من كتاب اليهودية في العراء بين الوهم والحقيقة
محسن الخزندار
أثر الثقافة الهلنستية اليونان(الإغريق)
على اليهود(الموسويون –العبريون)
في اللغة والثقافة والحضارة والتقاليد
اليونان (الإغريق)
332-63 ق.م.
مكدونيا :
هي البلاد التي تقع إلى الشمال من بلاد اليونان والمكدونيين سكانها نوع من اليونان يتكلمون اللغة اليونانية وكانوا أقل حضارة منهم،إلاّ أنهم عرفوا بخشونتهم وشدة بأسهم في القتال ولم يكن في تاريخهم ما يثير الاهتمام إلى أن استولى على العرش شاب من أبناء البيت المالك يُدعى "فيليب" وقد عرف هذا كيف يخلق أمة وجيشاً وانتهز فرصة غفلة المدن اليونانية فحاربها وانتصر عليها وأصبح بفضل انتصاراته هذه سيد بلاد اليونان ومن ذلك الحين اندمج تاريخ الإغريق بتاريخ مكدونيا.
عزم فيليب بعد أن أخضع اليونان أن يقوم بحرب عظيمة على الفرس إلاّ أن المنية عاجلته فقتل عام 336 ق.م. وخلفه ولده الاسكندر وكان فتى رائع الجمال وفارساً شجاعاً منقطع النظير، فقد حقق جميع مشروعات أبيه واكتسب بين عظماء الفاتحين اسماً خالداً.
تولى الإسكندر الملك وهو ابن عشرين سنة فاستخف اليونان به لصغر سنه وثار عليه بعضهم إلاّ أنه أخمد ثورة الثائرين وأكره جميع المدن اليونانية أن تعترف بسلطانه عليها، ثم وجّه همه لإخضاع الفرس والانتقام منهم لما فعلوه في غزواتهم على بلاد اليونان.ففي عام 334 ق.م عبر الإسكندر بجيشه مضيق الدردنيل إلى آسيا الصغرى وانتصر على الفرس في جميع وقائعه معهم وبذلك تم له الإستيلاء على الأناضول ثم قصد الغازي بلاد الشام ولما وصل إلى مدينة "إيسّوس قرب الاسكندرونة انتصر عليها انتصاراً حاسماً وكان ذلك في عام 333 ق.م وبعد هذه الواقعة أمر الإسكندر بناء مدينة تحمل اسمه تقع على أبعد منعطف في شرقي البحر وسمّاها الإسكندرونة.([1])
وبعد انتصاره في "إيسّوس" سار الإسكندر جنوباً ووجهته سوريا ومصر وبعد أن استولى على دمشق مركز الجيوش الفارسية في الشام خضعت له جميع المدن الفينيقية إلاّ صور ،فإن حصارها كان أصعب مشاريع الإسكندر الحربية كلها لأنها كانت قسمين :صور البرية وصور الجزيرة التي تبعد عن الشاطيء حوالي 700 م،وبعد أن خضعت له الأولى وصل الجزيرة بالبر بأن هدم مباني الأولى وألقى أنقاضها في البحر ،وقد قاوم الصوريون الإسكندر مقاومة عنيفة وأخيراً تم له الإستيلاء على الجزيرة بعد حصار دام سبعة أشهر.
وكان ذلك في عام 332 ق.م وانتقم الفاتح بإحراق المدينة وأعمل السيف في أهلها فلم يسلم منهم إلاّ القليل.
ومنذ ذلك الوقت فقد الفنيقيون كنعانيو الشمال في سوريا استقلالهم في بلادهم ورضخوا لحكام البلاد الذين حكموها بعد الإسكندر.
سار الفاتح بعد ذلك نحو القدس ففتحت له المدينة المقدسة أبوابها ورحب اليهود من سكانها الذين ساعدهم الفرس على العودة من بابل بمقدمه ترحيباً بالغاً ومنها توجه إلى غزة فامتنعت عليه فحاصرها وقاومت البلدة بقيادة "باتيس-Batis " من أشهر قواد الفرس مستعيناً بجيوش عربية من الأنباط مقاومة عنيفة اضطرت الإسكندر إلى نصب آلات القتال والحصار ،إلاّ أن العرب هاجموا المكدونيين الذين كانوا متحصنين في مراكز القيادة وراء تلك الآلات،وقد اضطر المكدونيين إلى مغادرة مواضعهم هذه إلى أماكن جديدة وكادوا يهزمون هزيمة منكرة لو لم يأت الإسكندر إليهم بمساعدات قوية في الوقت المناسب ،وقد أُصيب الإسكندر بجراح وإن كانت طفيفة إلاّ أنها شديدة الألم ظلت تؤلمه زمناً غير قصير .وأخيراً وبعد حصار شهرين أظهر فيها الغزيون بطولة لا تقل عن بطولة الصوريين اخترق المكدونيين حصار البلدة ودخلوها وعامل الإسكندر أهلها كما عامل أهل صور ،فأعمل فيهم السيف ومن سلم منهم باعه بيع الرقيق ،وقطع الحامية إرباً إرباً ،وأما القائد "باتيس" فقد عوقب بطريقة يعجز القلم عن وصفها وذلك بأن ثقب عقبا قدميه وأدخلوا بالثقبين حبلاً وربطوه بمركبة جرته في أنحاء المدينة إلى أن فاضت روحه .
وقد وجد الإسكندر كنوزاً عظيمة من ذهب وحلي ومجوهرات في غزة، كما عثر على مقادير كبيرة من اللبان والمر والبخور والصموغ والتوابل لأن المدينة كانت المستودع الرئيسي على البحر الأبيض المتوسط لمنتجات الجزيرة العربية وغيرها.
وبسقوط غزة تم للإسكندر فتح بلاد الشام ،ثم قدم الإسكندر إلى مصر ودخلها بدون عناء ،وفيها أنشأ مدينة حديثة سمّاها (الإسكندرية) نسبة إليه ،وما زالت هذه المدينة تعد إلى اليوم من أهم مدن العالم وموانئه.
