شهادة عن سنين الكرب

 شهادة عن سنين الكرب

 صالح الحاج صالح 

(1)

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف ويفك عان

ويأتي أهله النائي الغريب!

 (أغنية لم تنشدها فيروز)

ياسين:

شهران، ثلاثة شهور، ونحن نخفي عن أمي خبراً سيئاً، نداور ونتحايل عليها، نخترع كذبة ونتمنى أن تكون كذبتننا حقيقية، ودائماً نرى الشك وعدم التصديق في عينيها، كل يوم تسأل نفس السؤال. وكل يوماً كذبة جديدة. نوغل في الكذب لدرجة أصبح قول الحقيقة شبه مستحيل، لديها إحساس بأن شيئا ما حدث، ولدينا حبل كذب طويل... طويل.. لا يا أمي ياسين بخير. فلان قال بأنه سيأتي الأسبوع القادم... أرسل مع فلان يريد "مصاري"... أرسل يطلب لباسه الشتوي... لديه امتحان... بعث برسالة "نريها رسالة مزورة" سيأتي في عطلة العيد.

كنا نعتقد بأن الأمر لن يطول كثيراً - أيام وربما شهر – فلماذا إخبارها، بما أن الأمر لن يطول كثيرا لنجنبها الخوف والقلق ووجع القلب على ابنها الذي تحب وتفخر به، ولنجنب أنفسنا الضيق والإرباك عندما تنهمر دموعها، دموعها ميزتها وهويتها، جزء كبير من ذاكرتنا عن أمي دموعها، دموعها تنهمر لأي سبب هناك عقد دائم بينها وبين الدموع. تبكي إذا ذهب قريب إلى خدمة العلم وتبكي إذا نجح أحدنا في المدرسة وتبكي إذا تأخر أحدنا ليلا وتبكي إذا شاهدت أو سمعت قصة حقيقية أو مسلسلا تلفزيونيا تبكي إذا تزوجت قريبة وتبكي إذا أمحلت السماء وتندب إذا توفى قريب أو جار وإذا فرحت تبكي وتهلهل "تزغرد" البكاء صفة وميزة لها.والبكاء يظهر اللون الأخضر الزيتوني في عينيها نضراً وندياً - للأسف لم يرث أحد منا لون عينها، ابنة أخي الكبرى هي التي ورثت زيتون عيني أمي - وميزتها الأخرى التي تنفرد بها هي اسمها، على طول البلاد وعرضها لن تجد أحداً يحمل هذا الاسم، واسمها عكس طبعها اسمها يدل على الغضب والعنفوان والقسوة، اسمها الذي اكتسبته بطريقة عبثية، حيث تمّ التخلي عن اسمها، لصالح رؤية بدوي كان يسلبهم لقمة الخبز والحلال وحتى اللباس كما تروي " حبا بتي " أم والدتي، تقول: أسميناها، وردة لكن ذاك البدوي الله يسامحه، قال يا حرمة ما اسم تلك الصغيرة قلت له: وردة، قال بعدما تجول بنظره في الأفق سموها "عجاجه" كي تعيش، اسم جميل ووجه جميل لا يمكن أن يعيشا، وهذه النصيحة بدل ما سلبتكم إياه. وعاشت أمي وتزوجت وأنجبت تسعة أبناء أحياء ياسين رابعنا، وخامسنا أختنا الوحيدة أو "واسطة العقد" كما يحب أن يقول أبي.

*  *  *

عرفنا باعتقال ياسين بعد يومين أو ثلاثة، ونعرف من خلال من سبقه إلى المعتقل بأن الزيارة أو معرفة أي شيء عنه لن تتم قبل مرور فترة زمنية ليست بالقصيرة، في البداية كنا نخشى السؤال عنه أو حتى التصريح بأنه معتقل، لكن وبعد مرور شهرين تقريباً وبمساعدة قريب لنا قمت بزيارته، بسهولة ويسر لم نكن نتوقعها.

قال لي رجل الأمن السياسي قبل إعطائي تصريح الزيارة:

- من أين جاءكم هذا المرض؟

بسبب من الحصر الذي أشعر به وأنا جالس على طرف الكرسي ويدي مضمومتين في حجري، لم أدرك مغزى سؤاله.

- همهمت أي مرض سيدي؟

- قال: الشيوعية.

- قلت متلعثماً وبكلام غير مفهوم "لسنا كلنا سيدي، هو ليس كذ...، هو يح...، هو مغرر ب...، هو طالب....

- قال: حسناً، انصحه بالتعقل وهو يعرف كيف السبيل إلى جادة الصواب، ووعد مني سيذهب معك، ويعود إلى جامعته.

خرجت من فرع الأمن السياسي القديم بحلب الواقع أمام البريد المركزي والمطل على ساحة سعد الله الجابري، بشعور أفضل من شعوري عندما كنت أجلس أمام رجل الأمن السياسي. أشعر الآن بشيء من الهمة العالية، كأنني حققت نصرا على أحد ما.

أوقفت سيارة أجرة. مددت رأسي داخل السيارة، كم تريد إلى المسلمية، قال كعادة تجار أهل حلب ببلاش! تفضل. لم أفاوضه بسب الرضا الذي يملأ كياني ولم يحدد سعراً كي يحصل على أعلى مبلغ في نهاية المشوار.

الطريق إلى المسلمية يخترق حلب إلى جهة الشمال الشرقي، وبعدها يسير محاذيا لنهر قويق، حيث تتبعثر في واديه الضيق بعض الحقول.

قال السائق: إلى المعسكر؟

- لا، إلى السجن.

رد خير إنشاء الله، الله يفك أسره، كم محكوميته؟

- ليس محكوما... معتقل سياسي!

قلتها بنبرة عالية قليلاً، وبشيء من الفخر، كأني أرد على تلعثمي أمام رجل الأمن السياسي.

- قال: إخوان؟

- لا. مكتب سياسي.

- شو يعني مكتب سياسي.

لم أعرف بماذا أجيب. ولم أعرف لماذا قلت هذا الجواب أصلاً؟ ولماذا انتابني شعوراً بالضيق وعدم اليقين والحيرة؟ لماذا مكتب سياسي؟ لماذا لم أقل شيوعي؟ لماذا أشعر بالحرج من إعلان انتماء أخي لا أعرف لست متيقناً.

"هذه الإشكالية ستحل من قبل من بقي بعد خمس وعشرون عاما".

وصلت إلى سجن حلب المركزي، ببنائه الأصفر الباهت، الذي يتوسط ساحة كبيرة، محاطاً بجدار خارجي مرتفع من الواجهة الأمامية، وأسلاك شائكة وأبراج مراقبة من باقي الجهات. في وسط جدار الواجهة الأمامية تقف بوابة حديدية ضخمة محروسة برجال شرطة بكامل أسلحتهم وعلى جانبيها غرفتان مستطيلتان تنفتحان على العالم الخارجي من كوتين صغيرتين يتم من خلالهما الاتصال بعالم السجن في الداخل.

قدمت بطاقة الزيارة للشرطي الواقف أمام البوابة الرئيسية وبدوره نادى على أحدهم وأعطاه بطاقة الزيارة. قال الأخير: انتظر هناك.

أمام السجن مهرجان رجال ونساء وأطفال، شيوخ وعجائز، وجوه كالحة مغبرة ووجوه نظرة مبتسمة، سائقي سيارات وباعة خضار وفواكه، وأكشاك لبيع المعلبات والسجائر، شرطة ومخبرين، عساكر من المعسكر القريب يقتلون الوقت بانتظار سيارة تقلهم إلى المدينة بالفرجة على الحشد.

يخرج شرطي من البوابة الحديدية وبيده ورقة، يقف على حجر يتخذه شرطة البوابة مقعداً للجلوس عندما لا يكون هناك زوار.

