الإسلام دين الرحمة والتسامح (1)
م. محمد حسن فقيه
الإسلام خاتم الديانات السماوية التي أمر الله بها البشرية جميعا ، وإن كان رب العزة هو مصدر هذه الرسالات جميعا ، فمن البدهي أن تكون جميعها وفق نهج وخط عريض واحد ما دام مصدرها واحدا ، وقد أرسل الله لهذا الدين سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا بلسان قومه لبين لهم ما يبلغه الله بالوحي من تعليمات هذا الدين وتشريعاته الحكيمة ، فأنزل عليه القرآن منجما خلال فترة الرسالة من يوم البعثة وحتى وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى .
وإن كانت الرحمة في روح الرسالات السماوية السابقة سواء كانت لليهودية أو المسيحية ، فقد كانت الرحمة للرسالة الخاتمة روحا وعنوانا ومنهجا تمثل في سيرة سيدنا محمد وأصحابه الكرام ومن تبعهم بعد ذلك إلى يوم الدين ، وكيف لا يكون ذلك وهو الرحمة المهداة ، وها هو القرآن الكريم منهج المسلمين ودستورهم يبدأ في رأس سوره بعبارة " بسم الله الرحمن الرحيم " بعدد مائة وأربع عشرة مرة بعدد سور القرأن الكريم وبجميع سوره عدا سورة "براءة" إلا أنها ذكرت مرتين غي سورة " النمل" في اففتاحيتها وفي وسطها ، وكلا الكلمتين " الرحمن " و "الرحيم " اسمان من اسماء الله تعالى ، كما نجد داخل السور كثيرا من الآيات التي تضمنت الرحمة ودعت إليها وقد تكررت كلمات الرحمن والرحيم والرحمة ومشتقاتهم في القرآن الكريم بشكل كبير لا تكاد تخلو سورة من هذه الألفاظ والكلمات .
وما الإسلام في حقيقته إلا إتمام لدين التوحيد الذي أتى به حميع الأنبياء والرسل من قبل وبلغوا قومهم بإتباعهم ، وأمروهم في كتبهم باتباعه .
" قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون *ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . " آل عمران ) (84-85 )
كما أن أنبياء الله تعالى بعد أن يشروا بالإسلام ودعوا قومهم لاتباعه قد بشروا بنبي الرحمة خاتم الأنبياء سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ودعوا قومهم لاتباعه والإيمان به .
" وإذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لمل بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين" ( الصف – 6 )
وما أنزل الله هذه الديانات السماوية جميعا وأرسل الأنبياء والرسل إلا لمحاربة الشرك والوثنية ودعوة إلى الإيمان بالله والتوحيد .
" وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " ( البينة – 5 ) .
كما أن كثيرا من أحاديثه صلى الله عليه وسلم تكلمت عن الرحمة ، وتجلت صفة الرحمة والتسامح واقعا في سيرته وحياته ومعاملاته ، ومع كل هذا فإننا نرى ونشاهد ونعايش باستمرار لا ينقطع
المستشرقين الماكرين والمستغربين المخادعين ما زالوا يتربصون بالإسلام الدوائر ويدأيون للنيل منه ، ويجدّون في البحث منهمكين عن ثغرة يستطيعون النفاذ منها إلى صميم هذا الدين لتوجيه طعناتهم الغادرة إليه بخناجرهم المسمومة ، فهم لا ينفكون عن قذف الإسلام بافتراءاتهم المزيفة في محاولة يائسة لقلب الحقائق وتشويه جوهره النقي ، وأهدافه الإنسانية العالية ومنزلته السماوية الرفيعة .
إن تعصبهم الذميم وحقدهم الدفين قلب رؤوسهم فبدت لهم الحقائق مقلوبة مشوهة من خلف مناظيرهم القاتمة ، نتيجة ما أصابهم من هوس وخدر خوفا من أن يسطع نور الإسلام على البشرية فينقذها مما هي فيه من تيه وضلال وضياع ، ويهديها إلى طريق الحق ، ويكشف الطغاة الظالمين والمستبدين المجرمين على حقيقتهم ، ويعريهم أمام الناس .
