ديمقراطيات...
د. ياسر سعد
[email protected]
في أواخر الثمانينات وحين هبت أعاصير التغيير ورياح الديمقراطية على
الاتحاد السوفيتي وعلى أوربة الشرقية, وبعد اندلاع مظاهرات الجوع والرغيف في
غير مكان في عالمنا العربي, أعلنت أكثر من دولة عربية عن رغبتها في إجراء
إصلاحات ديمقراطية والسماح بإجراء انتخابات نيابية وبلدية تمشيا مع الموجة
العالمية ظاهريا, وفعليا لإنقاذ وإطالة أعمار أنظمة حكم أفلست في أطروحاتها
وخابت في مساراتها وقادت الشعوب والأوطان وباستفراد أحادي ودكتاتورية موغلة إلى
أغلال ديون جسيمة وقيعان الفقر والحاجة وساقتها إلى ساحات التخلف وميادين
التبعية.
كان وما يزال من شروط الدخول في اللعبة الديمقراطية كما يسمونها التسليم المطلق
بأحقية الحاكم في الحكم وبالإشادة بحنكته وحكمته وعظيم فضله إذا تكرم على
الشعوب بإعطائها بعضا من حقوقها المنقوصة بعد إن حُرمت منها عقود وسنوات. كما
انه من الخطوط الحمر, والتي يساوي الاقتراب منها ناهيك عن تخطيها الهلاك,
المطالبة بالتداول على رأس السلطة والتي يمنع من التفكير فيها حتى في الخيال
السياسي. فالحاكم بأمره وجد ليبقى ولتبقى التهمة العربية الجاهزة في الأنظمة
الدكتاتورية و"الديمقراطية" على حد سواء لمعارضيها ومنتقديها بمحاولة قلب الحكم
وكأن للحكم قدسية ربانية أو انه نزل فيه امر من السماء, أو كأن تلك الأنظمة
العربية وصلت بانتخابات نزيهة شعبية وحرة وحققت من الانجازات ما جعلنا في مصاف
الدول المتقدمة أو بأضعف الإيمان في مكانة الهند وماليزيا علميا وسياسيا.
ارتضت بعض التيارات السياسية وعلى رأسها الإسلاميين في غير دولة عربية الدخول
باللعبة السياسية وفهمت حدودها وتوقفت عندها. فمن الممنوع والمحظور الفوز
الواضح أو الكاسح بالانتخابات كما حصل في الأراضي الفلسطينية بل المطلوب
والمرغوب به الحصول على مقاعد محدودة تكفي ليعلن النظام ويتبجح بأنه ديمقراطي
وأن القرارات الخطيرة والمعاهدات المؤثرة على الأجيال والبلدان وبيع البلاد
ومرافقها لرأس المال الأجنبي تحت شعارات التخصيص يتم عقدها وإجراؤها في ظلال
مجالس برلمانية منتخبة. كما إن المطلوب من الحركات والأحزاب السياسية أن تتحمل
ومن حساب رصيدها ومواقفها المبدئية إرثا من الفساد السياسي والإداري والذي يمتد
لعقود سابقة أفلس البلاد وأنهك العباد.
الأحوال الاقتصادية الصعبة والظروف المعيشية القاسية والتي كانت وما تزال حجج
لكثير من الأنظمة العربية لتبيع سيادة الوطن وكرامته في سوق النخاسة الدولية هي
نتاج سياسات تلك الأنظمة والتي يجب أن تتعرض من جرائها للمساءلة القانونية
والتاريخية عما اقترفته بحق الأمة والأوطان. في الديمقراطية العربية المطلوب من
المعارضة أن تشاطر النظام رؤاه السياسية العامة أو أن تساهم في تقديم أطروحات
سحرية لحل مشكلات مزمنة من صنع النظام ومن الحصاد المر لسياساته وممارساته,
وإلا لاتهمت بأنها معارضة رومانسية حالمة لا تتفهم فقه الواقع ولا تقدر موازيين
القوى الدولية حقا قدرها.
من الأمور المثير للسخرية إن تلك الأنظمة لا تنفك تحمل المعارضة والشعب الفضل
الكبير بهذه الحريات المزيفة والديمقراطية الكسيحة والزائفة. فالمطلوب من
المعارضين ومن السياسيين أن يكونوا شهود زور وان يلعبوا دور المضادات الحيوية
والتي تفتك بالإصلاح الحقيقي وتحاصر التغيير المنشود. على المعارضة أن ترفض دور
التيس المستعار ولو كلفتها تلك المواقف المنافي والسجون والتي ما عرف التاريخ
القديم والمعاصر – مع استثناءات محدودة جدا- غيرها سبيلا للتغيير المنشود
وطريقا للإصلاح الحقيقي.
إن أوضاع امتنا ودولنا على الساحة الدولية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتنمويا
هو في الدرك الأسفل وبجميع المقاييس, حيث تنتظر غالبية الدول العربية المساعدات
والمعونات الخارجية والقروض الربوية وما للأنظمة سياسيا من خيار سوى أن تستجيب
للاملاءات الأمريكية والأطلسية ولتتحرك الدول العربية وتحت مظلة الجامعة
العربية تتسول السلام مع اولمرت في موقف مخزي ومشهد ذليل, تلك الأوضاع المزرية
تستدعى من المفكرين والعلماء والمثقفين التحرك النهضوي الفعال والذي وان كان من
واجبه أن يرفض العنف سبيلا للإصلاح والتغيير, فإن عليه أن يحطم الأوثان
السياسية والأصنام الفكرية, فليس لأحد حق مقدس في أن يبقى في الحكم وعلى الأخص
إذا كانت نتائج حكمه فسادا ووبالا على الوطن والمواطن, فالتداول على رأس السلطة
هو المحك الديمقراطي الحقيقي وإلا فإن ما دون ذلك هزل وزيف وعبث. كما إن
المطلوب أن نسمى الأشياء بأسمائها فالذين يمتلكون الثروات الضخمة وهم على رأس
السلطة فيما شعوبهم ومواطنيهم يعانون الفقر والعوز هم غير أمناء على الأمة
والوطن ويجب أن يتعرضوا للمساءلة القانونية عوض أن يقودوا البلاد لهاوية سحيقة
ولزمن استعباد يجعلنا نتحسر على عهود الاستعمار.