الشعراء والأزمات الاقتصادية
د. نعيم محمد عبد الغني
أصبحت الأزمة المالية العالمية حديث كل لسان، فالفقراء والأغنياء يتكلمون عنها، وأصبحت الشغل الشاغل للجميع، وقبل الأزمة المالية العالمية التي خصصت لها قمة العشرين الماضية ألف مليار دولار كانت موجة غذاء وغلاء أغرقت العالم بأسره، وقامت ثورات الجياع في كل مكان؛ مما أزعج زعماء العالم وقادتهم الذين عقدوا قمتهم في روما لمناقشة هذه القضية والخروج بتوصيات غير ملزمة وهم على غداء عمل أو عشاء عمل يكفي ثمنه لإطعام عشرات أضعاف البشر المؤتمرين.
ولست ممن يحقدون على الأغنياء؛ بسبب ما هم فيه من الثراء، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكني من الناقمين على فئة منهم لا ترقب في العالمين إلا ولا ذمة؛ فقست قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، واحتكروا الطعام ليبيعوه بأثمان باهظة تزيد الفقراء فقراً، وتزيد الأغنياء طغياناً وكبراً.
لن أحلل في هذا المقال أسباب الأزمة وآثارها، ولكني أتناول صدى الجوع والفقر في الشعر العربي بصفة عامة؛ والحديث بصفة خاصة؛ لما توحيه الأزمات من صور وخيالات جديدة تزيد الشعر ثراء وتعطيه حيوية وعطاءً، وتؤكد ما أكدنا عليه مراراً في مقالات سابقة بأن "الشعر ديوان العرب".
تحدثنا كتب الأدب عن الصعاليك وأخبارهم، وهم فئة من الشعراء في الجاهلية خرجت عن ديارها وحاربت الأغنياء، وخاضت مغامرات حربية بهدف السطو على الأغنياء وأخذ أموالهم وتوزيعها على الفقراء، ويفخرون بصنيعهم، بل ويسجلون هذه المغامرات في شعرهم، وقد اشتهرت منهم فئة كعروة بن الورد الذي يعتبر سيد الصعاليك والسليك والشنفرى وتأبط شرا وغيرهم.
فهؤلاء الصعاليك تغنوا بآلام الفقراء وحاولوا أن يساعدوهم بطرق غير مشروعة، لكن غيرهم من شعراء الجاهليين ممن تمتعوا بالأخلاق الكريمة آثروا أن يعانوا آلام الجوع حتى ينالوا طعاما كريما كعنترة الذي قال:
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المطعم
وإذا تتبعنا رحلة الشعراء مع الجوع والتغني بآلام الفقراء فإننا نجده يتخذ مظاهر متنوعة يضيق هذا المقال عن سردها وتحليلها، ولكني أركز على ما قيل شعرا في العصر الحديث؛ حيث عانت الشعوب من أزمات الفقر، ومن ويلات الحروب؛ فتأثر الشعراء الذين كان منهم الفقراء كحافظ إبراهيم والأغنياء كأحمد شوقي.
أما حافظ إبراهيم فإنه يرسم صورة ساخرة لما آل إليه الحال في مصر في عهده، من إهدار لأبسط الحاجات الضرورية للإنسان فيهاجم القائمين على الأمر بأنهم لم يحسنوا القيام على أمور الناس، فأصبحت السلع عزيزة المنال وأصبح الطعام كالياقوت، والفقير الذي لا يجد ما يسد رمقه نوى الصيام فيقول:
أيها المصلحون ضاق بنا العيش
ولم تحسنوا عليه القياما
عزت السلعة الذليلة حتى بات
مسح الحذاء خطبا جساما
وغدا القوت في يد الناس كالياقوت
حتى نوى الفقير الصياما
أما أحمد شوقي فإنه يسوق قصيدة طويلة يتعجب فيها لما آل إليه حال الناس في عهده؛ فكيف يجري النيل مصدر الرخاء في مصر ويصبح الناس في هذا الفقر المدقع؟!