وبعد أن استتب الأمر للإسكندر في مصر ارتحل منها وعاد إلى بلاد الشام فمر في فلسطين وسوريا ومنها اتجه شرقاً إلى العراق ،وفي موقعة "كوكميلة Gaugamela " عام 331 ق.م. قاتل دارا الثالث في معركة حاسمة كانت هذه الواقعة الفاصلة في ابتداء سقوط إمبراطورية الفرس،ثم استأنف الإسكندر ملاحقة دارا فسار منحدراً إلى بابل ثم قصد إلى بلاد الفرس نفسها فاستولى عليها وعلى ما وجدوه فيها من نفائس وغنائم ،ثم أخذ بلاد الأفغان والتركستان الروسية وما جاورهما ،كما عبر مضايق جبال "هيمالايا" فدخل الهند و استولى على مقاطعة "البنجاب" ثم سار جنوباً متتبعاً نهر السند حتى بلغ شواطيء المحيط الهندي،ولولا أن رجاله أبوا التقدم لكثرة ما لاقوه من التعب الناشيء عن الزحف المستمر والقتال الطويل مدة ثماني سنوات متتابعات ،لتمكن من التوغل في آسيا أكثر مما وصل إليه فعاد إلى بابل وأخذ فيها ينظم دولته العظيمة ولكنه أصيب بحمى قضت على حياته عام 323 ق.م. وكان عمره يقل عن 33 سنة بأربعة أشهر.
كان الإسكندر من أعظم الساسة و القادة العسكريين ،فلم ير الشرقيين أقل درجة من بني قومه اليونان لأنه كان يرغب في إدماج الشرق بالغرب بإتحاد شعوبه في عالم واحد تحت سلطانه وقد شرع في ذلك فملأ البلاد المفتتحة بالتجار اليونانيين وتزوج زوجة فارسية وتبعه قواده وعشرة آلاف من أتباعه المكدونيين فتزوجوا زوجات أسيويات إعتقاداً منه بأن ذلك من أعظم الوسائل لإمتزاج الشرق بالغرب ،وكانت إمبراطوريته تقوم على أساس المساواة بين الناس جميعاً بإعتبارها جماعة عالمية نظمت بحيث يكون لأفرادها مستوى واحد وسيد واحد.
ومن أهم نتائج فتوحات الإسكندر انتشار الحضارة اليونانية واللغة اليونانية في الشرق واصطباغه بالصبغة اليونانية.
كان اليونان أعظم شعوب العالم القديم تقدماً ومدنية وحرية ، وكانوا مثّالين ومهندسين وعلماء ورياضيين وشعراء وفلاسفة ،ومن اليونان تعلم شباب الشرق الأوسط كيف يفكرون تفكيراً جديداً وكيف يدركون أن العالم كان مليئاً بالأفكار المذهلة ،وبالتالي كيف ينفلتون من التقاليد البالية.
العصر الهلنستي(323 -30 ق.م)
لم يكن للإسكندر خليفة يخلفه على العرش كما وأنه لم يترك وراءه وصية فاختلف قواده على مصير إمبراطوريته فوقعت بينهم حروب ومنازعات عظيمة صارت فلسطين على أثرها عرضة لحروب أخرى
توزعت إمبراطورية الإسكندر الأكبر بين قادته عقب وفاته في المؤتمر الذي عقدوه في مدينة بابل وبمقتضى هذا التوزيع آلت ولاية مصر إلى القائد بطليموس بن لاغوس.
لكن سرعان ما اشتعلت الحرب بين خلفاء الإسكندر الذين كان كل واحد منهم يتطلع إلى الاستقلال بولاياته وفي مقدمتهم بطليموس وكان النصرحليف بطليموس وعلى إثر ذلك عقد مؤتمر جديد في مدينة تريباراديسوس بسورية لإعادة توزيع ولايات الإمبراطورية وتعيين وصي جديد وانتهى المؤتمرون إلى تكليف أنتيباتروس بمهمة الوصاية على أن يكون مركز الإمبراطورية بابل و تعيين أنتيغونوس قائداً عاماً للجيش الملكي مع احتفاظه بولايته في آسيا.
واستقرت الأوضاع بعض الشيء كما تفرغ بطليموس لدعم استقلال ولايته وتوسيع نطاقها فأقام التحالفات مع عدد من الجزر الكبرى في شرقي البحر المتوسط واستولى عام 319-318 ق.م. على فينيقية وجوف سورية وهو الاسم الذي أطلق على فلسطين وجنوب سورية بين (جبل الشيخ شمالاً ونهر الأردن شرقاً والبحر المتوسط غرباً )وهكذا أمن بطليموس حدود ولايته من ناحية الشرق كما قد أمنها من ناحية الغرب حين استولى على إقليم برقة.
وحاول أنتيغوس أن يعيد إمبراطورية الإسكندر وحدتها تحت سلطانه فعارضه الولاة ووقفوا في وجهه([2]) .
وفي صيف عام 316 ق.م. لجأ سلقوس إلى مصر فراراً من أنتيغونوس ولقى من بطليموس كل ترحيب وإكرام و تحالف معه ومع بعض الولاة الآخرين على أنتيغونوس ووقعت الحرب أوزارها في عام 315 ق.م. وانتصر بطليموس وحلفاؤه على جيش أنتيغوس في غزة واسترد جوف سورية فعاد سلوقس إلى ولايته سنة 312 ق.م. وبدأ بذلك العهد السلوقي ويذكر انتصار بطليموس مع حلفائه انتصاراً حاسماً على أنتيغونوس في معركة أبسوس عام 301 ق.م. وقلته.
وكانت هذه المعركة ما يسمى بالمشكلة السورية أو مشكلة جوف سورية لأن حلفاء بطليموس استاؤوا منه أثناء هذه الحروب وأبوا بعد تحقيق النصر أن يمنحوه جوف سورية الذي وعدوه بها من قبل في حين منحوا سورية كلها وشرقي آسيا الصغرى لسلوقس.
وكان رد بطليموس على غدر حلفائه احتلال إقليم جوف سورية عنوة ورفض التنازل عنه وعندما جاء سلوقس ليضع يده على الإقليم وجد أن بطليموس قد سبقه إليه فلم يشأ أن يثير معه القتال من جديد ولم ينس اليد التي قدمها له بطليموس حين لجأ إليه فاراً من ولايته وكان يومها سهل له سبيل العودة إليها فاكتفى بالمطالبة بحقه.
وهكذا أورث سلوقس خلفاءه مشكلة كبيرة مع البطالمة أدت إلى سلسلة من الحروب بين الدولتين هي التي تعرف في التاريخ باسم الحروب السورية.
وكانت الحرب السورية الأولى أيام بطليموس الثاني سنة 276 ق.م. وقد هُزم الملك البطلمي أنطوخوس الأول السلوقي واستولى على الشاطئ الفينيقي كما عقد معه مصالحة .
