنواع الضرائب السائدة في تلك الفترة وهي :
- ضريبة المنازل والأراضي.
- ضريبة الأملاك في القرى.
- ضريبة الأملاك في المدن.
- ضريبة المدرسة أو التعليم.
- الأعشار.
4- تشير الوثيقة إلى مهارة عالية وأسلوب متقدم في التوثيق، وهذا يظهر من تعدد الحقول في النموذج، والتفاصيل العديدة في تلك الحقول، كما يظهر ذلك من الرقم المتسلسل للنموذج، كما أن النموذج يحيل إلى سجل آخر وهذا كله زيادة في التوثيق والضبط. كما أن كتابة المبلغ رقما وكتابة مفهوم آخر من التوثيق، ولعل الحكومة آنذاك استفادت من تجربة العثمانيين بالتوثيق، فهم على درجة متقدمة من التوثيق، ولعل الأرشيف العثماني من أكبر أرشيفات العالم إن لم يكن أكبرها.
5- رغم أن هذا النموذج يمثل خطاباً رسمياً إلا أنه انتبه للصفات الاعتبارية للأفراد، فاستلم المبلغ من المختار شكري شاكر الخطيب، وهذا يشير إلى الثقافة السائدة في تلك الفترة، كما يشير إلى أهمية المختار في تلك الحقبة من الزمن.
6- أشارت الوثيقة إلى أن المبلغ المستلم من المختار عن أقاربه، ولم تبين تفاصيل عددهم، ودرجة القرابة، وهذا فيه أكثر من احتمال، فقد يكون الأقارب مسجلين ومعروفين ومعلوماً ما عليهم من الضرائب، ولم يذكر هنا اختصاراً، ولكن مطالعاتي لعدة وثائق أعطت احتمالاً آخر وهو الذي أرجحه، أن الحال قائم بين الحكومة والمختار على الثقة، فهو يدفع دون مساءلة أو محاسبة، وقد يكون هنالك ثمة إشارة أخرى تدل أن المختار دفع المال من خاصة ماله، وذلك كرم منه وحسن خلق، أو مساعدة لأقاربه، وقد يكون وكيلا بالدفع بمعنى هم أعطوه المبلغ ليدفعه، أيا كان ذلك، فالمختار الذي كان يمثل سلطة كبيرة في تلك الحقبة كان يسعى بحاجات الناس من أقربائه أو غيرهم، فدوره ليس شرفياً فقط، بل يقوم بدور خدمي.
7- تشير الوثيقة إلى عدم وجود متأخرات من الضرائب خلال السنوات الماضية، وهذه لاحظتها في مجموعة من صكوك الضرائب، رغم فقر الناس وعوزهم، وهذه الإشارة ذات دلالة على انسجام بين الحاكم والمحكوم، وإن كنا لا نملك ما يدل على أنه انسجام طوعي، أو أنه دفع إجباري يلجأ إليه الناس خوفاً من المضاعفات.
8- كان الكتبة يختارون من ذوي الخط الجميل، وهذه ملاحظة في العديد من الوثائق، وهذا لا يعني عدم وجود خطوط من الصعب قراءتها، بل كانت، وهنا أتحدث عن الوثائق الرسمية وليست الشخصية.
هذه القراءة لهذه الوثيقة تشير إلى الأهمية القصوى لإعادة قراءة تاريخ ما قبل النكبة من خلال مئات الآلاف من الوثائق المتناثرة في بيوت أصحابها وفي مؤسسات البحث العلمي، ناهيك عن أرشيف فلسطين الثري من خلال الأرشيف العثماني الذي تفيد بعض التقارير بأنه يصل إلى حوالي مليون وثيقد.