- شوفوا يا شباب من أقرأ اسمه فليتقدم، أما البقية فابقوا في أماكنكم، الله يخليكم، لا نريد أن نبهدل أحد. قبل أن ينهي كلامه يكون الجميع قد تقدم، يندفع الحشد باتجاهه وتعلو الهمهمة والصياح، لا يريد أحد الانتظار، تخطف الحقائب وسلال الطعام والأكياس من الأرض بسرعة وخفة، الكل يعتقد بأن له الحق في الدخول قبل الجميع، حتى الذي وصل توا.

يدخل من قرأ اسمه ويعود من لم يكن محظوظا بشعور من الحنق على الشرطي، مؤنبا نفسه على الخفة التي أفقدته مكانه في ظل الشجرة الوحيدة على الرصيف المجاور لبوابة السجن.

طال انتظاري، من جاء بعدي دخل منذ وقت طويل، تقدمت نحو الشرطي وقلت دخل كثيرون جاؤوا بعدي وأنا لا أزال منتظراً، قال: هؤلاء لديهم مساجين عاديين ونحن ليس لنا علاقة بكم، وأنت جئت بيوم ليس مخصص لزيارة المساجين السياسيين، لابد أن لديك واسطة ثقيلة، وعموماً سيأتي أحد من مفرزة الأمن السياسي ويدخلك. وبعد ساعة جاء أحدهم، نادى على اسمي فتوجهت عبر الحشد إلى البوابة الرئيسية وسط همس، واسطة، مدعوم....

أسير وراء الذي نادى على اسمي عبر طريق مظللة بأشجار الكينا ومحاطة بشجيرات الغار "أكاليل النصر في الأغاني الوطنية" لتنتهي إلى درج عريض وقليل الارتفاع تعلوه بوابة حديدية سوداء هي المدخل الرئيسي لمبنى السجن، وبعد البوابة ينفتح بهو ترتصف على جانبيه غرف تشغله على ما يبدو إدارة السجن، وتتزين جدران البهو بصور الرئيس والكثير من العبارات التي تتوعد الأعداء بالويل والثبور، وفي صدر البهو وبكامل عرضه تنتصب بوابة جديدة من قضبان حديدية متصالبة، يحرسها شرطيان بكامل سلاحهما. دفع الرجل الذي يسير أمامي البوابة بعدما أدار المفتاح وأفسح لي كي ألج داخلها، لتظهر بعدها عدة ممرات وباتجاهات مختلفة تفضي إلى مهاجع المساجين. أشار لي بالجلوس في غرفة لها جداران ومحاطة من الجهتين الباقيتين بشبك حديدي مزدوج وفي إحدى زواياها كرسيان متقابلان يجلس على أحدهما شخص مطأطأ الرأس لم يلتفت إلي ولم يعرني انتباها ترددت في إزاحة الكرسي من أمامه والجلوس عليه، فأسندت ظهري على الجدار، ربما شعر بارتباكي فأبعد الكرسي من أمامه... تفضل.

لم أكد أجلس حتى دخل من كان بانتظاره ومن الشبه بينهما عرفت أنه أخاه، تصافحا، فتخليت عن الكرسي وعدت مستنداً إلى الجدار.

دقائق وظهر ياسين لمحته من بعيد يسر بخفة وسرعة وراء الرجل الذي أدخلني، يميل برأسه قليلا على كتفه، متلصلصاً من وراء الرجل الذي أمامه، وعندما اقترب ورآني علت وجهه ابتسامة خفيفة وغارت عيناه بين جفونه المتغضنة، تصافحنا بقوة وبشدة كأننا نريد دفع التوتر والقلق عنا عبر المصافحة العنيفة.

قال الرجل الذي أدخلني: ربع ساعة وتنتهي الزيارة.

لم ندر من أين نبدأ، تبادلنا أسئلة سريعة ومفككة عن الحال وعن الأهل.

- قال متى علمتم،

- بعد يومين أو ثلاثة من اعتقالك، لكن لم نحصل على الزيارة إلا هذا اليوم، بواسطة ابن خالك.

- قلت هل عذبوك.

- يعني.

- سأل من يدري؟

- قلت: نحن، أمي وأبي والصغار لا يدرون.

- قال من الأفضل إخبارهم.

- ليش؟ مطولين؟

- قال ربما بعد امتحانات الفصل الأول، يريدون معاقبتنا وحرماننا من الامتحانات.

- يا لطيف، أمك وأبوك راح يجنوا، إذا هذه السنة ضاعت عليك؟

- قال لا تخافوا عليّ، أنا أستطيع التعويض، تعرفوني عندما أجدّ، بس في الزيارة القادمة أحضروا لي كتب الجامعة.

....................

......................

بدأ الطرق على القضبان الحديدية إيذانا بانتهاء الزيارة.

*  *  *

بعد ثلاثة شهور من اعتقاله.

- قالت أمي: سأذهب إلى ياسين، هذه حلب.

لم نتفاجأ كثيراً، كنا نتوقع بأنها ستطلب طلباً كهذا ومنذ زيارتي له كنا نعد العدة لإخبارها لكن لم تواتينا الجرأة وبالأحرى كان الأمل بالإفراج عنه يطل برأسه في كل لحظة.

- قال أخي الأكبر: ياسين معتقل، قالها فجأة وبدون مقدمات، كغريق يريد التخلص وبمرة واحدة من الدوامة التي تأسره، صالح زاره من شهر والإفراج قريب، وهو بخير وصحته جيدة... طيب احكي لهم أنت، طمأن أمك على ياسين، ألم يوصيك على كتبه، ماذا يعني ذلك، يبدو أنها فركة إذن أيام ويخرج إنشاء الله.

- انهمرت الدموع من عيني أمي وبدأت مناحتها؟ يا ويلي يا سوادك يا وجهي، والله قلبي كان حاسس انو في شي، اشيأكل واشلون ينام، بردان ولا عريان يا بني، الله يسامحكم تريدون تميتوني ناقصة عمر، ضربوه.. ها.. ضربوه.. أكيد ضربوه، يا كبدي، مسكين ما يتحمل ضربة كف.

- قال أبي: يعني راحت عليه هذه السنة.

(2)

مصطفى:

مرة أخرى، خلال السبع سنوات القادمة نخفي عن أمي أخباراً سيئة، لكن لم نستطع كما في المرة السابقة إخفاء الخبر طويلاً ليقيننا بأن الأمر لن يكون مجرد فركة إذن واعتقال لعدة أيام.

مصطفى الحاصل على شهادة المعهد المتوسط لاستصلاح الأراضي، نقل عمله بناء على طلبه إلى فرع مؤسسة حوض الفرات في حلب، ليكون قريباً من الجامعة ومتابعة دراسته في كلية الحقوق، لم تقتنع أمي ولم يقتنع أبي بالمبررات التي ساقها لهم (سأكون قريباً من الجامعة وأنهي دراستي خلال أربع سنوات أحسن من الرواح والمجيء، وبعدين أريحكم من مشكلة تقديم طلب زيارة ياسين... وبما أن خالد يدرس هناك ويوجد بيت لا مشكلة، وبهذا الشكل راتبي يكفيني ويكفي خالد.. شو رأيكم؟).

كنا قبل اعتقال مصطفى قد تأقلمنا وتعايشنا مع اعتقال ياسين، وكانت الحياة تسير هينة، وبيسر مادي تقريباً، وبشعور من التميز بالنسبة لنا، أما أمي وأبي فكانت الغصة تظهر على شكل تذمر وشكوى، شكوى من الزمن وأولاد الحرام الذين لم يتركوا لأولاد الحلال شيء.