أما الحرب الثانية فقد كان مسرحها في غربي آسيا الصغرى كما حاول بعدها بطليموس الثاني جاهداً في إقامة علاقات ودية مع الملك السلوقي أنطوخيوس الثاني و زوَّجه ابنته بشرط ألا يطالب الملك السلوقي بإقليم جوف سورية وسجَّل فيلادلفوس إنجازات هامة في فلسطين وشرق الأردن وفينيقيا([3]) .
في عام 246 ق.م. اعتلى بطليموس الثالث العرش وتوجه بقواته إلى سورية لمساعدة أخته في صراعها على الملك بعد وفاة زوجها السلوقي أنطيوخوس الثاني وسجل انتصار الملك البطلمي على السلوقيين وبلغ سلوقية على نهر دجلة وقدم حكام الولايات السلوقية الشرقية ولاءهم له ثم عاد إلى مصر ولما حاول الملك السلوقي سلوقس الثاني غزو جوف سورية عام 243 ق.م. تصدى له بطليموس ورده إلى أنطاكية وبقيت فلسطين والشاطئ السوري في قبضة البطالمة.
و بعد أن كرر السلوقيون محاولة غزو جوف سورية اشتعلت الحرب السورية الرابعة في عهد بطليموس وانتصر الملك البطلمي على قوات السلوقيين بقيادة أنطيوخوس الثالث جنوب مدينة رفح واسترد البطالمة جوف سورية مرة أخرى.
وتولى المُلك بطليموس الخامس عام 203 ق.م. وكانت فترة ملكه مليئة بالاضطرابات والقلاقل واقتطعت منها ممتلكاتها الخارجية و غزا السلوقيون جوف سورية فيما عُرف بالحرب السورية الخامسة واستطاع السلوقيون بقيادة ملكهم أنطوخوس الثالث أن ينزلوا بالبطالمة هزيمة حاسمة في معركة بانيون عام 200 ق.م. ثم استولوا على صيدا وبيت المقدس وبسطوا نفوذهم على فلسطين كلها وذلك عام 198 ق.م. وعندها فقد البطالمة جوف سورية نهائياً([4]) .
أطلق على الفترة الزمنية الممتدة من وفاة الإسكندر عام 323 ق.م. حتى قيام الإمبراطورية الرومانية على يد أوغسطس في عام 30 ق.م العصر الهلنستي وقد سمي بهذا الاسم تمييزاً له عن الفترة الإغريقية وهي الهلينية الصحيحة وعلى أساس أن الحضارة الجديدة منتسبة إلى هذه الحضارة أو متأثرة بها ويختلف المؤرخون في تحديد معنى لفظ هلنستي وإن كان الجميع يتفقون على أن الهلنستية عنوان مناسب للدلالة على حضارة القرون الثلاثة السابقة للميلاد التي كانت فيها الثقافة الإغريقية تسود إضافة إلى بلاد اليونان بلاد الحضارات القديمة مصر وفارس والرافدين وآسيا الصغرى وسورية وفلسطين.
كان الإسكندر المقدوني قد أنهى خلال حياته القصيرة التي عاشها ما بين (356-323ق.م.) الحكم الفارسي لمنطقة غرب آسيا ومصر وأسس إمبراطورية ضمت المناطق السابقة إضافة إلى بعض أصقاع الهند الشمالية وبعد موته احتدم صراع عنيف بين قادته استمر حتى عام 302ق.م. وانجلى عن سيطرة القائد سلوقس (356-280ق.م.) على آسيا الغربية (سورية الشمالية وآسية الصغرى والرافدين والهضبة الإيرانية) وعن سيطرة القائد بطليموس (367-283ق.م.) على مصر وقورينايئة (برقة) وبعض جزر البحر الإيجي إضافة إلى فلسطين وعن سيطرة القائد أنتيغونوس (306-301 ق.م.) على بلاد اليونان.
وقد تميز العصر الهلنستي بنزاعات مستمرة بين السلوقيين والبطالمة حول امتلاك سورية المجوفة وهي المنطقة إلى الجنوب من اللاذقية وتشمل لبنان وفلسطين وبعض أجزاء من سورية الداخلية كدمشق وقد تمكن البطالمة من الاحتفاظ بسيطرتهم على هذا الجوف من 302 ق.م. وحتى 198 ق.م. عندما حررها السلوقيين منهم واستمرت السيطرة السلوقية على فلسطين حتى عام 64 ق.م. منذ دخلت مع الأراضي السورية كافة تحت الحماية الرومانية.
على الرغم أن فلسطين جزء من جوف سورية إلاّ أنها خضعت للدولة البطلمية ثم للسلوقية و مظاهر حضارتها لم تختلف عنها في الفترتين السابقتين .
أ-فلسطين تحت الحكم البطليمي:
تذكر المصادر القديمة أن ملوك البطالمة الأوائل دأبوا على التقرب من اليهود بشكل واضح وكانت كراهية المصريين لليهود قد كبرت في العهد الفارسي حيث نشأت هذه الكراهية نتيجة عطف الفرس على اليهود وتؤكد المصادر أن بطليموس الأول خصص أحد أحياء الإسكندرية مأوى لليهود وعمل على نقل أعداداً من اليهود من فلسطين للإقامة في مصر كما ازداد توافد اليهود إلى مصر في عهد خليفته بطليموس الثاني (308-246 ق.م.) الذي وُصف بأنه صديق حميم لليهود بسبب دعمه وتأييده وحظوا به من رعاية أكثر من أي ملك آخر حتى أنه افتدى أسراهم من ماله الخاص كما أجزل الهدايا الثمينة لمعبدهم في بيت المقدس وتذكر المصادر أيضاً أن بطليموس الثالث أرسل عدداً من اليهود في الأراضي المستصلحة بالفيوم.
