السلام في الإسلام

السلام في الإسلام

للإمام الشهيد "حسن البنَّا"

الإمام الشهيد حسن البنا

بسم الله الرحمن الرحيم

تقـديـم

حمدًا لله، وصلاةً وسلامًا على سيدنا محمد بن عبدالله رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:

فإننا نقدم "السلام في الإسلام"؛ وهو موضوع كتبه الإمام الشهيد "حسن البنَّا" في عام 1948م بمجلة (الشهاب) الغرَّاء، التي كانت تصدر شهريًّا، وكان يرأس تحريرها بنفسه.

 ووجدنا أنه من حق الجيل المسلم المعاصر أن يستفيد من كتابات هذا المجدِّد العظيم، خاصة في هذا الموضوع الهام، والذي تتهم فيه أقلام الغرب- خاصة المستشرقين- الإسلام بأنه دين قام وانتشر بالسيف.. ويا لها من كلمة مفتراة ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ (الكهف: 5)

 والإمام- رحمه الله- يوضح- فيما ستقرأه أيها القارئ العزيز- كيف أن الإسلام دين المحبة والسلام والأخوة الإنسانية الحقة، التي تتطلع إليها الدنيا قاطبة، الدنيا المعذبة بسعير الإنسان الشرقي والغربي غير المسلم على السواء.

 يرى المراقبون الاجتماعيون والسياسيون والمعنيون بتطورات الحياة في الأمم والشعوب أن العام الإسلامي- وفي مقدمته العام العربي طبعًا- يتجه بنهطته الحديثة اتجاهًا إسلاميًّا، وأن هذا الاتجاه يقوي تياره بالتدريج.

 وبعد أن كان الكتاب والمفكرون والعلماء والزعماء يتغنَّون بأصول الحضارة الأوربية، ووجوب الاصطباغ بصبغتها، والأخذ الكامل بأساليبها ومناهجها تبدلت هذه النغمة، وحل محلها التحفظ والحذر، وارتفعت الأصوات المنادية بوجوب العودة إلى أصول الإسلام وتعاليمه ومناهجه، وتقريب الحياة العصرية في هذه الشعوب إليها بقدر الإمكان تمهيدًا للاصطباغ الكامل بصبغة الإسلام.

 أسبابه

ويُزعج هذا الاتجاه كثيرًا من الحكومات والدول الغربية التي عاشت طوال القرون الماضية في عقلية الذي لا يعرف عن الإسلام إلا التعصب والجمود، ولا يرى في المسلمين إلا شعوبًا مستضعفة للتسخير، وأوطانا خصبة للاستعمار، وأخذوا يتوجَّسون من هذه الحركة، ويذهبون في تفسيرها وتأويلها كل مذهب، فمِن قائلٍ: إنها نتيجة قيام الهيئات المتطرفة والجماعات المتعصبة، ومِن قائلٍ: إنها ردُّ فعلٍ للضغط السياسي والاقتصادي الذي شعرت به هذه الأمم الإسلامية في هذه الأعصار، ومِن قائلٍ: إنها وسيلة يتوصل بها بعض طلاب الحكم والجاه إلى الظهور والمنصب. وكل هذه الأسباب فيما نعتقد بعيدة عن الحقيقة كل البعد، وهذا الاتجاه ليس إلا نتيجة لعوامل ثلاثة فيما نرى

 إفلاس الغرب

أولها: إفلاس الأصول الاجتماعية التي قامت عليها حضارة الأمم الغربية، فحياة الغرب التي قامت على العلم المادي والمعرفة الآلية والكشف والاختراع، وإغراق السوق بمنتجات العقول والآلات لم تستطع أن تقدم للنفس الإنسانية خيطًا من النور، أو بصيصًا من الأمل أو شعاعًا من الإيمان، ولم ترسم للأرواح القلقة أي سبيل للراحة والاطمئنان، وليس الإنسان آلة من الآلات.

 ولهذا كان طبيعيًّا أن يتبرم بهذه الأوضاع المادية البحتة، وأن يحاول الترفيه عن نفسه، ولم تجد الحياة الغربية المادية ما ترفه به عنه إلا الماديات أيضًا من الآثام والشهوات والخمور والنساء والأحفال الصاخبة، والمظاهر والمغرية التي تلهي بها حينًا، ثم ازداد بها بعد ذلك جوعًا على جوع، وأحس بصرخات روحه تنطلق عالية تحاول تحطيم هذا السجن المادي والانطلاق في الفضاء واسترواح نسمات الإيمان والعزاء.