ومن تلك الثغرات الكاذبة التي حاول المستشرقون وربائبهم النفوذ من خلالها إلى صرح هذا الدين ، ما يدعونه إفكا وبهتانا بأن الإسلام دين انتشر بحد السيف والإرهاب وأجبر الناس على اتباعه بالترغيب والترهيب ، إلا أنهم خابو وخسئوا فما ذلك الذي خالوه ثغرة إلا واجهة كريستالية ينطحون بها رؤوسهم الواهية حتى يعيهم التعب فتتهاوى على الأرض محطمة مهشمة .
والذي دعاهم إلى مثل هذه الفرية هو ما هالهم وأفقدهم صوابهم من انتشار الإسلام الواسع على رقعة كبيرة من العالم خلال فترة قصيرة ، متجاهلين أن سبب هذا الإنتشار السريع ، ما كان إلا بسبب حقيقة هذا الإسلام الناصعة ، وصدق هذه الرسالة العلوية ، وإخلاص رجالها وتفانيهم لأجل هذا الدين ، وتأييد الله لهم ونصرهم مكافأة على صدقهم وإخلاصهم ، كما أن معاملتهم الرفيعة للشعوب والبلاد التي فتحوها ، والأخلاق السامية التي عاملوهم بها - فقد كانوا قرآنا يسير على الأرض - كان له الأثر الأكبر في دخول هذه الأمم والشعوب تحت مظلة الإسلام ، فلم يصل جندي من جنود المسلمين إلى أراضي الهند والصين وأندونيسيا وماليزيا والفيلبين ، وجميع أمم وشعوب تلك المنطقة من الكرة الأرضية ، أو وسط إفريقيا وجنوبها ، وإنما كان سبب دخولهم في الإسلام هو كما أسلفنا تلك المعاملة الرفيعة من الصدق والأمانة من قبل التجار المسلمين الذين وفدوا إلى تلك المناطق ، إضافة إلى تعليمات هذا الدين السماوي الصادقة الموافقة للفطرة ، بل إن ديننا وقرآننا ينهانا ويمنعنا من إكراه الناس على دخول الإسلام .
فقد قال تعالى :: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " , (البقرة - 255)
لقد وجه هذا الدين رسالة تنبيهية ، لا بل رسالة تحذيرية قوية ، لكل من يفكر أو يريد دخول هذا الدين ، بأنه لا مجال لتغييره والعودة إلى دينه القديم ، أو حتى تغييره بدين آخر جديد ، فلو فعلها كانت ردة ، وكان عليه عقوبة الردة ، وبالتالي فعليه أن يفهم هذا الدين جيدا ، ويفكر بعمق وأناة وتؤدة وحكمة ويعيد تفكيره مرات ومرات ، وبمنتهى درجات الحرية بلا ترغيب ولا ترهيب ، قبل أن يقرر خياره الحر لدخول هذا الدين ويتخذ قراره الأخير للنطق بالشهادتين وإعلان إسلامه ، لأنه لو دخله فلا خروج منه بعد .
وما أكثر الأمثلة في تاريخ المسلمبن وفتوحاتهم كشاهد حي على هذه الحرية وعدم الإكراه ، من تواجد إخواننا التصارى في الأرض والوطن والإنسانية على أراضينا وبين أظهرنا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في عالمنا الإسلامي الرحيب منذ أكثر من الف وأربعمائة سنة ، دون أن يمسهم أحد بسوء ، أو يكره أحدا منهم على تغيير دينه واعتناق الإسلام ، رغم الحملات الصليبية الغادرة والتي اعتبرها الغرب حربا مقدسة ضدنا وضد مقدساتنا ، ورفعت الصليب شعارا تحت اسم المسيح زورا وبهتانا ، وسفكت دماء أجدادنا الطاهرة فوق أرضنا بوحشية فظيعة ، ونحن نوقن بأن المسيح والمسيحية الصادقة بريئة منهم ومن أفعالهم وجرائمهم القبيحة وحربهم المشبوهة .