اعتقل مصطفى بعد مرور بضعة شهور على انتقاله إلى حلب، وفي إطار حملة اعتقالات طالت منتسبين "للمكتب السياسي" في كل من محافظتي حلب والرقة. خلال شهر تشرين الثاني عام 1986. اعتقل في مكان عمله، والدورية التي اعتقلته جاءت به إلى البيت وفتشته، حسب ما قاله خالد في اتصاله بأخي الكبير

كنت وقتها في "الخدمة الإلزامية" خدمة العلم، وأثناء إحدى الإجازات مررت على أخي في عيادته، وقال من يومين اتصل خالد واخبرني باعتقال مصطفى..

كالسقوط من مكان مرتفع، تعرف أنك تهوي لكن لا تستطيع فعل أي شيء، تتوقع الارتطام في كل لحظة لكنك لا تصل إلى قرار، تهوي وتهوي، تريد أن ترتطم بالأرض أو أي شيء كي ينتهي السقوط، لكن لا يوجد سوا الفراغ.

- كيف نخبرها.. نخبرهم؟

ينتهي السقوط، وتعرف بأن عليك الإجابة على أسئلة لا تريدها، تتمنى للحظة

لو استمر السقوط إلى ما لا نهاية.

- قلت: نخبر من؟ أعرف نخبر من؟ لكن كيف؟

- قال: الدور عليك، أنت تخبرها!

- طبعا.. سأخبرها.

لا أعرف لماذا استخدمنا الضمير الغائب؟ لماذا لم نقل أمي وأبي؟ قد يكون ذلك أكثر حميميةً وأكثر تشخيصاً أو قد يكون ذلك أكثر انتماءا إليهما، في وقت نريد أن ننأى بأنفسنا قليلاً عنهما كي نستطيع أخبارهم.

*  *  *

مرت عدة أيام مأتميه انزوت فيها أمي نائحة باكية، ومن يأتيها من الجارات أو القريبات مواسيةً أو شامته كانت مناسبة لها لتجديد الجو ألمأتمي.

شهر حتى حصلنا على زيارة الموقوف الجديد، خلاله صبت أمي جام غضبها على كل شيء، في البداية علينا جميعاً على أولادها وعلى نفسها وعلى أبي.

- عجزت وطلع على لساني شعر عشان ما يروح على حلب كل الناس تذهب إلى حلب للفرجة والتسلية وأنتم تذهبون كي تدخلوا السجن مالها الرقة ما عاد تعجب. كبرتم وفرحنا دخلتم جامعات وشفنا حالنا، تفو، لا الكبير امريحنا ولا الصغير امفرحنا، كل الأواليد تروح وترجع على أهلها ألاّ آني المسخمة اللي يروح ما يرجع.

وأحياناً توجه غضبها إلى الناس، عين وصابتكم يا ولدي، يا فرحة العدوين، شو سوينا، تا. ما. حدا مخلينا بحالنا.

وأكثر الأحيان غضبها وزعلها يتوجه نحو أشخاص غير محددين وبدون تسمية، أولاد الكلب شو يريدون من الناس، شو عملوا هالأولاد؟ قال يحكون بالسياسة واشصار اللي يحكي، يحكي، خربت الدنيا، خايفين من ألحكي "وللاّ اللي بخرجو مسلة تنخزو"، كل يوم سياراتهم طايرة في الشوارع، ويعبون بالبشر، وين على دير الزور، وين على حلب، وين على تدمر، وبعدين لا حس ولا خبر، الله يعين قلوب أمهاتهم اللي يروح ما يرجع، الحمد لله على الأقل أنا أعرف أولادي وين.

بكائها وتذمرها يبدأ فجراً، عادة الاستيقاظ فجراً، اكتسبتها منذ وقت طويل أو حسب ما تقول "خلقت معي". هذه العادة كانت معركتنا الوحيدة مع أمي قبل زمن الاعتقالات.. هيا استيقظوا، صارت الدنيا ضحى.. الشاي جاهز.. الفطور جاهز.. ليش في أحسن من الاستيقاظ صباحاً.. حتى الرزق يتوزع في الصبح... ما في عندكم دراسة.. أعطوني لبسكم عندي غسيل... نستيقظ متأففين، أو تمل وتتركنا للنوم. في زمن الاعتقال والخوف لم تعد تريد من أحد أن يستيقظ صباحاً، خصصت هذا الوقت للبكاء سراً، عدا الأيام الأولى بعد كل اعتقال والذي تسمح لنفسها بالبكاء علناً، لا تريد أن نرى دموعها، " فوق مصايبكم وخوفكم لا أريد أنغص عليكم ". يفاجئها أحدنا أحيانا وهي تمسح دموعها بباطن كفها. هل كنت تبكين؟

- لا.. إنه البصل أو إصبعي طرف عيني أو...

*  *  *

خالد:

لم نتوقع اعتقاله ووجود اثنان في المعتقل أعطانا نوعاً من الطمأنينة في استحالة اعتقال آخر، وعدا هذا لم نعهد أنه كان مهتماً بالسياسة بشكلها المباشر، بعد اعتقاله ذهبت بنا الظنون أن اعتقاله بسبب الخدمات التي كان يقدمها لذوي المعتقلين، وخاصة الجدد منهم، بحكم الخبرة، كتقديم طلب زيارة أو ما هو المسموح وما هو الممنوع عن المعتقل أو ماذا ينقل من أخبار الأهل للمعتقل وماذا لا ينقل. خالد، الطالب في كلية الزراعة بحلب السنة الثالثة اعتقل في آب 1987 من معسكر التدريب الجامعي، من قبل الأمن العسكري بحلب، هذه المرة أمي أول من عرف باعتقاله، عن طريق قريبة لنا ابنها في نفس المعسكر. أثناء مأتم أحد الأقارب.

كنا ملمومين، في البيت على غير العادة في هذا الوقت، وجاءت لاهثة كأنها كانت تخوض سباقاً. طوت عباءتها، وجلست بجانب أبي الذي أنهى صلاته تواً.

- اعتقلوا خالد؟

- لا حول ولا قوة إلا بالله، قال أبي ضاربا كفا بكف.

من كان منا مستلقيا يشاهد التلفزيون اعتدل في جلسته، ومن كان في أحدى الغرف خرج، أختنا الوحيدة خرجت من المطبخ وأسندت ظهرها على الباب. صمتً ثقيل، لم نمتلك القدرة أو الجرأة للسؤال عن التفاصيل، والكل مطرقً، لم ينظر أحدً بوجه أحد، لم نسأل كيف، ومتى، وأين؟ لأن الأجوبة نعرفها ولا نعرفها، أو الأسئلة تجعل الاعتقال حقيقة لا نريد تصديقها. كقتيل أردته رصاصة بين جمع يتسامرون ولا يريد أحد أن يتأكد من موته، لم يدر في خلد أي منا سوى الفراغ، لماذا لم تبك هذه المرة؟ لو أنها تبكي، لو أنها تولول، لماذا لا تبكين يا أمي كي نواسيك، كي نتحرر من الاختناق.

- سأذهب إلى حلب، والله ما أرجع إلا وابني معي؟

- آخذ ينو الأمن العسكري، أروح على بيت معلمهم، شو يريد يصير، مو ابن عالم وناس، ليش ما عندو أهل، وبعدين سجن ما راح يسجنوني، أم أحمد قالت ما يرد أحد.

وكأنها أدركت السؤال الذي يدور في بال كل منا عن هذه الأم أحمد، التفتت إلى أبي وتابعت، بيت أبو أحمد اللي كانوا فلاليح القطن عند حميدي الحاج صالح.

- آ.. آ.. ندت عن أبي، وتابع وين شفتي أم أحمد هذه، وشو معرفها بها لقصص.

- تابعت بحماس.

- في المأتم، وهو قريب لهم، وابنها يشتغل بالأمن، وأعطتني اسم المعلم، وين ساكن بحلب، ويمكن هي تروح معي، وقالت ما راح تخسروا شي، يمكن شوية هدايا تعطوها لابني وهو يوصلها لمعلمه.