 كمال الإسلام

وثانيها: وهو العامل الإيجابي في الموضوع، اكتشاف المفكرين من رجال الإسلام ما في أصوله وقواعده من سموٍّ ورقيٍّ وصلاح واكتمال، وأنها أكمل وأدق وأفضل وأشمل وأجمع من كل ما كشفت عنه الفلسفات الاجتماعية والعقول المصلحة إلى الآن، وقد كان المسلمون غفلوا عن ذلك حينًا من الدهر، فلما كشف الله عن بصائر مفكريهم، وقارنوا ما عندهم من قواعد ينهم الاجتماعية بما يتحدث عنه كبار الاجتماعيين وأساطين وجهابذة المفكرين، ووجدوا البون شاسعًا والفرق بعيدًا عن كنوز هذا الميراث الضخم وبين ما يلهو به هؤلاء، لم يملكوا أنفسهم من أن ينصفوا عقولهم وتاريخهم وشعوبهم، وأن ينادوا بنفاسة هذا الميراث، وأن يهيبوا بهذه الأمم الغافلة- إسلامية وغير إسلامية- أن تستفيد من هذا الإرشاد الربَّاني الكريم، وأن تنهج نهج هذا الصراط السوي المستقيم.

 طبيعة التطور

وثالثها: طبيعة التطور الاجتماعي بعد حربين طاحنتين اشتركت فيهما دول العام جميعًا، وتناولت النفوس والأوضاع والشعوب والأفراد، ونبتت بعدهما طائفة من المبادئ الإصلاحية والنظم الاجتماعية، وقامت على أساسها دول ونهضت بتطبيقها، ثم لم يمض كبير وقت حتى تناولتها بد التبديل والتغيير أو الهدم والتدمير، والمفكرون من المسلمين ينظرون ويرقبون ويوازنون، ويرجعون إلى ما بين أيديهم من كتاب ربهم وهو مشرق، ومن سُنَّة نبيهم وهي بَيِّنَة، ومن تاريخهم وهو مجيد، فلا يرون لنظام من هذه النظم حسنة من الحسنات إلا وجدوا أنها مقررة في نظامهم الإسلامي الاجتماعي، وأنهم سبقوا إليها فتحدثوا عنها أو عملوا بها، ولا يرون لنظام من هذه النظم سيئة من السيئات إلا وجدوا أن نظامهم الإسلامي الاجتماعي قد حذَّر منها، واحتاط بها، ووصف طريق الوقاية من نتائجها وآثارها.

 سادت العالم حينًا من الدهر هذه النظم الديمقراطية، وانطلقت الحناجر في كل مكان تسبح، وتقدس بما جاء به هذا النظام الديمقراطي من حرية للأفراد وللشعوب على السواء، ومن إنصافٍ للعقل الإنساني بحرية التفكير، وللنفس الإنسانية بحرية العمل والإرادة، وللشعوب بأن تكون مصدر السلطات، وجاء النصر في الحرب العالمية الأولى معززًا لهذه الأفكار متوجا إيَّاها بإكليلِ الغار، ثم لم يلبث الناس أن تبينوا أن حريتها الاجتماعية لم تسلم من الفوضى، وأن حريتها الفردية لم تأخذ الحيطة من الإباحية، وأن سلطة الشعوب لم تبرئ المجتمع من كثير من الديكتاتوريات المستورة التي تضيع معها التبعات ولا تحدد فيها الاختصاصات، إلى غير ذلك من المثالب والعيوب التي أدت إلى تفكك الأمم والشعوب وتخلخل نظام الجماعات والبيوت، ومهدت لقيام النظم الدكتاتورية.