ب-فلسطين تحت الحكم السلوقي:
إثر موقعة بانيون عام 198 ق.م. التي حقق فيها الملك السلوقي أنطوخيوس الثالث (223-187 ق.م.) نصراً مؤزراً على الجيش البطليمي تبعت فلسطين ولبنان والأقسام التي كانت تؤلف جوف سورية الإمبراطورية السلوقية ولا يعلم عن علاقة أنطوخيوس الثالث بالأرض الفلسطينية سوى ما يتكهنه المؤرخون من أنه تودد إلى المدن الفلسطينية رغبة في كسب تأييدها في نزاعه مع الأخديين ورأى أنطوخيوس الرابع مع علمه التام مدى ارتباط معظم اليهود بمنافسيه البطالمة أن خير وسيلة لخلخلة التعصب اليهودي محاولته الجادة بصبغهم بالصبغة الإغريقية فأرسل في عام 167 ق.م. أحد قادته وكلّفه إلغاء الطقوس الدينية اليهودية والاستعاضة عنها بالإله زيوس الأولمبي عن الإله يهوه وأقام مذبحاً على النمط الإغريقي فوق المذبح المقدس وفي العام نفسه حول أنطوخيوس الرابع معبد يهوه بجبل جرزيم (الطور) للطائفة السامرية إلى معبد للإله زيوس اكنيوس كما حرم الختان واقتناء الأسفار المقدسة وأوجب أكل لحم لخنزير وغير ذلك من الأوامر التي حلت مكان بعض المحرمات اليهودية وحرمت بعض المحللات وبموجب الأوامر الجديدة والتغيير الذي وقع انقسم اليهود حتى عام (166 ق.م.) إلى قسمين الأول ارتد مرغماً أو مقتنعاً عن الشريعة وأقام في بيت المقدس أو في المدن الإغريقية الأخرى وهم (المتهلنون أو المتأغرقون)والثاني من المحافظين وهم أقل عدداً حيث هربوا خارج المدينة المقدسة وأطلق عليهم (اسم حزب القديسين) واعتمدوا في قيادتهم ماتاتيه كبير عائلة الأشمون الذي مات بعد فترة قصيرة وتسلم الزعامة بعده ابنه الثالث يهوذا ويلقب بالمكابي وتعني المطرقة وقد حقق نجاحاً في التصدي للقوات السلوقية مما دفع قسماً كبيراً من المترددين اليهود إلى الانضمام إليه، وتمكن المكابي في عام 166 ق.م. من تحقيق نصر في معركة عقبة بيت حورون على القائد أبولونيوس وفي عام 165 ق.م. هزم في معركة أماوس جيشاً آخر بقيادة القائدين (نيكانوز) و(جورجياس) مما دفع أنطيوخس وكان في حملة شرقية ضد البارثيين إلى الاستجابة لطلب المكابيين فأوقف اضطهاد المحافظين وسمح لهم بممارسة شعائر دينهم جنباً إلى جنب مع أنصار التأغرق وعاد المكابيون إلى بيت المقدس وإلى ممارسة شعائرهم ذلك في الخامس والعشرين من كانون الأول عام 164 ق.م. ولا زال اليهود يحتفلون بهذا العيد تحت اسم عيد الأنوار (حانوكا) حتى يومنا هذا.وعندما توفي أنطيوخس الرابع توقع المكابيون نزاعاً بين القائد فيليب الوصي على ولي العهد والقائد لوسياس الذي كان نائباً للملك في العاصمة أنطاكية فضغطوا على المتأغرقين اليهود الذين استجاروا بالقائد لوسياي والذي انجدهم وهزم المكابيين في معركة بيت زكريا بالقرب من بيت صور وقتل إليعازر شقيق المكابي ولكنه أي لوسياس اضطر إلى العودة سريعاً إلى العاصمة بعد أن تعين كاهنا جديداً يُدعى الكيموس.وفي تلك الفترة رغبت روما لحاجة في نفسها إزاحة لوسياس عن مركز السلطة في أنطاكية وساعدت أحد أدعياء العرش السلوقي ويدعى دمتريوس (الأول) وكان رهينة في روما على استعادة عرشه في ظروف صعبة للغاية. وقد استغل المكابيون هذه الفرصة فخلعوا الكاهن المتأغرق ألكيموس ووقّعوا مع روما معاهدة تعهدت لهم فيها بمد العون إليهم في حال تعرضهم لهجوم فما كان من دمتريوس إلا أن جهز في ربيع عام 161 ق.م. حملة بقيادة نيكانور هزمها المكابيون عند الرها في الثالث عشر من آذار فجهز حملة ثانية بقيادة باكخيدس حيث حققت نصراً كبيراً على المكابي عند موقع لاشع وقتل المكابي نفسه وفر إخوته وجماعته عبر الأردن. وفي عام 157 ق.م. ونظراً لصعوبة متابعة المتمردين المكابيين بزعامة يوناثان شقيق يهوذا عرض دمتريوس على يوناثان صلحاً مفاده ألا يقيم هو وجماعته داخل أسوار بيت المقدس فقبل يوناثان ذلك وأقام في مكماش وبعد موت الكاهن الأعظم اغتصب يوناثان المنصب لنفسه ومد نفوذه وأسس إمارة مستقلة بزعامته. ونتيجة للنشاط السياسي الذي بذله ديمتروس خلال فترة حكمه تألّبت عليه كل المملكة البطلمية في مصر وإمارة برغامة في آسية الصغرى وبتأييد ومساعدة من روما ساعد البرغاميون دعيّا للعرش اسمه اسكندر بالاس على منافسة ديمتروس واستفاد اليهود من النزاعات القائمة فعرض كل المتنافسين على اليهود عروضاً مغرية لمساعدته من هزيمة دمتريوس وقتله عام 150 ق.م. وفي عكا زف الاسكندر بالاس على كليوبترا ابنة حليفه ملك مصر بطليموس السادس وأقام في المدينة نفسها التي أصبحت العاصمة الفعلية في عهده.
كان بطليموس ما يزال يطمع في جوف سورية فاتفق مع يوناثان سراً وحضّر جيشاً ونزل إلى فلسطين متظاهراً بالسلم وكانت المدن الفلسطينية تتوق للترحيب بزيارة بطليموس رغبة في دفع أذى المكابيين الذين كانوا يمارسون نشاطاً عدوانياً مستمراً ضد مختلف المدن الفلسطينية وقد أطلع سكان مدينة أشدود بطليموس على الآثار الرهيبة للمجازر التي ارتكبها المكابيون في هذه المدينة ولكن بطليموس لم يرغبْ في إثارة عداء اليهود وأجل اتخاذ قرار بهذا الشأن وفي يافا التقى بطليموس بيوناثان الذي رحب بالملك المصري ورافقه حتى نهر الكبير في الشمال ونتيجة للامتعاض الذي أبداه إسكندر بالاس من الاستقبال الحار للمدن الفلسطينية والسورية لبطليموس أيد الأخير دمتريوس (الثاني) وكان مقيماً في آسيا الصغرى الذي قتل مع بطليموس في المعركة التي جرت بين الفريقين وتسلم دمتريوس الثاني الحكم فأطلق قادته المرتزقة للقضاء على جميع معارضيه في أنحاء العاصمة وخارجها.