إن صفحات التاريخ حافلة بالأمثلة والوقائع على رحمة هذا الدين وسماحته ، بالمقارنة إلى ما تعرض إليه من ظلم وتعسف وخسة وغدر وخيانة وحقد دفين ومجازر دموية وصفحات سوداء كالحة ، من الملل والأقوام الأخرى التى هالها نورالإسلام الساطع ، وقد نبتت وترعرعت وعاشت في دياجير الظلم والظلام .
شتان شتان ما بين الفريقين ، بين دعاة إلى الله مخلصين هبوا لإنقاذ البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال والضياع إلى الهدى والرشاد ، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وبين دعاة مصالح وكراسي وزعامات دنيا من جهة ، وعلى الجهة الأخرى غزاة أرض وناهبي خيرات ، وقادة طغاة مستبدين ، وجنود متوحشين مارقين .
وأول من سطر تلك الصفحات من الرحمة والسماحة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي فتح مكة بعد أن نقض مشركو قريش عهدهم الذي أبرموه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ، وبعد أن لاقى منهم ونال ما نال من ظلم وأذى وكيد وتآمر داخل مكة وخارجها ، فلقد حاصروه في شعب مكة بعد أن منعوا عنه الطعام والشراب ، ونثروا في طريقه الشوك ، وحرضوا صبيانهم وأغروا سفهاءهم على رجمه بالحجارة حتى أدموا كعبيه الشريفين في الطائف ، وألقوا سلا جزور على رأسه وهو ساجد لله يصلي عند الكعبة ، ولاحقوا صحابته الكرام الذين هاجروا فرارا بدينهم يطلبونهم عند النجاشي ليعيدوهم إلى مكة فيفتنونهم عن دينهم أو يضربوا أعناقهم ، كما تآمروا مجتمعين عليه لقتله والتخلص منه يوم هجرته ، ثم أرسلوا خلفه رجالهم - بعد أن نجاه الله من شر كيدهم وأعمى أبصارهم - يبحثون وينقبون عنه مع صاحبه أبي بكر في كل مكان بعد أن خرج مهاجرا ، ووعدوا بجائزة كبيرة لمن يأتي به ليردوه عن دينه أو يقتلوه ، فحفظه الله وأنقذه من شر كيدهم ومكرهم وأخزاهم ، وتآمروا عليه مع يهود في المدينة للقضاء عليه بعد أن هاجر من مكة وتركها لهم ، فجمعوا القبائل وحشدوا الحشود وألبوا الأعراب و جمعوا الأحزاب ، بمحاولة منهم للقضاء عليه ووأد هذا الدين ، ولكن الله أخزاهم وأذلهم وانقلبوا إلى ديارهم خائبين خاسرين .
( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) : ( الصف - 8 ) .
بعد كل هذا الذي فعلوه به وبالمسلمين من أذى وكيد وقتل و.... فإنه يوم دخل مكة منتصرا ، مطأطئا رأسه تواضعا ، رافعا رأس الإسلام عاليا فوق الشرك والوثنية ، أعطى أوامره لأبي سفيان قائلا : "من دخل الحرم فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ".
فما كان أمتعها وأسعدها وأجملها من فرصة أتيحت له ليضرب الأعناق ويقطع الرؤوس ويشفي غليله منهم ، لو أراد أن يعاملهم بالمثل ووضع نصب عينيه حصار الشعب ويوم الطائف أو غزوة أحد والخندق ، لكنه رسول الله ونبي الرحمة والصفح والتسامح ، فلقد كان ينظر إلى شيء آخر فوق الثأر والإنتقام ، فما هذه إلا أهداف بشرية وآمال أرضية هابطة ، في حين كان تفكيره يسمو مرتفعا وهو يحلم بآمال رفيعة سامقة ، وأهداف إنسانية سامية ، وتيليغ دعوة سماوية عالية ، وهكذا دخل المسلمون مكة دون حرب أو دمار وخراب ، فلا قتل ولا سلب ولا نهب ولا استباحة أموال أو دماء أو أعراض .