   فقامت النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا وأخذ كل من "موسوليني" و"هتلر" بيد شعبه إلى الوحدة والنماء والنهوض والقوة والمجد، وسرعان ما خطا هذا النظام بهاتين الأمتين في مدارج الصلاح في الداخل والقوة والهيبة في الخارج، وبعث في النفوس الآمال الخالدة وأحيا الهمم والعزائم الرَّاكدة، وجمع كلمة المختلفين المتفرقين على نظامٍ وإمامٍ، وأصبح "الفوهرر" أو "الدوتشي" إذا تكلم أحدهما أو خطب تفزعت الأفلاك والتفت الدهر.

 ثم ماذا؟ ثم تكشَّف الأمر عن أن هذا الجهاز القوي المتماسك؛ الذي فنيت فيه إرادات الأفراد في إرادات الزعماء أخطأ حين أخطأوا، فطغى بطغيانهم، وانحرف بانحرافهم، وهوى بسقوطهم، وانتهى كل شيء وأصبح حصيدًا كأن لم يغن بالأمس بعد أن بذل العالم في حربه الثانية الملايين من زهرة الشباب والقناطير المقنطرة من الأموال والعتاد.

 ولمع نجم الاشتراكية والشيوعية بعد ذلك، وزاد في هذا البرق واللمعان معنى الفوز الانتصار، وتقدمت روسيا السوفيتية إلى الميدان الاجتماعي تبشر بدعوتها، وتدل على الدنيا بنظامها الذي تبدل في ثلاثين عامًا عدة مرات، وأخذت دول الديمقراطيات، أو بعبارة أدق دول الاستعمار القديمة البالية أو الجديدة الطامعة تعد العدة لتوقف هذا التيار، والصراع يقوى ويشتد، تارة في العلانية وأخرى في الخفاء، والدول والأمم والشعوب الحائرة على مفترق الطرق لا تدري أين السبيل، ومنها أمم الإسلام وشعوب القرآن، والمستقبل في ذلك كله بيد الله والحكم للتاريخ، والبقاء للأصلح على كل حال.

 هذا التطور الاجتماعي، وهذا الصراع العنيف القوي، أيقظ همم المفكرين من المسلمين فأخذوا يوازنون ويقارنون، وانتهوا بعد الموازنة إلى نتيجة صحيحة سليمة هي التخلص من كل هذه الأوضاع، ووجوب عودة شعوبهم وأممهم إلى الإسلام.

 النظم الثلاثة في الصلاة

قلتُ ذات مرة مداعبًا للسامعين في إحدى المحاضرات- وكانت خطوة موفقة كل التوفيق والحمد لله-: إن هذه الصلاة الإسلامية التي نؤديها في اليوم خمس مرات ليست إلا تدريبًا يوميًّا على نظام اجتماعي عملي امتزجت فيه محاسن النظام الشيوعي بمحاسن النظام الديمقراطي بمحاسن النظام الديكتاتوري، فعجبوا وقالوا: كيف كان ذلك؟ فقلت: إن أفضل ما في النظام الشيوعي من حسنات دعم معنى المساواة والقضاء على الفوارق والطبقات، ومحاربة الاعتزاز بالملكية التي يكون عنها هذا التفاوات.. وهذه المعاني كلها يستحضرها المسلم، ويشعر بها تمامًا، وتتركز في نفسه إذا دخل المسجد؛ لأنه يستشعر لأول دخوله أن هذا المسجد لله، لا لأحد من خلقه، وأنه سواء العاكف فيه والباد، لا صغير فيه ولا كبير ولا أمير ولا حقير ولا فوارق ولا طبقات، فإذا صاح المؤذن: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة.. استوى هذا الجمع خلف إمامه كالبنيان المرصوص، فلا يركع أحد حتى يركع الإمام، ولا يسجد حتى يسجد، ولا يأتي بحركة أو سكون إلا تابعًا له ومقتديًا به ومقلدًا إيَّاه، وهذا هو أفضل ما في النظام الدكتاتوري: الوحدة والنظام في الإرادة والمظهر على السواء؛ ولكن هذا الإمام مقيد- هو نفسه- بتعاليم الصلاة ودستورها، فإذا انحرف، أو أخطأ في تلاوة أو عمل كان للصبي الصغير وللرجل الكبير وللمرأة المصلية خلفه- كان لكل واحد من هؤلاء- الحق كل الحق أن ينبهه إلى خطئه، وأن يرده إلى الصواب في أثناء الصلاة.