وفي فلسطين كان الاستقلال الذاتي للطائفة اليهودية بزعامة يوناثان تاماً منذ عهد بالاس ولم يكن لينتقص منه إلا وجود حامية سورية صغيرة في قلعة بيت المقدس وقد استغل يوناثان النزاع بين بالاس ودمترويوس وحاصروا القلعة للتخلص من آخر مظاهر السيطرة الملكية وشدد الحصار حتى أثناء زيارة دمتريوس الثاني عكا وأزجل الهدايا والأموال في استمالة الملك الذي تغاضى عن توسع المكابي شمال فلسطين وعندما تعاظمت النقمة الشعبية في العاصمة أنطاكية على قائد مرتزقة دمتريوس حيث انقلب ذلك إلى ثورة داخلية استنجد دمتريوس بيوناثان الذي أمده بعدد من أقوى وأشرس رجاله ساهموا كما تذكر المصادر اليهودية نفسها في قتل لا يقل عن مائة ألف من سكان أنطاكية وضواحيها وفي عام 143 ق.م. وجسد القائد ديودوتوس حقد الأنطاكيين على دمتريوس وأعلن ابن الملك السابق بالاس ملكاً باسم أنطوخس السادس وانقسمت المملكة إلى قسمين: الأول حكم سورية الداخلية لأنطوخيوس بمساعدة وزيره ديودوتوس وعاصمته أنطاكية والثاني حكم سورية الساحلية لإدمتريوس وعاصمته سلوقية على مصب نهر العاصي([5]).
بالرغم أن المكابيين كانوا من أنصار دمتريوس فإنهم سرعان ما انقلبوا عليه وأيّدوا أنطيوخس الذي أولاهم ثقته والتي استغلوها وبدأوا يتوسعون إلى درجة أدت بهم إلى الاتصال بروما للحصول على تأييدها واعترافها بتوسعاتهم فما كان من الوزير ديودوتوس إلا أن جهّز حملة وصلت إلى بيسان (سكيثوبوليس) وفيها فتك جنوده بيوناثان المكابي ومعظم رجاله ولم يفلحْ أخوه سمعان الزعيم الجديد للمكابيين إلا في الحصول على عظام أخيه لدفنها في عاصمة المكابيين مودين.
أما ديودوتوس فقد أغراه النجاح الذي تحقق له بالانقلاب على سيّده أنطيوخس الذي اغتاله وأعلن نفسه ملكاً باسم تروفون مما أدخل الطمع لدى المكابيين مرة أخرى فعرضوا تأييدهم على دمتريوس الثاني المقيم في سلوقية على مصب العاصي وقبل دمتريوس ذلك التأييد وأعفاهم من الضرائب وأخلى لهم الحصون ولكنه سرعان ما تورط في حرب ضد البارثيين والتي أسر فيها مما أدى إلى قيام أخيه الأصغر أنطيوخس السابع بالزواج من زوج أخيه كليوباترا وإعلان نفسه ملكاً بدله وفي أول صدام مع تروفون هرب الأخير إلى دورا على الساحل الفلسطيني ومنها إلى عكا ثم إلى عرطوس على مصب نهر البارد فأقام فيه حيث قتل أخيه هناك وعندما استتب الأمر لأنطيوخس طلب إلى سمعان المكابي دفع الجزية عن الأراضي التي كان يستوطنها خارج بلاده اليهودية خاصة إقليمي يافا وجزر ولم تتمكن القوات التي أرسلها أنطيوخوس من جباية الجزية إلا بعد ثلاث سنوات حينما شدد أنطيوخس في حصار بيت المقدس التي سقطت سنة 120 ق.م. فعاد أنطيوخس شمالاً بعد أن فرض غرامة حربية كبيرة على اليهود وجزية على المدن والأقاليم الفلسطينية الأخرى مثل يافا وجزر.
ومع تزايد الخلافات الداخلية في سورية ومصر تمكن المكابيون في عهد هركانوس من مد نفوذهم على معظم أنحاء فلسطين جنوب الكرمل كما أكره خليفته أريستوبولوس عام 104/103 ق.م. بحد السيف سكان الجليل على اعتناق اليهودية ( [6]) وعندما حاصر يانايوس خليفة اريستوبولوس وأول من اتخذ اللقب الملكي من اليهود وكانت عكا قد استنجدت بملك مصر الإغريقي بطليموس التاسع الذي أوقع باليهود هزيمة منكرة في معركة أسوفون ولكنه لم يستطع أن يجني ثمار نصره إذ اضطرته الظروف إلى العودة إلى مصر الأمر الذي مكن يانايوس من إعادة تأسيس دولته من جديد ولكن على حساب نقمة اليهود أنفسهم الذين ساءتهم مظاهر الملكية التي أحاط بها نفسه وطلبوا مساعدة ملك دمشق دمتريوس الثالث السلوقي والذي مد لهم يد العون في عام 87 ق.م. وأُكره يانايوس على الفرار من بيت المقدس وزال بذلك أي ذكر لحركة سياسية هامة في فلسطين في نهاية العصر الهلنستي فيها عام 64 ق.م ( [7] ) .
أبرز المظاهر الحضارية:
1- نظم الحكم: لما كان الفتح في التاريخ القديم يكسب الفاتح حقوقاً مطلقة على الأقاليم التي فتحها فقد اعتبرت فلسطين غنيمة حرب أرضاً وكياناً في نظر ملكوها البطالمة حتى عام 198 ق.م. وملوكها السلوقيين فيما بعد وكانت سلطاتهم مطلقة بقوة الملك حسب الظروف السياسية وفي حين كان ملوك فلسطين الأوائل يطلقون على أنفسهم اسماً واحداً هو بطليموس ولم يلتزم الملوك اللاحقون بهذا اللقب بل حملوا أسماء متعددة مثل سلوقس وأنطيوخس ودمتريوس وإسكندر وجميع هذه الألقاب تعظيمية في مضمونها كانت تضاف إلى أسمائهم مثل نيكاتور (المنتصر) وابيفانس (المتجلي) وفيلادلفوس (المحب لأخيه) وغير ذلك كما حمل أفراد الحاشية الملكية ألقاباً فخرية متباينة المراتب كان الملك يهبها لمن يشاء من رعاياه دون تحديد وكانت تعرف اللغة الإغريقية اللغة الرسمية في فلسطين في العصر الهلنستي كما كانت تعرف الآرامية لغة شعبية إضافة إلى اللغة العبرية للفئة اليهودية.
