رؤية في التغيير..

رؤية في التغيير..

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

مَن منّا لا يحلم بمجتمع راقٍ يسوده العدل والأمان والأخلاق؟ وإن كانت الأديان كلّها تدعو إلى الفضيلة فإن الإسلام يجعل مهمّة المسلم الأساسية هي عمارة الأرض وإعلاء كلمة الله جل وعلا ويكون السعي لها ضرب من العبودية لله جل وعلا.. والله جل وعلا وصف أمّة الإسلام بأنها خير الأمم إذ هي قائمة على الإصلاح فتنفع الناس وتخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه فقال في كتابه الكريم : " كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله "..

وانطلاقاً من مفاهيم الدين الحنيف يسعى المؤمن إلى تغيير المجتمع الذي يعيش فيه إلى الأفضل ومواجهة التحديات التي تعصف بالأمّة وخاصة في زمن انتشرت فيه الرذائل وانقاد الناس للمادة ونسوا حظّ الروح وانقلبت الموازين الحق.. واتّبعوا الغرب ورضوا بالاستعمار الفكري وأحياناً الاستيطاني.. هذا بالإضافة إلى محاولة إزالة ما يحاوله أعداء الأمّة من طمس معالم الدين وإظهاره بصورة بشعة تتّسِم بالإرهاب والرجعية.. فالمسلم صاحب رسالة سامية تنبذ التخلف والجهل والتفرّق وتدعو إلى الحضارة الحقيقية والتوحّد والعمل..

بيد ان هذا التغيير لا يكون بين ليلةٍ وضحاها ولا يتنزّل من السماء بدون جهود وسعي له حثيث.. ويبدأ التغيير من النفس حتى إذا ما استوت الروح وارتقت النفس تزامن العمل بعدها مع بناء الأسرة فالمجتمع فالأمّة بأكملها ولكن يبقى الأساس هو هذا التغيير الباطني.. يقول الله جل وعلا : " إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم ".. فالله تعالى يغيّر ولكن الإنسان مسؤول عن التغيير في بادئ الأمر وذلك بتحسين أخلاقه ومفاهيمه وتصوراته ومبادئه وقِيَمه وسلوكه فينتقل من الخمول والركون والدعة إلى العمل والانتاج والحركة.. ومن الاتّباع والتقليد والعبث إلى الإبتكار والرقي.. فيخرج من النمطيّة السلبية في الحياة إلى الفعاليّة الإيجابية.. حتى إذا ما اكتسب عملا وعلما وحباً لله ولرسوله أوفى الله بوعده وأحدث التغييّر في أوضاعه فبات في ازدهار وعزّ ونصر..

وقد أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أساس التغيير قبل إطلاق نفير الدعوة في الأمصار والجهاد في سبيل الله جل وعلا هو تغيير النفوس وإصلاح القلوب لتصبح متيقظة متلهفة لإقامة شرع الله جل وعلا وقادرة على تحمّل أعباء التكاليف.. فأرسى قواعد الدولة الاسلامية في المدينة على دعائم التكافل والتحابب والإخاء ووحّد نسيج المجتمع الاسلامي.. وعلى المسلمين الساعين للتغيير أن ينتهجوا أسلوب الحبيب عليه الصلاة والسلام ويحاولوا أسلمة الحياة وتزكية النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة ومحاكاة الناس بصبر وحب لكسب ثقتهم والالتفاف حولهم لتبليغ الدعوة وأن يبعدوا عن العنف ووسائله فالعقول تُغلَق حين تشعر أنها منقادة بالقوة!

وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على ‏قصعتها ‏ ‏قال قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ قال أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون ‏غثاء ‏‏كغثاء السيل ‏.." 

ويقول مالك بن نبي حين يذكر هذا الحديث: " لقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار: استحضار صورة العالم الإسلامي بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعاً بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل ".. وما حال الأمّة اليوم الا كما تنبأ الحبيب عليه الصلاة والسلام بعد أن تفرّقت القلوب وأصبح التعلق بالدنيا أكبر من الاهتمام بالدين والسعي الى كسب الأموال والانقياد وراء الشهوات أرجى من كسب الحسنات وابتغاء رضا الله جل وعلا..