 وكان على الإمام- كائنًا مَن كان- أن ينزل على هذا الإرشاد، وأن يعدل عن خطئه إلى الحق والصواب، وليس في الديمقراطية أروع من هذا الحسنات فماذا بقي بعد ذلك لهذه النظم من فضل على الإسلام، وقد جمع  محاسنها جمعًا واتقى بهذا المزج البديع كل ما فيها من سيئات ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ (النساء:من الآية82).

 

لا مبرر للانزعاج

والغربيون- كما قلت– ومعهم الذين لا يعلمون، ينزعجون أشد الانزعاج لهذا الاتجاه ويرونه من الخطورة بحيث تجب عليهم محاربته بكل سبيل؛ لأنه ليس أكثر في عرفهم من انتصار للمبادئ الرجعية، وتجميع للأمم الهمجية حولها ضد مبادئ الحضارة والمدنية وشعوب العلم والعرفان والنظام، وهذا وهم عريق في الخطأ، وظلم صارخ للحقائق الواضحة وضوح الشمس في وضح النهار، ومهمتنا في هذه الكلمات أن نصل معهم إلى أمرين:

أولهما: إثبات سموِّ أصول النظام الاجتماعي الإسلامي، وفضلها على كل ما عرف الناس تلك الأصول التي منها:

1. الإخاء الإنساني: والقضاء على روح الكراهية والتعصب.

2. السلام: وخطأ الذين لا يعمون في فهم مشروعية الجهاد.

3. الحرية: وخطأ الذين يتهمون الإسلام بإباحية الرق ومصادرة الحريات.

4. العدل الاجتماعي: وفيه بيان رأي الإسلام في نظام الحكم والطبقات.

5. الحياة الطيبة: وفيه بيان الخطأ في فهم حقيقة الزهد.

6. الأسرة: وفيه الكلام على حقوق المرأة والتعدد والطلاق.

7. العمل والكسب: وفيه الكلام على أنواع الكسب والخطأ في فهم التوكل.

8. العلم: وفيه خطأ من يتهمون النظام الإسلامي بتشجيع الجهالة والخمول.

9. النظام وتقدير الواجب: وفيه خطأ مَن يظنون في طبيعة الإسلام النقص والإهمال.

10. التدين: وفيه حقيقة الإيمان بالله والفضيلة والجزاء.

 وثانيهما: إثبات أن من الخير للانسانية كله ان يتجه المسلمون إلى العودة لدينهم، وأن ذلك سيكون أكبر دعائم السلام على الأرض، وأن الدافع إلى ذلك ليس التعصب الأعمى؛ ولكن الاقتناع التَّام بفضل ما جاء به الإسلام، وانطباقه تمام الانطباق على أرقى ما كشف عنه التفكير العصري السليم من قواعد الاجتماع الصالحة، ودعائم نظمه الثابتة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

 إعلان الأخوة الإنسانية والتبشير بالفكرة العالمية

1- تقرير وحدة الجنس والنسب.

2- تقرير وحدة الدين.

3- تقرير وحدة الرسالة.

4- وحدة الشعائر.

5- تقرير معاني الرحمة والحب والإيثار والإحسان.

6- عالم اليوم.

 جاء الإسلام الحنيف يعلن الأخوة الإنسانية، ويبشر بالدعوة إلى العالمية، ويبطل كل عصبية ويسلك إلى تحقيق هذه الدعوة الكريمة السامية كل السبل النظرية والعملية.

 تقرير وحدة الجنس والنسب:

فقد قرر وحدة الجنس والنسب للبشر جميعا "فالنَّاسُ لآدمَ، ولا فَضلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ولاَ لأسوَدَ عَلَى أحمَرَ إلاَّ بِالتَّقوَى" وحكمة التقسيم إلى شعوب وقبائل إنَّما هي التعارف لا التخالف، والتعاون لا التخاذل، والتفاضل بالتقوى والأعمال الصالحة التي تعود بالخير على المجموع والأفراد، والله رب الجميع يرقب هذه الأخوة ويرعاها ويطالب عباده جميعًا بتقريرها ورعايتها والشعور بحقوقها والسير في حدودها.

 ويعلن القرآن الكريم هذه المعاني جميعًا في بيان ووضوح فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء:1)، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات:13).