ولما اجتمع بهم وسألهم : " ماذا تظنون أني فاعل بكم ؟ " ، قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم .
وكان بين هؤلاء المخاطبين من قتل أعز المسلمين من صحابته وآل بيته الكرام ، فهل عاملهم بالمثل وأعمل فيهم سيفه قتلا وتقطيعا ، أم نادى الثأر الثأر ، الدماء الدماء ، يوم بيوم ، وما كان أقدره يومها على فعل ذلك لا قوله ، وإنما أجابهم بكل تواضع :
" اليوم أقول لكم كما قال أخي يوسف من قبل : ( لا تثريب عليكم ، اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) .( يوسف – 92) اذهبوا فأنتم الطلقاء "
هكذا بكل بساطة أنهى تلك الحقبة الدامية متناسيا ومتجاهلا وراميا خلفه عداوة وأذى إحدى وعشرين سنة دامية أنهى وضعها وحكمها ، وبعبارة بسيطة أوجز الحل بكلمتين ، وأي كلمتين هما ، التسامح ، والحرية ! .
لقد طمأنهم وهدأ من روعهم ثم دعا لهم بالمغفرة والرحمة ، ثم أطلق حكمه الأخير بالعفو والصفح عما مضى ..... وإطلاق الحرية ، إذهبوا فأنتم الطلقاء قائلا هذه الكلمة لهم بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني العفووالتسامح والحرية كما يفهمها نبي مرسل يوحى إليه ، وكما يعقلها عرب ذلك الزمان من أهل مكة وغيرها ، وكما يعيها أبناؤها والضالعين في اللغة وفقهها ، لا كما يحلو لبعض المستغربين الجاهلين باللغة العربية فلسفة وفقها ، أن يفسروها تفسيرا هرطقيا ، ينطلق من جهل أحمق ورؤية سوداء وحقد دفين يقلب الحقائق ، فيرون الشر خيرا والخير شرا .
ويوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنده في غزوة مؤتة إلى أولئك القوم الأنجاس الذين قتلوا رسوله ، والرسل لا تقتل ، فماذا أوصى صحابته الكرام ؟ قال لهم من حديث طويل أخرجه مسلم في باب الجهاد : " أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا ، أغزوا باسم الله وفي سبيله ومن كفر بالله ، ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا ولا منعزلا بصومعة ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرة ولا تهدموا بناء .... " ( أخرجه مسلم )
وكانت مثل هذه الوصايا في تاريخ الحروب قبل الإسلام وبعده شيئا فريدا ، ونادرا ما أوصى به قائد من قبل أو بعد ولا نفذته أي ملة أو قوم .
فلو أن أولئك القوم سمحوا لهم بحرية الدعوة والتعريف بالإسلام كما يسمح بنشر أي فكر آخر ولو كان وثنيا أو إلحاديا هذا اليوم في البلدان العلمانية ، فما كان الأمر يحتاج لإراقة قطرة دم واحدة ، في الوقت الذي كانت فيه تسود شريعة الغاب من الغزو والإحتلال والسبي والسلب والنهب ، بل كانت هذه الأمور هي هدفا وغاية بحد ذاتها وتنفذ ضمن الأمة الواحدة ، ولا يقف في وجههم عائقا أو أي سبب أوسيلة لتنفيذها .
أفليست هذه القوانين والتشريعات التي اعتمدها المسلمون في الفتوحات وحرب الأعداء ، كانت ظاهرة جديدة ونقلة نوعية في تلك الأزمنة ؟ بل إن أرقى جيوش العالم في العصر الحديث مهما تغنى زعاماته باحترام تشريعات الحروب وحقوق الأسرى ، واحترام حقوق الإنسان ، فإنها لا ترقى إلى جزء يسير من هذه التشريعات والتعليمات الإسلامية التي نادى بها رسولنا الكريم من أكثر من ألف وأربعمائة سنة .