لم تعرف الأرض الفلسطينية تقويماً رسمياً في الفترة الأولى من العصر الهلنستي خلال حكم البطالمة وكانت تؤرخ بسني حكم الملوك في وقت كان اليهود يؤرخون بتقويمهم الخاص بهم.
ومع بداية الحكم السلوقي تبعت فلسطين التقويم السلوقي الذي يبدأ بشهر تشرين الأول عام 312 ق.م. وقد استمر العمل بهذا التقويم حتى القرن الثالث الميلادي.
ورغم غموض المعلومات عن السلطة المحلية والتنظيمات الإدارية في تلك الفترة يمكن استخلاص بعض المعلومات الهامة السائدة في ذلك الحين فقد كانت فلسطين تقسم إلى قسمين: الأول الوحدة الكهنوتية وعاصمتها بيت المقدس وبقية الأرض الفلسطينية وأشهر مدنها عكا التي سماها البطالملة الأوائل بتولمايس (بطلماية) وكانت المدينة نفسها في فترة متأخرة من المدينة ومما تجدر الإشارة أنه لا تتوافر أية معلومات عن مستعمرات عسكرية أنشأها الملوك البطالمة أو السلوقيون على الأرض الفلسطينية رغم أهميتها الفائقة لنظم الحكم في الدولتين إلا بعض الحصون التي أنشأت في أكثر من موقع خاصة في بيت المقدس.
تضمنت فلسطين عدداً كبيراً من المدن المحلية وعدداً من المدن الإغريقية ولا يعرف الكثير عن إدارة المدن المحلية ويرجح المؤرخون أن فلسطين في تلك الحقبة استمرت تنهج طريقتها القديمة في إدارة شؤون البلاد وكشفت الآثار في عدد من المدن الهلنستية أن كل مدينة إغريقية كان لها مجلس يترأسه ممثل عن الملك الذي أطلق عليه لقب ايبستات وكان يناط به تنفيذ الأوامر الملكية في المدينة وفي المدن المحلية المجاورة و هذا النظام كان مطبقاً في المدن الإغريقية أو المتأغرقة في فلسطين في ذلك العصر.
أما بخصوص الوحدة الكهنوتية اليهودية فكان المركز الرئيس لها بيت المقدس على الرغم مما يزعمه المؤرخ اليهودي يوسيفوس من أن الوحدة الكهنوتية تشبه المدن الإغريقية وهذا الكلام مردود عليه بدليل عدم وجود هيئة تمثل مواطنين تشارك من خلال تشكيل المحاكم واختيار الحكام وكان الكاهن الأعظم في المجتمع اليهودي يترأس جهازاً يتألف من رؤساء العائلات الكبرى والرهبان ويُنتقي حسب مزاجه وفق قواعد مجهولة لتكوين هذا الجهاز ومن الجلي انه لم يكن للشعب رأي في ذلك وتوحي القرائن بأنه كان جهازاً ارستقراطياً لم ينُتخب أي من أعضائه بشكل ديمقراطي كما ساهم النزاع بين المتأغرقين (أنصار السلوقيين) بزعامة عائلتي طوبيا وأونياس من جة والمحافظين بزعامة المكابيين من جهة أخرى على استحكام الخلاف بين العائلات الكبرى حول تولي المراكز القيادية المحلية وجدير بالذكر أن أبرز مظاهر عطف الملوك على العائلات الكبرى الإعفاءات من الضرائب والألقاب الفخرية كما كان الكاهن الأعظم مسئولاً عن تنظيم جباية الأموال الحكومية تحت رقابة المندوب الملكي للحكومة المركزية ويذكر أن الهيئة الكهنوتية لم تقدر على نقص قرارات الكاهن.
وكانت الفوروس أو الجزية من أهم الضرائب التي كانت تجبى للملك البطلمي في فلسطين والملك السلوقي وهي ضريبة معروفة منذ عهد الملك الفارسي دارا الأول سنة (521-486 ق.م. ) واستمرت في ذلك حتى الفتح الروماني وكان مقدار الجزية حسب الأوضاع والظروف فقد دُفعت في بيت المقدس في عهد أنطيوخس الثالث بثلاثمائة تالانت (وزنة) كما وصلت في عهد خليفته أنطيوخس الرابع إلى ثلاثمائة وتسعين وبناء على ما تقدم ذكره أؤكد أن الأرض الفلسطينية بكاملها كانت تدفع قرابة ألف تالانت في تلك الحقبة.
وكان يُتبًع في فرض الجزية قاعدتان أساسيتان أولهما: أنها لم تكن تفرض على كل فرد بعينه بل على المجتمع بأسره وثانيتهما: أنها كانت تقسم على عناصر هذا المجتمع أفراداً أو قرى بالتساوي وكان القيمة تظل ثابتة ولا تتغير لمدة غير معروفة سواء كانت سنين خير أو قحط وكانت العادة أن تدفع نقداً وعيناً من المحاصيل أو الحيوانات حسب شهرة الوحدة الجغرافية بنوع معين من أنواع الثروة على غرار ما جرت عليه العادة زمن الفرس.
ولما كانت الجزية هي الدلالة الملموسة الوحيدة على الخضوع الكامل للملك لم تعف أية وحدة جغرافية للمملكة البطلمية أو الإمبراطورية السلوقية إلا بامتياز خاص كان الملك يختص به بعض الوحدات بعينها وقد عُرفت المدن الفلسطينية عدداً من هذه الامتيازات أشهرها بيت المقدس وعكا في حالات قوة اليهود وضعف السلطة المركزية للسلوقيين وكذلك جزر واشدود منحت مكافأة لها تعويضاً عليها من جراء تصديها لليهود في بعض الجولات.
كما عرفت فلسطين إضافة إلى الجزية ضرائب أخرى في الفترتين البطلمية والسلوقية منها ضرائب كانت تُفرض على الأراضي والأشخاص وضريبة الملح وضريبة التاج وضريبة الأسواق وضريبة مزاولة الحرف أما في مجال الرسوم الجمركية عرفت فلسطين رسم الاستيراد على التجارة الخارجية ورسم المرفأ على التجارة البحرية ورسم الباب.