فاجأنا، حماسها وذرية لسانها والحيوية التي هي فيها والتي أراحتنا نسبياً، وخففت عنا، لم نتوقع حماسها وعدم بكائها، البكاء الذي كان يستمر لعدة أيام بعد كل اعتقال مصحوبا بالشكوى، حيث يتحول البيت إلى مكان كئيب يجعلنا نهرب منه طيلة الوقت ولا نعود إلا للغذاء أو النوم، لم نحاول مواساتها إلا بكلمات قليلة وغير مفهومة، لأننا بحاجة إلى من يواسينا، أصبح البيت مكاناً خانقاً، لم تعد الأحاديث تتبادل حول الغذاء أو العشاء، ولم يعد التعليق على المسلسلات يبعث على الضحك، عندما يتوقع أحدنا التصرف أو الجملة التي سيقولها الممثل.

- شفتوا! ما أنا كاتب السيناريو أصلاً؟

لم يعد مثيرا كتابة أحدنا اسمه على كتاب أو مجلة لم يشتريها، وعندما يكتشف الأمر تدور حندة صغيرة، لنتفق فيما بعد على كتابة اسم العائلة على كل الكتب والمجلات الموجودة لدينا، ولم تعد لدينا الرغبة في لبس قمصان وأحذية بعضنا سواءً بموافقة صاحب القميص أو الحذاء أو بدونها، وكانت أمي دائما تقف بجانب من يستحلي لبس قميص أو حذاء أخيه، وإذا انكشف الأمر.

- شو فيها أخوك ولبس قميصك، خربت الدنيا، أنا راح أغسله، بس الكوي مو عليً.

وراحت الأيام التي كانت تجعلنا نأخذ "المصاريف" من جيوب بعضنا، بعلم أو بدون علم، كان أخينا الكبير محمد، هو الخاسر، لكنه لم يفتقد ولا مرة أي مبلغ، ليس بسبب كثرة ما لديه وهو"الطبيب" ولكن لأنه لم يحص ولا مرة ما لديه.

إذا، حالة أمي الجديدة، جعلتنا مشوشين، هل نؤيدها على ما هي عازمة عليه؟ أم نحاول ثنيها؟ وخاصةً أننا على يقين بأنها لن تحصل على ما تريد، وكذلك لم نسمع ولو لمرة واحده بأن أهل معتقل ما ولمجرد معرفة اسم رئيس فرع أمن أو عنوان منزله كافيان للإفراج أو على الأقل تأمين زيارة.

*  *  *

قالت: لم أرى أم أحمد بعدما تركتها و"الهدايا" في منزل ابنها – شفتوني رحت حامله ومحملة - قال لي ابنها: خالتي أنا سأوصل الهدايا إلى بيت المعلم، ما يصير تأخذينها معك، راح أتكلم معه، ويضع اسمك عند الحراس، بس الله يوفقك يا خالتي، ما تحكين إنه أنا أرسلتك ودليتك على بيت المعلم، تعرفين الناس وغيرتهم من بعض.و كثرة الحكي بها الأمور يضر وما ينفع، ما سمعتي اللي يقول " اقضوا حوائجكم بالكتمان " ومعلمنا طيب ما يرد صاحب حاجة، بس عنده حرس ملاعين أولاد ملاعين، يمكن لا يسمحوا لك بالدخول، حتى إذا كان اسمك عندهم.

قالت: كل هذه الوصايا قالها لي وهو يحاول إيقاف سيارة أجرة، ووقتها عرفت أنني إنبلفت. وما راح يساعدني ولا يفيدني بشيء.

**

ثلاثة حراس، اثنان على جانبي باب حديدي مغلق والثالث داخل المحرس.

قال لي الحارس: ممنوع، انصرفي من هنا، ما ناقصنا ألا تدخلين وتزعجين المعلم.

- الله يخليلك شبابك يا بني، وبعدين اسمي موجود عندكم.

- ما في أسماء ولا شي، وهذا بيت، لا فرع ولا جمعية ولا دائرة حكومية، وإذا تريدين مقابلة المعلم روحي على الفرع، وبعدين شو قصتك ها.

- أعرف أنه بيت، وقصتي، اعتقلتم ابني، مسجون، وأريد دقيقتين بس دقيقتين.

- لا دقيقتين ولا ثانيتين، انقلعي من هنا، لسنا مستعدين للبهدلة من وراء راسك.

- الله يسامحك، أنا بعمر أمك، لا يصح أن تقول انقلعي؟

- اتركي أمي على جنب، أمي عرفت تربي، ما تعرفون تربون وتظلون طايرين من مكان لمكان، وبعدين المعلم راح على الدوام ويمكن يسافر.

- طيب. راح استناه.

- روحي استنيه بعيد.

في ظل شجرة طويت عباءتي وجلست فوقها، الشارع شبه خال، وحرارة شهر آب تبدأ من طلعة الشمس، لم يعترض الحرّاس على مكان جلوسي في البداية، يمكن قالوا شوية تمل وتروح.و بعد قليل فتح الباب، وتقدم أحد الحراس راكضا نحوي..

- خالتي روحي لبعيد.

ابتعدت، وخرجت سيارتين بسرعة من البوابة، وعندما ابتعدتا عدت إلى مكاني تحت الشجرة، وبدأ بالي يأخذ ويجيب، ويلي على البيت ويلي على المسجونين ويلي على خالد اللي ما عارفين وينو، ويلي على حالي، صرت فرجة للناس للرايح والجاي، كل الذين مروا يتفرجون عليّ - حرمة بشكلها الغريب ولباسها الغريب ماذا تفعل هنا - " يا رب بس ما يفكرون أني شحاذة ".

أتزحزح من مكاني كلما قصر الظل، صار زفت الشارع رخواً من شدة الحر، أقوم وأذهب إلى الحراس وأترجاهم، يطردوني مرة ويترجوني مرة أخرى كي أذهب، أعود وأجلس تحت الشجرة ويدي على خدي.. (... وشفتنا ملمومين، كلنا، ما حدا غايب، والدنيا شتوية ومطر مطر تصب صب القرب، ملمومين حول الصوبا " المدفأة " وجعد تشوون خبز عليها، وأحمد يخوّف خالد بصورة حيّة من كتابه، وخالد يدور بالغرفة ويبكي، يمّا يا با آ.. شوفوا ألبعثي " أحمد " يريد يخلّي الحيّة تأكلني..).

- يا خالة يا خالة، ما راح تستفيدين روحي على أهلك، والله يصبركم.

- لا يا بني ما راح أروح ألا أشوف المعلم.

- طيّب روحي وارجعي بعدين، أحسن من الوقفة بالشمس.

- الله يستر عليك يا بني اتركني هنا، وإذا بي عندك كاسة مي كثر الله خيرك.

لم يبق للظل وجود عدا بقعة صغيرة يشغلها الحوض الذي زرعت داخله الشجرة، وطيلة صنّه الظهر، بقيت واقفة ومستندة على الشجرة، والعرق ينز، أدعو الله وجميع الأولياء الصالحين أن تحنّ قلوبهم ويدعوني أشوف ابني أو أعرف عنه شيء.

يا خالة اذهبي من هنا، يا خالة انقلعي من هنا، يا حرمة والله نحطك في السجن، يا مرة من وين جئتنا، العمى شو ها لمصيبة، وأنا أعطيت إذن من طين وإذن من عجين، جاءت السيارات التي خرجت في الصباح بعد الظهر ودخلت من البوابة وأغلق ورائها الباب، ولم يبق في الدنيا سوى الحارس الجالس على كرسي أمام البوابة وبيده خرطوم يرش منه الماء لترطيب الجو.

- يا بني أعطيني أشرب وأغسل وجهي.