وهل قُدر على المصريين أن يخرجوا من الحرب العالمية التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ليدخلوا في غلاء؟، ويتمنى أن يظهر مثل سيدنا يوسف فيكون منقذا، فيقول:
أمن حرب البسوس إلى غلاء
يكاد يعيدها سبعا صعابا
وهل في القوم يوسف يتقيها
ويحسن حسبة ويرى صوابا
عبادك رب قد جاعوا بمصر
أنيلا سقت فيهم أم سرابا
ثم يشن حملة على التجار الذين احتكروا السلع ولم يرحموا آلام الفقراء ثم يبكون بكاء التماسيح، ويقول لا تسمع لشكواهم واسمع للفقراء الذين يبكون لا عن فقد قريب أو حبيب وإنما يبكون من ألم الجوع، ويذم تجارة السوء، ويمدح الخير والبر ويحث عليه ففيه الخلاص من هذه الأزمة فيقول:
إذا ما الطامعون شكوا وضجوا
فدعهم واسمع الغرثى السغابا
فما يبكون من ثكل ولكن
كما تصف المعددة المصابا
ولم أر مثل شوق الخير كسبا
ولا كتجارة السوء اكتسابا
ولا كأولئك البؤساء شاء
إذا جوعتها انتشرت ذئابا
ولولا البر لم يبعث رسول
ولم يحمل إلى قوم كتابا
ويؤكد شوقي على أن الزكاة تكون مخرجا لأزمة الغذاء، ويعجب من أولئك الذين يتظاهرون بالتقى ويمنعون زكاة أموالهم، فيقول:
عجبت لمعشر صلوا وصاموا
عواهر خشية وتقى كذابا
وتلفيهم حيال المال صما
إذا داعي الزكاة بهم أهابا
لقد كتموا نصيب الله منه
كأن الله لم يحص النصابا
ومن يعدل بحب الله شيئا
كحب المال ضل هوى وخابا
أراد الله بالفقراء برا
وبالأيتام حبا وارتبابا
هذا عزيزي القارئ كان قبل الثورة في فترة سادت فيها الطبقية، وكثر الإقطاع فكان الفقير يعيش فقرا مدقعا، والغني يعيش بطرا فاحشا، وكان المصريون حينها يعانون المسغبة والجوع، ولقد صورت السينما والمسلسلات المصرية بعضا من هذه الآلام، وقد حكى لي الآباء والأجداد بعضا مما كان يحدث في تلك الفترة العصيبة مما يطلق عليه (عمال الترحيلة)؛ إلى أن أتت الثورة بمبادئها الاشتراكية فنزعت ملكية الإقطاعيين، ونادت بالعدالة الاجتماعية وأسرفت في ذلك إسرافا كبيرا غير محترمة الملكية الخاصة، فتحول الأغنياء إلى فقراء وأصبح الفقراء فجأة أغنياء، وانتشر القطاع العام، وانتشرت معه ثقافة الموظف الحكومي الذي يذهب إلى بيته بالجريدة والبطيخة، ولا يطور من نفسه.