2- القضاة: في العصر الهلنستي كانت الأعراف والقوانين المحلية نافذة المفعول في فلسطين ولم يتدخل البطالمة أو السلوقيون على هذه القوانين إلا شيئاً طفيفاً من التعديلات التي اقتضتها الأوضاع الجديدة وتشير الشواهد التاريخية أن الجاليات القومية في المدن الفلسطينية كانت تعتمد قوانينها وأعرافها الخاصة حتى يزعم بعض المؤرخين اليهود المأجورين أن الجاليات اليهودية في مدن المملكة البطليمية أو الإمبراطورية السلوقية قد حصلت على حق محاكمة أعضائها حسب شرائعها الدينية في تلك الآونة وكان لرجال الشرطة الفولاكيتاي مهمات يكلفون بها في تطبيق النظام وتنفيذ الأحكام في سائر المدن الفلسطينية وهذا ما يدحض ما زعمه بعض مؤرخي اليهود.
3- الحياة الاقتصادية: يُجمع المؤرخون على تقدم الزراعة في العصر الهلنستي في فلسطين بدليل ما تشهد به المصادر القديمة من فرط عناية البطالمة الأوائل والسلوقيين المتأخرين بها نتيجة حاجتهم الملحة لها لجلب الأموال لبناء القوات وإنشاء المدن والمستعمرات وكانت الزراعة من أهم موارد الدولة إن لم تكن أهمها إطلاقاً ويتضح ذلك من خلال ما أحدثه السلوقيين بشكل خاص من انقلاب جذري على الملكية الزراعية واستيلائهم على أراضي الملك الفارسي والملكيات الكبيرة التي تبعت المدن التي قاومتهم الوحدات الكهنوتية الغنية بشراسة.
وتذكر المصادر أن الفلاحة كانت تتم بمحاريث حديدية تجرها الثيران وأن الفلاحين كانوا يتبعون الدورة الزراعية القائمة على نظام زراعة الأرض مرة كل عامين وزراعة الحبوب والقمح بشكل دوري فقد اشتهرت السهول الفلسطينية بإنتاج الزيتون والزيت بجودة عالية الأمر الذي دعى إلى فرض مكوس جمركية باهظة على الزيت السوري ولم يمنع ذلك من توريده إلى مصر في تلك الفترة.
وتجدر الإشارة هنا أن صناعة الزيت والنبيذ من أهم الصناعات في العصر الهلنستي لتوافر الكروم وأشجار الزيتون بكثرة ولشدة حاجة الإغريق إلى هاتين المادتين ولقد كان طبيعياً أن يفضي إنتاج صناعتي النبيذ والزيت إلى ابتكار صناعة ثالثة هي صناعة الآنية الفخارية اللازمة لتعبئتهما فيها وتشير الموجودات الأثرية إلى انتشار ظاهرة تقليد نماذج الفخار الأتيكي في مراكز المملكة البطليمية والمراكز الغربية للإمبراطورية السلوقية وكان يطلي ذلك باللون الأسود وتسمى نماذجه الأولى (الكؤوس الميجارية).
وفي العصر نفسه ظلت مدن الساحل الفلسطيني تنتج أصنافاً ممتازة من المصنوعات الزجاجية مثل الكؤوس والأطباق والحلي الزجاجية.
ويرجح المؤرخون رغم افتقارهم إلى معلومات دقيقة عن صناعة النسيج في العصر الهلنستي في فلسطين استمرار المراكز الصناعية القديمة في إنتاج المنسوجات وذلك لاشتهار هذه الصناعة في الفترتين الفارسية والرومانية وكذلك لحاجة السكان إلى استخدام الملابس الكتانية والصوفية على حد سواء.
ومن عوامل انتعاش التجارة في العصر الهلنستي عاملان: أولهما التحول الهام من الاقتصاد العيني إلى الاقتصاد النقدي مما أدى ذلك إلى قيام الإسكندر المقدوني بغزو الشرق والاستيلاء على كنوز الفرس والسيطرة على نقودهم الذهبية. وثانيهما موقع فلسطين الجغرافي وخاصة جنوباً على طريق التجارة الهندية، وكان طريقاً بحرياً بين الهند والموانئ الواقعة في جنوب الجزيرة العربية مثل أدانا وجزيرة سقطري حيث كانت المراكب الهندية تفرغ حمولتها لدى الأعراب في المنطقة الجنوبية ويقوموا بنقلها إلى الشمال عبر البحر الأحمر أو عبر الطريق البري القديم الذي كان يعرف باسم طريق البخور كما كان يمر بسبأ ومعين ويثرب والعلا وأددان وأيلة أو العقبة والبتراء وهناك طريق تجاري آخر قادم من جرها على الساحل الغربي للخليج العربي إلى مدن الساحل الفلسطيني ودمشق وصور.
4- الحياة الاجتماعية: بالرغم من عدم توفر المعلومات الدقيقة عن الحياة الاجتماعية في العصر الهلنستي إلا أنه خرج المؤرخون المعاصرون ببعض التصورات التي لا ترتقي إلى مستوى المعلومات التاريخية المؤكدة فيها أن المجتمع الفلسطيني قد انقسم في ذلك العصر إلى أربعة أقسام: قسم زراعي أو إقطاعي، وآخر تجاري، وثالث كهنوتي، ورابع قبلي وقد سكنت المجتمعات التي احترفت الزراعة في مختلف مناطق فلسطين باستثناء قسمها الجنوبي والجنوبي الغربي الصحراوي لطبيعتها المقفرة في حين تركزت المجتمعات التي احترفت التجارة في المدن الكبرى الساحلية والكهنوتية في بيت المقدس ومناطق السامرة وحول المعابد كما تركزت المجتمعات القبلية في الجنوب والجنوب الغربي.
ولا شك أن المجتمعات التجارية عادة تكون أكثر انفتاحاً من غيرها أي أكثر مرونة وحيوية ولهذا لا يستبعد تأثر أهالي الساحل الفلسطيني بشكل خاص بالحياة الاجتماعية الإغريقية قبل الغزو المقدوني للمنطقة.
أما المجتمعات الإقطاعية والكهنوتية والقبلية فإنها حافظت على عاداتها وتقاليدها كما أضيف إلى ذلك الاعتزاز بالماضي.
يمكن القول إن الغالبية العظمى من القيم الوطنية في فلسطين كانت تعيش في المدن والقرى لفترة طويلة تحيا حياتها المألوفة محافظة على عاداتها وتقاليدها الموروثة مع اقتباس بعض الشيء لمظاهر الحياة الإغريقية.