- شوفي خالة، عند المغرب لما يخرج المعلم، تعرفين ذلك عندما يقف حارس هنا وحارس هناك ويفتح الباب، أنت قفي في هذا المكان، وإذا رآك المعلم راح يقف ويسألك، وبعدين أنت وشطارتك.

- كثر الله خيرك يا بني.

ساعة ساعتان ثلاثة أربعة، حتى فتح الباب، ووجدتني أقف أمام البوابة في وسط الشارع حيث كادت السيارة الأولى تصطدم بي.

- شو أنت مجنونة؟

- لا أريد أشوف المعلم!

أنزل البلور الخلفي وأشارت لي يد بالتقدم.

- الله يستر عليك، ابني أخذوه من المعسكر، وأنا جايه على الله وعليك؟

قال من أشار لي بيده للحارس الواقف على باب المحرس، اتصل بالمساعد.... وشو فلها شو القصة؟

ارتفع البلور وانطلقت السيارة، وأنا بقيت جامدة في مكاني محتارة، خلاص، كل اليوم وأنا ملطوعة بالشمس مشان ها لكلمتين؟

قال الحارس شوفي عذبتينا وعذبتي حالك على ألفاضي، ابنك ليس عندنا، الشباب اعتقلوه بالخطأ، وسلموه للأمن السياسي، ما شاء الله كل العائلة عند الأمن السياسي.

(3)

عذاب الزيارة:

لم تكن الزيارات منتظمة للأهالي "المحظوظين" وهم أغلبهم من ذوو المعتقلين اليساريين، أهالي المعتقلين من "الإخوان" و"البعث العراقي" لم تتم زيارة جزء كبير منهم إلا بعد خمس أعوام أو عشرة وربما خمسة عشرة، وقسم منهم لم تتم زيارته في حال افتراض وجوده حياً إلى الآن رغم مرور أكثر من سبع وعشرون عاماً.

في البداية كانت الزيارة تتم في يوم الخميس، ومرتان في الشهر، كل خمسة عشرة يوماً زيارة، يتقدم ذوو المعتقلين بطلب يوم الأربعاء ويحصلون على إذن الزيارة صباح الخميس، هذا النمط لم يكن متسقًا بهذا الشكل دائمًا، قد تمر أحياناً عدة شهور بدون الحصول على موافقة زيارة لسبب معلوم أو غير معلوم، ومرة مرّ ما يقارب العشرين شهراً خلال عامي 1989 – 1990 بدون زيارة.

ومرة أخرى منعت الزيارة عدة أشهر بسبب رفض المعتقلين المشاركة في الاستفتاء الثالث للرئيس حافظ الأسد على منصب رئاسة الجمهورية.

من كان معتقله في أحد سجون المحافظة التي يسكن فيها كان الأمر أقل صعوبة من ذوو المعتقلين القادمين من المحافظات الأخرى.

كان علينا نحن الأخوة الستة (هذه من فوائد العائلات كثيرة الأولاد) – وقبل أن نصبح خمسة ثمّ أربعة بعد اعتقال كل من مصطفى وخالد عامي 1985 و1986. المناوبة في الذهاب إلى حلب قبل يوم من موعد الزيارة لتقديم الطلب وعليك الاختيار بين المبيت في حلب أو العودة إلى الرقة لتعود في اليوم التالي مع بقية الأهل، لم نعرف ولا لمرة واحدة وبشكل حتمي بأن الزيارة ستتم في اليوم التالي أم لا، كنا نتكهن أحياناً بأن الزيارة لن تتم لأن الرجل في الاستعلامات كان ناشفاً أكثر من اللازم "راكبو عفريت" - ومتى كان غير ذلك - كنا نتبادل هذه العبارة بيننا نحن أهالي المعتقلين بعد أن وطد المصاب والسنين العلاقة بيننا وأصبحت شيفرتنا، وهذا لا يعني إذا كان "راكبو عفريت" منعاً للزيارة كما لا يعني "وجهه سمح" الموافقة على الزيارة، تبدل الكثير من الأمنيين في غرفة الاستعلامات الواقعة على الرصيف بجانب مدخل فرع الأمن السياسي الجديد الذي شغل مبنى كان مخصصاً لمدرسة بثلاث طوابق في منطقة مزدحمة وشارع كثيف الحركة تم احتجاز اتجاه كامل من الشارع بواسطة حواجز إسمنتية مما ضيق المرور وباتجاهين في الجزء الآخر من الشارع ومما زاد في الازدحام وجود مركز إطفاء في الجهة المقابلة.

عشرات المرات ترددنا على ذلك المكان لكننا لم نستطع ولا لمرة واحدة من تبادل الكلام مع موظفي مكتب الاستعلامات نراهم من البعيد هاشين باشين مستغرقين بالكلام مع زميل لهم أو مع أحد الحراس ما أن تقترب وتلق بالسلام وتمد يدك بورقة طلب الزيارة سرعان ما تتبدل الملامح، لم يحدث أن رد أحد هؤلاء الرجال السلام، ينظر إليك نظرة عائمة كأنك لاشيء أو هكذا تشعر، أو يبقى مشغولا بما بين يديه، قد يتابع الحديث مع زميل له أو يبقى مستغرقا بالحديث في الهاتف، يشعرك بأنك زائد عن الحاجة أو موجود في المكان الخطأ، طيلة إحدى عشرة سنة وهي الفترة التي قضاها ياسين في سجن حلب لم نسمع من هؤلاء الرجال إلا كلمة واحدة.

- تع بكرة.

سواء كانت الزيارة " ممنوعة أو مسموحة ".. تع بكرة،

ونجيء بكره، نحن القادمين من محافظات بعيدة نكون أول الواصلين، ننطلق من منازلنا بعد منتصف الليل، نخاف أن يتعطل الباص أو القطار الذي نستقله للوصول إلى حلب، نصل في الصباح الباكر نستكمل الأغراض التي نريدها لمعتقلنا / معتقلينا، ونحمل حقائبنا وأكياسنا ونتوجه إلى فرع الأمن السياسي، لا نستطيع الوقوف على الرصيف المجاور "ممنوع"، نتوجه إلى الجهة المقابلة وعيوننا على المحرس خوفاً من أن تفوتنا إشارة يد أو هزة رأس من الأمنيين الموجودين في المحرس. في وسط مدخل بناء الإطفاء نضع حقائبنا وأكياسنا على الأرض، وما نكاد نستقر قليلاً حتى نحمل ما وضعناه على الأرض للنزاح إلى جانب آخر بسبب انطلاق بوق سيارة داخلة أو خارجة من مركز الإطفاء، تدفعنا زحمة مدخل الإطفاء أحياناً إلى الشارع الضاج بأبواق السيارات متقافزين كالقردة أو ذاهلين ببلاهة من وجد نفسه في عالم آخر. تعلو أصوات سائقي السيارات.

- شو ضاربكم العمى؟

نعود للخلف ونلتصق بجدار بناء الإطفاء، نصطف كسرب سنونو منعه المطر العاصف من الطيران، في الحيّز الضيق بين عجلات السيارات وجدار بناء الإطفائية. أحياناً يطول الأمر أكثر من ساعتين ونحن مأسورين. لا نستطيع الفكاك أو الابتعاد عن مكاننا قبالة المحرس خوفاً من فوات فرصة الزيارة.

وما أن يومي رأس أو يتحرك إصبع من نافذة المحرس، حتى نندفع مراوغين بين سيل السيارات لنستلم ورقة صغيرة ممهورة بخاتم وتوقيع وموجهه إلى إدارة السجن المركزي بحلب: يسمح لفلان، والده. وفلان أخيه. وفلانة والدته. بزيارة الموقوف/ الموقوفين: فلان. لمدة عشرة دقائق. تحت إشراف مفرزة الأمن السياسي في سجن حلب المركزي.