 ويقول النبي محمدٌ- صلى الله عليه وسلم- في أشهر خطبه في حجة الوداع "إنَّ الله قَد أذهَبَ عَنكُم غَيبةَ الجَاهِلِيَّةِ وتَعظُّمَهَا بِالآبَاءِ وَالأجدَادِ؛ النَّاسُ لآدَمَ، وآدَمُ مِن تُرابٍ لاَ فَضلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ولاَ لأسوَدَ عَلَى أحمَرَ إلاَّ بِالتَّقوَى"، ويقول:"ليسَ منَّا مَن دَعَا إلى عَصَبيَّةٍ، وليسَ مِنَّا مَن قَاتَلَ عَلَى عصَبِيَّةٍ، وليسَ مِنَّا مَن مَات عَلَى عَصَبيَّةٍ" (رواه أبو داود).

 وبهذا التقرير قضى الإسلام تمام على التعصب للأجناس أو الألوان في الوقت الذي لا تزال فيه الأمم المتحضرة من أوربا وأمريكا تقيم كل وزن لذلك، وتخصص أماكن يغشاها البيض ويحرم منها السود حتى في معابد الله، وتضع القوائم الطويلة للتفريق بين الأجناس الآريه والسامية، وتدعي كل أمة أن جنسها فوق الجميع.

 تقرير وحدة الدين

وقرر الإسلام وحدة الدين في أصوله العامة، وأن شريعة الله- تبارك وتعالى- للناس تقوم على قواعد ثابتة من الإيمان والعمل الصالح والإخاء، وأن الأنبياء جميعًا مبلغون عن الله تبارك وتعالى، وأن  الأنبياء جميعًا مبلغون عن الله- تبارك وتعالى- وأن الكتب السماوية جميعًا من وحيه، وأن المؤمنين جميعًا في أية أمة كانوا هم عباده الصادقون الفائزون في الدنيا والآخرة، وأن الفرقة في الدين والخصومة باسمه إثم يتنافى مع أصوله وقواعده، وأن واجب البشرية جميعًا أن تتدين وأن تتوحد بالدين، وأن ذلك هو الدين القيم وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفي ذلك يقول القرآن الكريم ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: من الآية13) ويقول القرآن الكريم مخاطبًا النبي محمدًا- صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (الشورى: 15).

 ويقول النبي محمدٌ- صلى الله عليه وسلم- مصورًا هذا المعنى أبدع تصوير"مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياءَ قَبلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيتًا فَأحسَنَهُ وأجمَلَهُ إلاَّ مَوضِعَ لَبِنَةٍ مِن زَاوِيَةٍ مِن زَوَايَاهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ ويَعجَبُونَ لَهُ ويَقُولُونَ هلاَّ وُضِعَت هَذِه اللَّبِنَة، فَأنَا تِلكَ اللَّبِنَةُ وأنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ" (أخرجه الشيخان).

 وسلك الإسلام إلى هذه الوحدة مسلكًا عجيبًا، فالمسلم يجب عليه أن يؤمن بكل نبي سبق ويصدق بكل كتاب نزل، ويحترم كل شريعة مضت. ويثني بالخير على كل أمة من المؤمنين خلت، يفترض ذلك ويعلنه ويأمر به النبي وأصحابه: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة:136).

 

ثم يقفي على ذلك بأن هذه هي سبيل الوحدة، وأن أهل الأديان الأخرى إذا آمنوا كهذا الإيمان فقد اهتدوا إليها وإن لم يؤمنوا به، فسيظلون في شقاق وخلاف وأن أمرهم بعد ذلك إلى الله فيقول: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة: 137). 

 ويدعم هذه الوحدة بين المتدينين والمؤمنين على أساسين واضحين مسلمين لا يجادل فيهما إلا مكابر، أولهما: اعتبار ملة إبراهيم- عليه السلام- أساسًا للدين وإبراهيم، ولا شك وهو مرجع الأنبياء الثلاثة الذين عرفت رسالاتهم وهم: موسى وعيسى ومحمد- صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا.