إلا أن القلوب الغلف المغلقة ، والآفاق المحدودة الضيقة ، ونظرة الإستعلاء والغرور التي كانت تحياها تلك الشعوب إزاء العرب المسلمين ، هو الذي كان وراء تلك الصدامات والحروب ، بل تحولت نظرة هذه الشعوب من تلك الأمم سواء من كفار قريش واستعانتهم بالأعراب الذين حولهم ابتداء ، أو من تلك الإمبراطوريات المتعالية والمتعجرفة من الفرس والروم التي كانت تجاور العرب ، تحولت نظرة هؤلاء إلى هدف لسحق المسلمين وإبادتهم جماعيا ، وإنهاء هذه الدعوة ووأدها في المهد ، متمسكين بعجرفتهم وعنجهيتهم ، ومستمرين مضيا على نهحهم الطاغوتي من الظلم والإستبداد .
عندما تحالف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود في المدينة احترم دينهم ومعابدهم وأحبارهم ، ولم يشهر في وجههم سيفا ولا سلاحا وهم يذكرون تماما ما فعل بهم الصليبيون في اسبانيا في عهد الملك سيزوت وراجيكا من إجبار على التنصير وعدم تزويج اليهودي ألا من نصرانية ، والنصرانية إلا من يهودي إلا أن الشعب المجبول في تركيبته وطباعه على الخيانة والمكر والغدر والخسة والخداع لا يستطيع أن يفي بوعوده وعهوده ، فلقد كانت تلك العهود كالشوكة في حلقه تؤ لم ضميره المثلوم ، فحاولوا إغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت كانت فيه الدعوة في مهدها ، ودسّوا له السم ، ثم تحالفوا مع المشركين وحنثوا بعهودهم التي أوثقوها وبوعدهم التي قطعوها ، وغدروا في ساعة الضيق والشدة ، مما دفع بالرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم في وقت كانت الدعوة فبه بحاجة إلى الموقف الحازم حتى تقف تلك الدعوة على رجليها وتنال الهيبة من أعدائها من أعراب ومشركين ...... وغيرهم الذين يتربصون بهم الدوائر .
وكذلك حين جهزالحبيب المصطفى جيش أسامة قبل وفاته لقتال الروم ، أوصاهم بعدم التعرض للنساء والأطفال والعجزة والرهبان في صوامعهم .
فهذا بعض ما سطر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من صفحات مشرقة في تاريخ البشرية من الرحمة والسماحة ، ومن بعده كم سطر الصحابة والتابعون من صفحات أخرى من نور على منوال سيدهم وقدوتهم سيد البشرية .
فما حادت وصايا أبي بكرالصديق خليفة رسول الله رضي الله عنه عن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيد شعرة حين أنفذ بعثة أسامة بن زيد ، وحين كان يوجه جيوشه للقتال في سبيل الله في حروب الردة وغيرها بعد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
"يا أيها الناس، قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني : لا تخونوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له". ( رواه مالك في الموطأ ، والطبري )
وكذلك فعل سيدنا خالد رضي الله عنه عندما فتح دمشق بعد ما استعصت عليه بسورها المنيع والمحصن بالفرسان والرماة ، فهل أباح المدينة وقتل النساء والشيوخ والأطفال والرهبان وسبى النساء وهدم الكنائس والمعابد وفعل ما أراد انتقاما عندما فتحها عنوة وتمكن منهم ، وما يمنعه أن يفعل ذلك غير سماحته التي غرست في أعماقه وتجلت في سلوكه منذ أن تتلمذ على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضع لبان الإسلام قال :
" بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها ، أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ، وسور مدينتهم لا يهدم ولا يسكن شيء من ديارهم .. " .
ولم ينزلها المسلمون إلا بعد أن لحق ناس كثير من أهلها بهرقل في إنطاكية فكثرت فضول منازلها فنزلها المسلمون ، وكذلك فعل في فتوحاته في العراق فلم يتعرض للأكارين بسوء (1) .
(1) : الأكارين أي الفلاحين في حقولهم ومزارعهم .