نطير من الفرح في حال الموافقة، يعود من ذهب لاستلام ورقة الزيارة منتشياً كفارس جندّل الأعداء، كأنه لم يكن ذاك الذاهل قبل لحظات، رافعاً يده، والورقة بين أصابعه مشيراً بها للبقية باتخاذ مكان قصي يمكن من خلاله إيقاف سيارة.

أمام السجن المركزي بحلب في المسلمية، تتغير الحال، الشعور بالقلق والرهبة يختفي، نستطيع تبادل الحديث مع بعض، وتبادل الأخبار وإلقاء النكات، نستطيع التدخين ونستطيع إصدار التعليقات، لا يمنعنا شيء من الوقوف على رؤوس أصابع أقدامنا ومد أعناقنا لنستطلع ما وراء البوابة الرئيسية للسجن. ما أن نصل حتى ندفع بورقة الزيارة عبر كوة في الباب، وننتظر، قد يطول الأمر قليلاً أو يقصر لكن الانتظار هنا مجرد انتظار، نعرف أننا سندخل، وحدها اللهفة وماذا نقول وماذا لا نقول ما يشغلنا، قد ننشغل أحياناً ونتوتر، إذا دسسنا شيئاً ممنوعاً،ككتاب أو قصاصة أو منشور.

ينادى على الأسماء ونلج من البوابة الرئيسية باتجاه المبنى الرئيسي للسجن، ومن مدخل جانبي خصص لزوار المعتقلين السياسيين، نرتقي درج يعلوه باب حديدي ضيق وخلفه غرفة مخصصة لمفرزة الأمن السياسي، تمهر أكفنا بختم غير مقروء، وندخل إلى ممر مقسوم بواسطة سياجين من الشبك الحديدي بينهما مسافة متر تقريباً. نقف في الجانب المخصص للزوار، ليظهر المعتقلين بعد قليل في الجانب الآخر من السياج المزدوج،نلتصق بسياجنا ويلتصقون بسياجهم نرسل قبلات لبعضنا، نلصق آذاننا على السياج لنلتقط كلمة غير مفهومة. نكرر الأسئلة ويكررون الأسئلة عن الحال والصحة، تحاول الأمهات والزوجات إمساك دموعهن، لكن لابد من دمعة تفر ليتلقاها إصبع أو طرف شال أو عباءة، نصرخ بهم بالاهتمام بالصحة ويصرخون بنا أن نهتم بصحتنا ونقول هانت، ويقولون بسيطة. فلا نحن مصدقين بأنها هانت ولا هم مصدقين أن الأمر بسيط، نقرأ عليهم نشرة أخبار الأقارب والجيران، فلان تزوج، مات فلان... سافر... عمّر.. نجح.. نجحت.. الخ.نجد أحيانا ثغرة في الشبك نمد أيدينا محاولين اختراق المسافة التي تفصل بين الشبكتين لكي نلامس طرف إصبع اخترق بدورة فتحة صغيرة في الشبك، لنفوز بلذة المغامرة من وراء ظهر الحارس الذي يقطع الممر الفاصل بين الشبكتين ذهاباً وإيابا، هذه المغامرة تكثر الزوجات من القيام بها وان أدت إلى القرع المبكر على السياج الحديدي إيذانا بانتهاء الزيارة.

خلال عشر سنوات لم تغب أمي ولم تفوّت ولا زيارة، حتى المرة التي استقلت فيها القطار الذاهب إلى دير الزور خطأً، مع أخي خليل - نتيجة عناده – والتي قضيا فيها كامل النصف الأخير من الليل وبداية النهار التالي في السفر، حيث انتهى بهما المطاف إلى دير الزور واستقلا الباص عائدين إلى حلب مروراً بالرقة. في السنة الأخيرة من عمرها، منعت الزيارة، لم تودع أبناءها ولم تدرِ بأنها لن تراهم أبداً، حتى لحظتها الأخيرة كانت تمني النفس بدخولهم سويةً من باب الدار، طيلة رحلة مرضها التي بدأت بشتاء 1990 وانتهت في نهاية شهر نيسان من العام نفسه، كانت ترسم الخطط للقياهم، كانت تحلم بأنها تستطيع الذهاب إلى القصر المطل على دمشق وتطلب من صاحبه، أولادها.

قالت عندما رأت القصر أول مرة من نافذة الغرفة وهي على فراش مرضها في مشفى الأسد الجامعي.

- لمن ذاك البيت؟

- ذاك، ذاك قصر الشعب "قصرنا" ألسنا الشعب، ذاك قصر الرئيس، أمي.

- قالت: عندما أخرج من هنا سأذهب إليه؟

ربما في لحظتها الأخيرة التقت بهم وضمتهم،من يستطيع أن يجزم تأكيداً أو نفياً أنها لم تودع أبنائها كانت ثلاثة صور معلقة على الجدار المواجه لوضيعة رأسها في فراش المرض، وكلما حاولت إحدى القريبات تغيير موضع فراشها كي لا تكون بمواجه الصور (فتتوا كبدها ولسه معلقين الصور حتى يزيدوا همها)، كانت تطلب إعادة وضعية الفراش في مواجه الصور، مدت يداً واهنة باتجاه الجدار وحاولت أن تمد اليد الأخرى لكن الروح انتقلت إلى باريها.

*  *  *

صناعة الخوف

أول زيارة "مداهمة" لنا في البيت، كانت في ربيع 1981، عصراً، لا أعرف لماذا تصر الكتابات الأدبية والأشعار والقصص والمذكرات، عندما تتناول مداهمات أجهزة الأمن للمنازل بأنها تتم فجراً، ربما هذا التوصيف ينتمي لزمن سابق، الزيارة الغير مستحبة أو "المداهمة" الفجريّة (من فجر) تجعلك آمناً طيلة النهار، وعندما يحلّ الليل يبدأ القلق والتوتر، تقول لنفسك ليلة وتعدي، أما العقل الأمني في تلك الفترة فقد أوجد تكتيكاً بسيطاً، يأتونك في أي لحظة، كصديق عزيز، عند الغذاء وفي المساء. في الليل وعند الفجر. في البيت وفي العمل، في الشارع، أو كميناً في الحارة، كل من عمل في السياسة أو من لديه أخ أو قريب معتقل بدأ ينظر إلى كل وجه غريب يلتقيه في الشارع بعين الريبة والحذر والخوف، إذا وقفت سيارة بالقرب منه يرتفع وجيب قلبه وتضطرب خطاه، وعندما يلتفت بعد أن يقطع مسافة ليست بقصيرة - الحمد لله مجرد سرفيس -

لم يكن في البيت في تلك المداهمة التي قام بها عناصر من الأمن السياسي سوى أختنا الوحيدة وأخي احمد "البعثي" وهذه الـ "بعثي" لم تكن دالة انتماء وإنما لقب ألصق به منذ يوم ولادته عام 1963 من قبل أحد أعمامنا. ورغم ذلك لم ينفعه هذا اللقب في الحصول على جواز سفر حتى الآن.

- عن ماذا تبحثون؟

- عن أسلحة. أليس هذا منزل المدعو محمد الحاج صالح؟ أين هو؟

- في عيادته.

- إذا أرسل في طلبه!

تمت إحاطة البيت بعناصر مسلحة وقلبت محتوياته رأساً على عقب، بحثاً عن أسلحة غير موجودة. لكن تمّ العثور على قصاصة ورق مكتوبة بخط اليد، فيها أخبار وشائعات مصدرها الشارع وصوت سوريا الذي كان يبث في ذلك الوقت من العراق، في جيب "جاكت" لي. وهو جاكت أول طقم في حياتي وآخر طقم. تمت مصادرة الجاكت والورقة وأصبحت مطلوباً وملاحقاً لمدة أربع سنوات قضيتها متخفياً بين حلب والرقة.