وفي مجال الحياة الدينية لهذه المجتمعات كان لكل مجتمع معتقداته الدينية التي لا يعرف عنها الكثير وقد اتفق أكثر الباحثين على ما يلي:
1-توجد فوارق عميقة بين المعتقدات الدينية الفلسطينية أو السورية عموماً وبين المعتقدات الإغريقية.
2-إن ديانة الفلسطيني لا تكون مثل ديانة الإغريقي أحد جوانب حياته يل هي أساس قوام حياته.
3-إن الفلسطينيين القدامى كانوا لا يؤلهون البشر ولا شك أن البطالمة والسلوقيين أدركوا حقيقة ذلك عن أهالي فلسطين وسورية وعرفوا أن لكل مجتمع ديناً يسيطر عليه. وأن هؤلاء الرعايا في فلسطين وسوريا لا يعبدون البشر وإن كان ملوكهم الذين يطلقون على أنفسهم صفات كبار الآلهة ويلاحظ في تلك الحقبة أن الدين له مكانة سامية ويستدل إلى حرية العبادة للرعايا وقد ظهر ذلك جلياً احترام الملوك للآلهة المحلية بعل وحدد وارتاجاتيس ويهوه وأزويريس ويعتقد أن ملوك البطالمة والسلوقيين قد عُبدوا بعد مماتهم في مدن إمبراطوريتهم ومنها المدن الفلسطينية فليس هناك ما يثبت انتظام هذه العبادة في أي مدينة فلسطينية([8]).
أثر الثقافة الهلنستية على اليهود
كان حلم الاسكندر الأكبر تأسيس مجتمع عالمي لا يوجد به أثر للحواجز القومية و الثقافية مستمداً أفكاره من الفيلسوف اليوناني أرسطو وهي فكرة تأسيس مملكة عالمية تسودها الحضارة واللغة اليونانية وكذلك بناء مدن يونانية لتوثيق عُري التقارب ما بين الشرق والغرب لنشر الثقافة اليونانية حيث بلغت هذه المدن اليونانية في الشرق الأدنى على ما يزيد على سبعين مدينة.
عومل اليهود في البداية معاملة حسنة حيث تم ترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية وهي الترجمة التي عرفت بالترجمة السبعينية، ثم تبدلت هذه المعاملة لتأخذ منحنى القسوة بعد أن حاول بطليموس الرابع نشر الثقافة اليونانية بين اليهود التي رفضها اليهود فأمر بطليموس الرابع بزيادة الضرائب والتشديد على اليهود لقبول حضارة وآداب اليونان.
أدت هذه السياسة إلى ظهور حزب يهودي اقتدى بحضارة اليونان واقتبس جميع مظاهر الحياة اليونانية من آراء جديدة.وحزب يهودي آخر تعصب لعقائد الديانة اليهودية وتشبث بالبقاء على أساليب الحياة اليهودية، ففي عهد الملك أنطيوخوس عام 175-164 ق.م. دمر هيكل سليمان ونهب وكذلك أجبر اليهود على اعتناق الوثنية اليونانية.
وكانت عودة اليهود المسبيين من بابل إلى فلسطين أن أصبح يهود بابل يمثلون الجناح الأرثوذكسي لليهود الذين يعتقدون بأن العنصر الرئيسي الذي يقوم عليه الاعتقاد اليهودي هو فكرة شعب الله المختار، وفي عام 1968 ق.م. هاجم أنطيوخوس الرابع أورشليم وأباحها للقتل والنهب وحرّم على اليهود تأدية الشعائر الدينية واحترام السبت والختان وكذلك إحراق النصوص الكتابية الخاصة باليهود، ثم أمر بالقسوة على اليهود وأن يقوموا بتأدية العبادة الإغريقية للإله زيوس في حرم القدس كما فعل نفس الشيء مع السامريين في جرزيم ( [9])
واعتبر أن معبد القدس معبداً يونانياً يتم فتحه إلى جميع الشعوب للتعبد مما يتوجب عليه وضع أصنام جميع الشعوب داخل المعبد وكذلك ذبح الخنزير أمام المذبح.
لقد عاملت اليونان اليهود بقسوة وأرغموهم على ترك ديانتهم وإتباع الوثنية الإغريقية والحضارة واللغة اليونانية .
المراجع
1- بيان نويهض الحوت ،"فلسطين القضية،الشعب،الحضارة" ،دار الاستقلال للدراسات والنشر،بيروت،لبنان 1991 ،ص58
2- فيليب حتى: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين (مترجم) بيروت 1958
3- إبراهيم نصحي: مصر في عهد البطالمة- القاهرة 1946
4- الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات- المجلد الأول (أ-ث)- الطبعة الأولى 1984- إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية- دمشق- صـ404-405
5- العهد القديم: نبوءة دانيال، سفر التكوين الأول، سفر المكابيين الثاني
6- نجلاء عز الدين . العالم العربي . ترجمة محمد عوض إبراهيم وآخرون . دار إحياء الكتب العربية . الطبعة الثانية . القاهرة 1962
7- يوسف إلياس الدبس ،"تاريخ سوريا"، المجل الثالث ،الجزء الثاني ص263 ، بيروت 1898 م
8- الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات- المجلد الثالث (ص-ك)- الطبعة الأولى 1984- اصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية- دمشق- صـ266-271
9- أحمد عثمان ،"تاريخ اليهود" ،مكتبة الشروق ،القاهرة 1914،ص26
[1] -بيان نويهض الحوت ،"فلسطين القضية،الشعب،الحضارة" ،دار الاستقلال للدراسات والنشر،بيروت،لبنان 1991 ،ص58
[2] فيليب حتى: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين (مترجم) بيروت 1958.
[3] إبراهيم نصحي: مصر في عهد البطالمة- القاهرة 1946.
[4] الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات- المجلد الأول (أ-ث)- الطبعة الأولى 1984- إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية- دمشق- صـ404-405.
[5] العهد القديم: نبؤة دانيال، سفر التكوين الأول، سفر المكابيين الثاني.
[6]- نجلاء عز الدين . العالم العربي . ترجمة محمد عوض إبراهيم وآخرون . دار إحياء الكتب العربية . الطبعة الثانية . القاهرة 1962.ص297
[7]- يوسف إلياس الدبس ،"تاريخ سوريا"، المجل الثالث ،الجزء الثاني ص263 ، بيروت 1898 م
[8] الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات- المجلد الثالث (ص-ك)- الطبعة الأولى 1984- اصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية- دمشق- صـ266-271.