  وثانيهما: تجريد الدين من أغراض البشر وأهوائهم والارتفاع بنسبته إلى الله وحده، فتقرأ في سورة البقرة قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (البقرة:130)، إلى قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة: 138)، ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ (البقرة:139)، ثم إلى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾  (البقرة:134)، إن القرآن يثني على الأنبياء جميعًا، فموسى نبي كريم ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾  (الأحزاب: من الآية69).

 وعيسى- عليه السلام-: ﴿رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه﴾ (النساء: من الآية171)، ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ (آل عمران: من الآية45) ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران:46)، ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَة﴾(المائدة: من الآية75)، أكرمتها الملائكة ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران:42).

 والتوراة كتاب كريم ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ﴾ (المائدة: من الآية44)، والإنجيل كذلك كتاب كريم فيه هدى ونور وموعظة ﴿وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: من الآية46)، وهما والقرآن معهما مصابيح الهداية للناس ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ﴾ (آل عمران:3)

وبنو إسرائيل أمة موسى أمة كريمة مفضلة ما استقامت وآمنت ﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:122)

وأمة عيسى عليه السلام أمة فاضلة طيبة ما أخلصت وعملت: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾ (الحديد: من الآية27).

 والتعامل بين المسلمين وبين غيرهم من أهل العقائد والاديان إنما يقوم على أساس المصلحة الاجتماعية والخير الإنساني ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8) ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الممتحنة:9).

 والجدال يكون بالتي هي أحسن إلاَّ للذين ظلموا، وأساسه التذكير بروابط الرسالة السماوية ووحدة العقيدة الإيمانية: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت:46)، وبذلك قضى الإسلام على كل مواد الفرقة والخلاف والحقد والبغضاء والخصومة بين المؤمنين من أي دين كانوا، ولفتهم جميعًا إلى وجوب التجمع حول شريعة الإسلام، ونبذ كل ما من شأنه العداوة والخصام بين بني الإنسان: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:62)، فإن أبى الناس إلا أن يفترقوا ويختلفوا ويحتكموا إلى أهوائهم باسم الدين فإن الإسلام ونبي الإسلام وشريعة الإسلام الإنسانية العامة منهم براء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام:159)، ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ (الأنعام:160)، ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام:161)، ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:162)، ﴿لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام:163).

 تقرير وحدة الرسالة

ولهذا جاء النبي محمد- عليه الصلاة والسلام- رسولاً إقليميًّا، وأعلن القرآن الكريم هذه العالمية في آيات كثيرة فقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾  (الفرقان:1)، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (سـبأ:28)، وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (لأعراف:158).

 ومن هنا كانت رسالته أيضا ختام الرسالات فلا رسالة تعقبها أو تنسخها ولا نبي بعده: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: من الآية40)، ومن هنا كذلك كانت معجزته الخالدة الباقية هذا القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ (فصلت: من الآية41)، ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت:42)، ولقد كان الناس يتساءلون من قبل هذا العصر كيف يكون فرد واحد من أمة واحدة رسولاً للبشر جميعًا فجاء هذا العصر الذي انمحت فيه المسافات، وتجمعت فيه أطراف الأرض بهذه المواصلات، وتشابكت فيه مصالح الأمم والدول والشعوب حتى لكأنها بلد واحد كبير، لا ينفك جانب منه عن الجانب الآخر في قليل ولا كثير، وانطلقت في أجواء الفضاء أنباء الشرق يعلمها ساعة حدوثها الغرب، وأنباء الغرب يستمع إليها لحظة وقوعها الشرق.

 وتركزت آمال المصلحين اليوم في (العالم الواحد) و(النظام الواحد) و(الضمان الاجتماعي) و(السلام العالمي)، فكان ذلك آية كبرى، ومعجزة أخرى لنبي الإسلام وشريعة الإسلام وصدق الله العظيم: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت:53).

 وحدة الشعائر

وقد كان الإسلام (عمليًّا) كعادته فلم يقف عند حد تقرير الأصول النظرية لهذه الوحدة الإنسانية؛ ولكنه رسم وسائل التطبيق، وقرر الشعائر والشرائع التي يتأكد بها هذا المعنى في النفوس، وثبت دعائمه في المجتمعات، وهذا هو الفرق بين الرسالات الفلسفية والرسالات الإصلاحية أو بين الفيلسوف والمصلح، فالفيلسوف يقرر النظريات والمصلح يرسم قواعد التطبيق ويشرف بنفسه على تمامه، ومن هنا كان الإسلام نظريًّا وعمليًّا معًا؛ لأنه رسالة الإصلاح الشامل الخالد، وعلى هذا الأساس قرر الشعائر والشرائع التي يتحقق بالعمل بها ما دعا إليه من إنسانية عالمية وأخوة حقيقية بين البشر على اختلاف أوطانهم وأجناسهم وألوانهم.