بعد هذه الزيارة الأمنية وما تلاها من زيارات ومداهمات، تغير حالنا، وتغير العالم المحيط بنا، فلا الجيران عادوا يزوروننا ولا الأقارب يمرون بنا، وخاصة في النصف الأول من الثمانينات، كمنطقة موبوءة بمرض معد، عشنا داخل حصار ناتج عن الخوف، الخوف الذي أصبح منتج ذا قيمة يحدد علاقتنا بالناس، نتبادل الخوف كسلعة رائجة، لا هم يزوروننا خوفاً على أنفسهم ولا نحن نثق بمن يزورنا، كل يوم يكبر رصيد الخوف، متعززاً باعتقالات جديدة، وهواجس نامية، الهواجس التي تصاحبنا من لحظة الاستيقاظ وحتى بعد اسبالة العين طلباً للنوم الذي لن يأتي.

تحت اللحاف تصلنا أصوات لسيارات مارة بالشارع الرئيسي. كل منا يضغط بلحافه على رأسه وأذنيه ورغم ذلك يصل الصوت مرتفعا ومقترباً في كل لحظة وعندما يبدأ بالابتعاد والخفوت تزيح اللحاف وتصغي لتتأكد بأن الصوت ابتعد ولم تقف سيارة في الجوار. كل الأصوات الواصلة ليلاً تثير الخوف والاضطراب والقلق، أصبحنا مسكونين بهاجس صوت السيارة خوفا من وقوفها عند الباب أو تحت النافذة، تتباين المشاعر أحيانا من صوت السيارة، قد يصلك الصوت وأنت تحلم بوقوفها عند الباب، يقرع الجرس ويفتح الباب وإذ بالغياب يدخلون.

طيلة سنين الخوف، دق الباب بقوة عشرات المرات ليلاً بعد توقف سيارة، ننشل من الخوف ونخرج من غرفنا إلى الصالون بخفة وهدوء وبدون ضجيج لنجد أمي واقفة عند الباب المفضي إلى "الحوش" دائما نجدها قد سبقتنا، نجدها مزروعة قبلنا كأنها خلقت عند الباب تشير بيدها أن اهدؤوا أو عودوا إلى غرفكم، يتمتم أبي "الله يعدّي الليلة على خير" تبسمل وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتفتح الباب.

- يا خالتي، الله يوفقك؟ أين الدكتور محمد؟

- الله يسامحكم قطعتم قلوبنا؟ في حدا يدق الباب بهذا الشكل؟

يستشاط أخي محمد غضباً ناسياً أو متناسياً قسم "أبوقراط" ولاعناً الساعة التي أصبح فيها طبيباً.

أحد أوجه عذابنا مهنة أخي التي تجلب لنا السيارات والدق العنيف والمستعجل على الباب ليلاً، ورغم احتمال الدق ما يكون غالباً طلباً للطبيب لم يدخل هذا في حسابنا، نتوجس من الدق، أصبح خوفنا، العالم خارج الباب، جعلنا نعيش بتوقع دائم للخطر.

مرة، شتاءً وبعيد الغروب، لا نزال مستأنسين بالنهار المنسحب منذ قليل، ملتفين حول المدفأة ننشد دفئاً وأنسا لليلة تبدو باردة، دلف أربعة مسلحين بعد دق خفيف على الباب. قال كبيرهم.

- نحن آسفون! نريد تفتيش البيت، وهذا أمر قضائي.

- أهلاً وسهلاً تفضلوا.

جلس كبيرهم، وبدأ الآخرون بالتفتيش في الخزائن والمكتبة بين الملابس وفي المطبخ، قلبوا الفرش المعدة للنوم وفتحوا الأرائك. كل ما يجدونه ويثير شكوكهم يضعونه أمام كبيرهم، حتى تجمعت أمامه كومة من الكتب والأشرطة والمجلات والصحف، وهذا يقلبها ويصنفها ويفرز قسم منها.

- عن ماذا تبحثون.

- لاشيء. أمر روتيني.

في نهاية التفتيش حملوا معهم مجموعة من الكتب لسيد قطب وكارل ماركس ولينين وجمال عبد الناصر وأعداد من مجلة الفرسان التي كانت تصدر باسم رابطة خريجي الدراسات العليا التي كان يرأسها رفعت الأسد ومجموعة من أشرطة للشيخ إمام ومارسيل خليفة. قال كبيرهم وهم منصرفون:

- هل أزعجناكم؟ وإذا كان الأمر كذلك فنحن نعتذر؟

- لا. لكن كل ما صادرتموه موجود في السوق وفي المكتبات، والشيخ إمام ومارسيل خليفة كل يوم التلفزيون؟

- نعم، لكن هذه دالة وليست دليلاً؟

هذه الدالة أو الدليل انسحب على حياتنا وعشش فيها، وفاض منا ومن جميع العائلات التي لها نفس الوضع والمصير إلى الناس جميعاً. جميع الناس من وجهة نظر أمنية لديهم دالة ما أو عليهم دليل، من لم يفتش منزله زاره عناصر الأمن لأخذ بيانات عشرين سنة خمس وعشرين سنة والبيانات تجمع، أربعة فروع أمنية في محافظة صغيرة تجمع بيانات ومعلومات، من يتقدم لوظيفة يصبح بيته محجاً لعناصر الأمن. كل الفروع الأمنية عليها أن تجمع معلومات كي لا يتسلل عنصر غير مرغوب فيه إلى الجهاز الحكومي. يتم جمع المعلومات عن شخص واحد من عشرات الأشخاص من الجيران والأقارب والزملاء والشخص نفسه، معلومات عنه وعن أبيه وأخيه وأمه وبنيه عن أعمامه وأخواله عن خالاته وعماته المتزوجات وأسماء أزواجهن وأبنائهن وبناتهن، عن القريب الذي لم تلتق به ولا مرة واحدة في حياتك، عن المتوفين والأحياء، عن الأصحاب والأحزاب والنوادي التي تنتمي لها، عنصر الأمن يسأل وأنت تجيب. مسوحات أمنية تتم كل سنة من جميع الفروع لجميع أفراد العائلة وعندما تواتيك الجرأة وتسأل:

- لماذا كل هذه الأسئلة المتكررة كل عام.

يأتيك الجواب "تقاطع المعلومات"، لتكتشف أمنياً وبشكل قاطع ولا لبس فيه أن خالك في العام الفائت هو خالك لهذا العام وأن عمك هو عم شقيقك؟

نحاول التأقلم مع الحياة، وعيشها كما هي، نحاول التصالح معها والنظر إليها كحالة ليس لنا اليد الطولا في صياغتها، نحاول صرف الذاكرة عن الوقائع المؤلمة، وفجأة تعود بنا وقائع جديدة وكما يقال إلى المربع الأول، ما حدث عام 1988 عند غروب أحد أيام الخريف اقتحم المنزل أربعة رجال أمن، قال أحدهم "نريد المدعوة رفعة الحاج صالح"، عليها الذهاب معنا لمقابلة المعلم، لخمس دقائق فقط.

لم تتمالك أمي نفسها استشاطت غضباً وبدأ عويلها وبكائها، وسدت الباب بجسمها.

- إلا هذه، لن تخرج ابنتي معكم إلا وأنا جثة؟

بين بكاء أمي وإصرارهم على أخذ أختي معهم، حاولنا معرفة السبب، لكن دون جدوى.

- لا نعرف شيئا، المعلم قال لخمس دقائق فقط.

يزداد التوتر وتزداد حرارة الجو وكل لحظة تمر تشعر بعجز أكبر، يفرغ الذهن تماما من أي اقتراح أو تصرف تستطيع القيام به، باءت جميع محاولاتهم على إقناع أو إرغام أمي أن تخلي لهم بأخذ أختي، حاولنا تطمينها بأن الأمر قد يكون كما يقولون، وخاصة بأنها بنت ولم تصل الأمور بأخذ النساء إلى المعتقلات.