وحبا في تأمين الحياة وعدم المغامرة في طلب الرزق أصبح الناس يدفعون الرشاوى؛ كي ينالوا وظيفة حكومية ومنهم من اتجه للجيش وترك الحرث والزرع وانتشرت أمثلة شعبية من مثل (شريط على كمي ولا فدان عند أمي)، فأصبحت هناك بطالة مقنعة داخل المؤسسات الحكومية فخسرت هذه المؤسسات وعانت الدولة من تضخم كبير؛ فلجأت إلى مثل شعبي آخر هو (لا يحرس المال إلا صاحبه) وانفتحت في خصخصة المؤسسات كلها وأسرفت في ذلك إسرافا كبيرا؛ حتى باعت كثيرا من الأشياء الخدمية للجمهور، ولم تستثمر الأموال التي أتت من الخصخصة استثمارا يعود بالنفع على المواطن فعادت الطبقية التي كانت قبل الثورة مرة أخرى، والفرق بين من يعيشون قبل الثورة وبعدها أن الذين يعيشون حاليا انتشر بينهم العلم والوعي إلى حد ما حتى بين الذين لا يقرؤون ولا يكتبون بفضل الإعلام الذي أصبح ينقل كل شيء وعجز الحكومات عن إخفاء كثير مما يحدث بين الناس، ومن ثم سنجد التجارب الشعرية مختلفة إلى حد ما في التعبير عن آلام الفقراء بين الشعراء المعاصرين، فالدكتور عبد السلام حامد يصور ضيق العيش الذي ألجأ الناس إلى ترك أوطانهم وأصبح متطفلا في المدن بحثا عن لقمة العيش فيقول:
يا باكيا عند الطلول
لنا عيون في الكفن
أنت المفجع في الطلول
ونحن شعب قد ظعن
ألف التطفل في الموائد
والتسلل للمدن
ويصور حياة هؤلاء الناس وهم يكدحون في الحياة بحثا عن لقمة العيش فيقول:
وترى أناسا في الشوارع
والمصانع والحقول
هذا يئن بفأسه
والجوع من هبة الفضول
هذا يدور كترسه
هذا يبيع، وذا يجول
لا تخدعنك حياتهم
هي موكب القتل الجميل
ونبحث في مواقع الإنترنت فنجد تنفيسا عما حل بالناس من كربات لشعراء مغمورين، ولكننا لا نعدم صورة جميلة وشعرا جيدا، فمثلا في أحد المنتديات أقرأ هذه الأبيات الظريفة للطفي الياسيني التي فيها نوع من الكوميديا السوداء؛ حيث إن الشعب المصري في أوقات شدته وأزمته يحب الفرح والمرح فيقول كثيرا من النكات بخلاف باقي الشعوب التي تضيف الحزن لآلام جوعها، وفي هذه القصيدة يقول:
عم الغلاء عموما لا نظير له
ومزق الناس أطراف الدزادين
بحثا عن القرش لا يبدو له أثر
رحماك يا رب ضعنا كالقرابين
في كل يوم نرى الأسعار صاعدة
والناس من هولها مثل المجانين
الكاز والغاز والبنزين في صُعد
ناهيك عن سكر شايٍ ويانسونِ
والفول والحمص الشامي بِطَلَّته
من يأكل الصحن يدفع بالثلاثين
ومن يرد لثريد العدس مأدبة
قد لا يجد رطله تحت الثمانين
والخضروات بدت في عرشها ملكاً
لا يشتري بعضها غير الدهاقين
أما اللحوم فأصبحنا نقدسها
من يقترب نحوها قد شك في الدين
ثم الفواكه لا يجرؤ لها طلبا
غيرُ الذي ما له فوق الملايين
أما الملابس فالأسعار باهظة
مما يؤدي لتقصير الفساتين
وأجرة الفرن غالت في تصاعدها
حتى اضطررنا لإرجاع الطوابين
وختاما فلقد تأثرت بهذه الأزمة فقلت أبياتاً -وإن لم تصل في جودتها إلا جودة الشعر السابق- إذ لا وجه للمقارنة إلا أنها خرجت من قلب صادق، تذهب نفسه حسرات على ملاين الجوعى والمرضى، وقد سقتها في شكل ساخر، وفيها أقول:
ودق الباب شحاذ
ليطلب لقمة عندي
وما يدري بمشكلتي
ومنع القوت في البلد
فخبز صار ممنوعا
وزيت الأكل من رغد
وذاك الأرز في الحلم
ووقت النوم في الخَلَدِ
وهذا اللحم تبذير
وإضرار بذي الجسد
وشرب الماء إسراف
وهذا النيل من أمد
ولي الأمر قد عانى
فحبل الشعب من مسد
فنادى في دجى الليل
بمنع الأكل والمدد
إذاً سيظل الشعر النبض الصادق للحديث عن آلام الناس وآمالهم، فإلى أنغماه يلوذون وعلى إيقاعاته وصوره يستبشرون، ورغم أن الأدب لا يطعم جائعا، ولا يكسو عاريا، إلا أنه الشعر الذي سيقى توثيقاً للسراء والضراء وكفى به أنه ما زال "ديوان العرب".