  ومن ذلك:

القبلة: فعلى المؤمنين أن يصرفوا وجوههم وقلوبهم وأفئدتهم كل يوم خمس مرات على الأقل إلى (الكعبة) يناها إبراهيم أبو الأنبياء- عليه الصلاة والسلام-، وأن يشعر كل منهم بما يحيط بهذا الرمز الكريم من معاني الأخوة، وبالوحدة بين الناس جميعًا، كما أن طواف الطائفين بهذه الكعبة المشرفة إن هو إلاَّ توكيد لهذا الشعور عمليٌّ كذلك، وينتهز بعض الذين لا يعلمون الحكمة البالغة والنظرة السامية في هذا التشريع الحكيم هذه الفرصة فيغمزون الإسلام بأنه لا زال متأثرًا ببقية من وثنية العرب، وأن الكعبة والطواف من حولها، والحجر الأسود واستلامه وما يحيط بذلك من معاني التقديس والتكريم إن هو إلا مظهر من مظاهر هذا التأثر، وهذا القول بعيد عن الصحة عارٍ عن الصواب، فالمسلم الذي يطوف بالكعبة أو يستلم الحجر يعتقد اعتقادًا جازمًا أنها جميعًا أحجارًا لا تضر ولا تنفع؛ ولكنه إنما يقدس فيها هذا المعنى الرمزي البديع: معنى الأخوة الإنسانية الشاملة، والوحدة العالمية الجامعة، ويذكر في ذلك قول الله العلي الكبير: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية97).

 والرمزية هي اللغة الوحيدة لتمثيل المعاني الدقيقة والمشاعر النبيلة التي لا يكن أن تصورها الألفاظ أو تجلوها العبارات، والذي يعظم علم وطنه يعلم أنه في ذاته قطعة نسيج لا قيمة لها ماديًّا؛ ولكنه يشعر كذلك أنه ترمز إلى كل معاني المجد والسمو التي يعتز بها وطنه، وإنها تصور أدق المشاعر في وطنيته، فهو يحيِّي هذا العلم ويعظمه ويحترمه ويكرمه لهذه المعاني التي تجمعت جميعًا وتمثلت فيه.

 والكعبة المشرفة على الله المركوز في أرضه ليمثل به للناس أوضح معاني أخوتهم وليرمز به إلى أقدس مظاهر وحدتهم وإنما كانت بناءً ليكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، ومن أجمل الجميل أن يقوم على رفع قواعد هذا البناء إبراهيم الخليل أبو الأنبياء: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة:127)

وما الحجر الأسود إلاَّ موضع الابتداء، ونقطة التميز في هذا البناء، وعنده تكون البيعة لرب الأرض والسماء على الإيمان والتصديق والعمل والوفاء، اللهم إيمانًا بك لا بالحجر، وتصديقًا بكتابك لا بالخرافة، ووفاءً بعهدك وهو التوحيد الخالص لا الشرك، وابتاعًا لسنة نبيك- صلى الله عليه وسلم- محطم الأصنام.

 فأين هذه المعاني الرمزية العلوية من تلك المظاهر الوثنية الخرافية؟ إن الكعبة المشرفة رمز قائم خالد، ركز الإسلام من حوله أخلد وأقدس وأسمى معاني الإنسانية العالمية والأخوة بين بني البشر جميعًا ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة:125).