بعد عدة اتصالات قاموا بها مع فرعهم، أو هكذا أوحوا لنا، قال من يعتقد بأنه رئيس الدورية:

- سمح المعلم بأن تأتي بصحبة والدها.

إنهدّ، جسم أمي وجلست بجانب الباب الخارجي، بعد خروج الدورية مصطحبين أبي وأختي، ووضعت يدها على خدها وبدأت تعد الدقائق.

- صار أكثر من خمس دقائق.

- أمي لا يزالون في الطريق، لم يصلوا بعد.

- صار نصف ساعة.

- أمي قد يكون المعلم مشغول ولم يقابلهم بعد.

- صار ساعة.

- أمي بدأ الجو يبرد. لماذا لا تدخلين؟

- صار ساعة ونصف.

- أمي ما رأيك بالدخول إلى البيت، ووضع عشاء، وبعدها سترينهم داخلين؟

- صار ساعتين.

- ما رأيك بالشاي؟

- صار ثلاث ساعات.

- ليس أمراً مستحباً الجلوس في الشارع وعد الساعات، صرنا فرجة للرايح والجاي؟

- صار أربع ساعات.

- أصبح البرد شديد، هيا قومي لندخل، والصباح رباح؟

- صار خمس ساعات.

- هل تعاقبين نفسك وتعاقبينا. على الأقل التفي بالبطانية.

- صار ست ساعات.

- لا تخافي ما دام أبي موجود معها، لو كان هناك اعتقال لعاد.

- صار سبع ساعات.

- ...............

- صار ثماني ساعات.

- ................

- صار تسع ساعات.

ما يقارب العشر ساعات بقيت جالسة على الباب الخارجي، كل محاولاتنا باءت بالفشل، لم يستطع أحد من النوم، قضينا ليلنا بالدخول والخروج، نتمشى أحيانا حتى الشارع الرئيس، وكم تهيأ لنا بأنهما عادا عندما نرى من البعيد رجل وامرأة قادمين. وكم مرة سقطت قلوبنا في أرجلنا عندما نرى رجلاً قادماً يشبه في مشيته مشية أبي – وكم كانوا في تلك الليلة - وفي غبشة الفجر، جاءا سيراً على الأقدام لكي يحركا الدم في أرجلهما بعد الصلبة الطويلة كما قالا.

- جاؤوا يا أمي.

لم تتحرك من مكانها بقيت جالسة ويدها على خدها وعندما وصلا وضع أبي يديه تحت إبطيها ورفعها إلى أعلى.

قالت أختي لم يسألني كثيراً يريد أن يعرف من يأتي لزيارتنا ومن هم أصدقائكم وإن كان لكم علاقة بالشعارات التي كتبت على جدران المدارس الأسبوع الفائت.

*  *  *

افراجات متكررة

لم يدرك أحد الأثر الذي ستتركه الاعتقالات، ولم يتوقع أكثر المتشائمين بأنها ستمتد إلى آماد ماراثونية. الاعتقالات التي جرت في بداية الثمانينات من القرن المنصرم فاجأت الجميع لجهتين حجماً وزمناً، فاجأت الناس والمجتمع بأن الثمن الذي دفع أكبر بكثير من "الجرم" الذي وقع، هنا لا نتحدث عن الذين حملوا السلاح وقاموا بالقتل والتفجير وإنما عن اللذين ساهموا وشاركوا في حراك سياسي على خلفية ما حدث في "مجزرة مدرسة المدفعية" عشرات الألوف اعتقلوا ولوحقوا وهجروا ونفوا، حتى السلطة تفاجأت بالأثر الذي تركته الاعتقالات في الناس مما أسهم في إطلاق يدها في صياغة المجتمع كما تريد وتشتهي، وبثمن بخس بالنسبة لها، وهو مجرد إبقاء ناس زائدين عن الحاجة رهن الاعتقال، فلذلك قننت الإفراجات وحولتها إلى وسيلة ضغط ومساومة وابتزاز، وبالمقابل تم ضخ كم هائل من الإشاعات والأكاذيب حول افراجات تمت، وتتم في القريب العاجل، أكثر مصدقي هذه الإشاعات هم أكثر الناس تضررا من الاعتقالات "أهالي المعتقلين" وهم كذلك مروجيها وأحيانا مخترعيها.

- ملف المعتقلين السياسيين على طاولة الرئيس بقي توقيعه فقط.

- سيتم الإفراج حتماً، بمناسبة تجديد البيعة

- في عيد الثورة

- في ذكرى الحركة التصحيحية.

- في عيد الجلاء

- يوم الإفطار الأخير من شهر رمضان، وما قاله البوطي للرئيس.

- الوضع الدولي

- في المؤتمر القطري القادم.

لم يتم تبني قواعد واضحة للإفراج عن المعتقلين، لم يستطع أحد أن يعرف كيف ومتى يتم الإفراج، بقيت الإفراجات سر "إلهي" سر أمني لا يعرفه ولا يمتلك مفاتيحه إلا أولئك اللذين أودعتم في رقابهم "حماية أمن الوطن والمواطنين" حتى الإفراجات الفردية التي تمت كانت تندرج تحت خانة الوضع الصحي للمعتقل، حيث يتم التخلص منه كي لا يموت في المعتقل "كما حدث مع المرحوم هيثم الخوجة، توفي بعد واحد وعشرون يوماً". أو يتم الإفراج بالرشوة والواسطة, أغلب اللذين أفرج عنهم بهذه الطريقة انسحبوا من الحياة السياسية وشنوا هجوماً على تاريخهم ورفاق الأمس.

عدة مرات حسبنا أن الإفراج قد حصل، يفصلنا عن رؤية الغياب مسافة الطريق فقط، عدة مرات على الأقل يتم ترتيب البيت كي يتسع لاستقبال المهنئين. يندفع الأقارب والجيران مهنئين ونعيش جو الإفراج ورجعة الغياب.

في عام 1984 كنا نرقب الساعة ونحسب الوقت اللازم لقطع المسافة من حلب إلى الرقة بعدما وصلنا خبر بأن ياسين شوهد في "الكراجات" عندما علت زغرودة إحدى القريبات عند الباب، جاوبتها أمي بزغرودة طويلة وعالية، اندفعنا نحو الباب ننظر خلفها كي نرى ياسين، وهي تطلق زغرودة وتلحقها بأخرى وأمي تجيبها كل زغرودة بزغرودة، علت الزغاريد من بيوت الجيران، وسط الزغاريد والتهاني كنا نبحث عن ياسين وسط الأجساد المتدافعة، كل منا يعتقد بأنه محجوب عنه بأجساد الحاضرين، نتطاول على رؤوس أقدامنا لنرى ما تحجبه الأجساد. في وسط الفوضى ارتفع صوت.

- أين ياسين؟

وساد صمت ثقيل.

في عام 1986 أو 1987 واثر خطاب ألقاه الرئيس، تحدث عن عفو معتمداً على مواد دستورية وكل مادة تحيل إلى مادة، وكل مادة محال إليها تحيل إلى قانون، وكل قانون يحيل إلى مرسوم تشريعي. اتصلنا بمحامين من المعارف والأصدقاء. منهم من أكد بأن السجناء السياسيين مشمولين بالعفو، منهم من أبدى حيرته وعدم معرفته، ومنهم من أكد بعدم شموله للمعتقلين، تمر أيام من الحيرة والترقب ليتم بعدها الإفراج عن عدد محدود من المعتقلين، وكم هائل من مرتكبي الجرائم ومهربي المخدرات ومرتكبي الجرائم الاقتصادية.

*  *  *

بعد وفاة أمي عام1990 يبقى زمن آخر للاعتقال، سنتان لكل من مصطفى وخالد في سجن حلب المركزي، وست سنوات لياسين في السجن المركزي بحلب وسجن عدرا وسجن تدمر.