وكان أن قاد الإمام حسن البنا ثورة التغيير فكان أستاذ منهج التغيير في عصرنا الحديث.. وقد آمن أن إعداد الفرد والمجتمع هو الأَولى.. فالإعداد والتكوين هما ركيزتا منهج التغيير اللتين تقودان إلى التمكين.. وكان الإمام ينادي أن "كونوا عمليين لا جدليين" ويحضّ على البُعد عن التفرّق والجدل ويؤثِر تزكية النفوس وتوعية العقول والإنطلاق بعدها الى العمل والانتاج.. يقول الإمام البنا رحمه الله تعالى: " فأداة التغيير عندنا هو الفرد المسلم، ومن هنا يجب البدء به دعوةً وتربيةً حتى تظهر قيادة تقود الأمّة، ولا تظهر هذه القيادة إلا في أمّةٍ تستحقها فظهور مثل هذه القيادات التي تحكم تحتاج إلى قاعدةٍ تشد أزرها، ورأي عام ينادي بما تنادي به هذه القيادة، حتى يشعر المجتمع بضرورة وجودها"

ولعلّ الشهيد أحمد الياسين قد فقه هذا المنهج فبدأ منذ العام 1968 بالعمل على تغيير المفاهيم والعقول والتصورات لمجتمعه لأنه أيقن أن التغيير الأفضل هو من الأسفل فهيّأ البيئة الملائمة وبدأ بإنشاء مجمّع يحوي مسجداً وحضانة أطفال ومدرسة ومركزاً للنشاطات النسائية ليشمل مشروعه التغييري كافة أطياف المجتمع ويكون لكلّ فئة مسؤولياتها حتى اذا ما اطمأن إلى أن البنيان قد صلُب وباتت النفوس مستعدة للدفاع والتضحية أعلن تأسيس حركة المقاومة في عام 1987 بغية تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.. فإن كان هذا منهج الدعاة في دور الحرب فكيف بباقي بلاد المسلمين؟ أليس من باب أولى أن تنطلق شرارة التغيير من المجتمع بدل أن تكون بالسيف والعنف؟! ويوم يتغيّر الفرد والمجتمع سيتبع هذا الأمر تغيير في السلطة الفوقية فكما تكونوا يولَّ عليكم.. وإلا فسيكون هرج وقتل والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: " لزوال الدنيا جميعاً أهون عند الله من دم يسفك بغير حق "..

يقول الدكتور مثنى أمين الكردستاني: " إن صناعة الحياة وإحداث التغيير المنشود ليس تغيير سلطة سياسية بأخرى، وإنزال شعار ورفع آخر بدله، وإنما هي بناء أمّة وإحياؤها، وهي بناء النفوس وتكوينها، وصناعة قيم جديدة وترسيخها في المجتمع.. إن فهم طبائع النفوس، وطبائع المجتمع، ودهاليز السياسة، وخفايا العلاقات والروابط، وتفاصيل الأحداث والتطورات، وإدراك طبيعة المرحلة والبيئة المحلية والإقليمية والدولية... كل ذلك وغيره جزء أساسي من الفقه المطلوب والوعي المنشود الذي لا بد أن تتحلى به كوادر أي تغيير "  فانتهاج العنف في محاولة التغيير هو من أخطر الأساليب التي يمكن أن تقضي على الدعوة الإسلامية وتقبُّل الناس لهذا الدين وايمانهم به.. وهو خطر على الصحوة الاسلامية الوسطية المعتدلة التي تسعى لنشر الدين واستقطاب ذوي الفطرة السليمة إلى حظيرة الدين بالخطاب الموجّه للعقل والقلب.. إلا أن يكون في بلد محتل فحينها لا يقوى إلا منطق الجهاد إذ لا وقت للتكوين وإنما الدفاع عن الأرض والعرض.. وهو فهم وحكمة وفطنة وعقل يحكم الأمور ويسيّر المخلِصين..

فلننطلق جميعاً في ركب التغيير ليكون لنا شرف الإصلاح متحصّنين بإرادة قوية  ووفاء ثابت وتضحية عزيزة ومعرفة بالمبدأ.. ولنرتقي بأنفسنا ولننبذ الكسل والجهل والذاتية والتفرق ولنأخذ بمقوِّمات النهضة لنحقق الغاية التي خُلِقنا من أجلها..

وأُنهي بكلمات مباركة للدكتور أمين جمعة حيث قال عن رسالة الإسلام أنها: "رسالة تربية قبل أن تكون رسالة تشريع وتنظيم..  ورسالة أخلاق وعقائد قبل أن تكون رسالة قتال وجهاد..  ورسالة قِيَم ومبادئ قبل أن تكون رسالة اتساع وانتشار" ..

وليكن دائماً حاضراً في البال أن نجاح المشروع الإصلاحي للأمّة متعلّق بانتهاج مراحل التغيير ونبذ العنف والتغيير بقوة السلاح إلا في الحالات التي تحكم بذلك.. وقد أقرّ المحلل السياسي الأميركي غراهام فولر نفسه أنه يتم دفع الإسلاميين إلى العنف من أجل تبرير سحقهم تحت شعار محاربة الإرهاب.. فليرتقي في أسلوب الخطاب الإسلامي مَن ارتضى لنفسه أن يكون جندياً للتغيير وسعى له سعيه وليُدرِك أنه إن أساء في الخطاب أو النهج فقد أساء للدين قبل أن يسيء إلى أي شيء آخر.. 

               

*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)