 واللغة: وكما وحد الإسلام القبلة فقد وحد اللغة وأعلن العربية هي لسان القرآن:﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الزخرف:3)، وأن القرآن هو لسان المؤمنين، وأن دعوة الإيمان دعوة موجهة إلى العالمين، ويقرر علماء الاجتماع أن اللغة هي أقوى الروابط بين الأمم والشعوب، وأقرب وسائل التقريب والتوحيد بينها، وهي نسب من لا نسب له، وقد أدرك الإسلام هذه الحقيقة، ففرض العربية فرضًا على المؤمنين في صلواتهم وعباداتهم، ومنح الجنسية العربية لكل من نطق بلغة العرب وجهر لسانه بها، واعتبر أن العربية هي اللسان، روى الحافظ "ابن عساكر" قال جاء "قيس بن مطاطية" إلى حلقة فيها "سلمان الفارسي" و"صهيب الرومي" و"بلال الحبشي" فقال: "هؤلاء الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل- يعني محمدًا- صلى الله عليه وسلم- فما بال هذا وهذا؟ " مشيرًا إلى غير العرب من الجالسين، فقام إليه "معاذ بن جبل"- رضي الله عنه- فأخذ بتلابيبه، ثم أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما قاله، فقام النبي- صلى الله عليه وسلم- مغضبًا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فخطبهم قائلاً: "يَا أيُّها النَّاسُ إنَّ الربَّ واحدٌ، وإنَّ الدينَ واحدٌ، وليسَت العَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُم مِن أبٍ ولاَ أمٍّ وإنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ، فَمَن تَكَلَّمَ العَرَبِيَّةَ فَهُو عَرَبِيٌّ"، وأي تشجيع أعظم من هذا على تعلم لغة العرب وتعميمها بين الناس لتكون هي (الاسبرانتو) العالمي الذي يربط البشرية بأقوى روابطها، وهي اللسان.

 وقد يقال: إن ذلك خيال لا يتحقق والجواب أنه خيال حققته قوة أصحابه الروحية والحسية من قبل وتحققه من بعد، ولا خيالاً في الحقيقة إلا من الضعف، وحقائق اليوم أحلام الأمس وأحلام اليوم حقائق الغد، ولا تعاب الطريقة المثلى إذا هجرها الناس وهذه هي الطريقة للوحدة "وكل مَن سَارَ عَلَى الدَّربِ وَصَلَ".

 الأذان: وتستمع إلى الأذان وهو الصوت العالي الذي تنطلق به حناجر المؤدنين في الصباح والمساء وعشيًا وعند الظهيرة ومع الغروب: (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. حي على الصلاة. حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله)، يكرر المؤذن أعدادها المعروفة أو هو يقول: حي على خيرالعمل كما في بعض الروايات، فهل ترى هذا النداء دعوة إلى عصبية جنسية أو هتافًا بنصرة طائفية؟ لا شيء إلا تمجيد الله والحث على الخير والفلاح والطاعة والصلاة والإرشاد إلى الأسوة الحسنة في محمد رسول الله.

 الحقوق والواجبات ومظاهر العبادات

والمساواة التامة هي شعار الإسلام في الحقوق والواجبات ومظاهر العبادات، فالجنس الإنساني مكرم كله مفضل على كثير من المخلوقات: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الاسراء:70)، والناس جميعًا مخاطبون بهذه الدعوة الإسلامية، وكثيرًا ما يستفتح الخطاب في القرآن الكريم بيا أيها الناس إشارة إلى عموم هذه الرسالة، وتسويتها بين الناس في الحقوق والواجبات.

 والحقوق الروحية- فضلاً عن الحقوق المدنية والسياسية الفردية والاجتماعية والاقتصادية- مقررة للجميع على السواء، فما من شعب إلا بعث إليه رسول الله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر:24)، ومظاهر العبادات وطرق أدائها مشتركة بين الجميع يؤدونها على قدم المساواة، فهم في الصلاة كالبنيان المرصوص، وهم في الحج قلب واحد يفدون من كل فج عميق، وهم في الجهاد صف لا يتخلف عنه إلا أعرج أو مريض أو أعمى أو معذور، وهم في كل معنى من هذا المعاني كأسنان المشط لا سيد ولا مسود ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية10)، وقل مثل ذلك في جميع الحقوق والواجبات والفرائض والعبادات التي جاء بها هذا الإسلام.

 تقرير معاني الرحمة والحب والإيثار والإحسان

ولقد دعم الإسلام هذه المعاني النظرية والمراسيم العملية ببث أفضل المشاعر الإنسانية في النفوس من حب الخير للناس جميعًا، والترغيب في الإيثار، ولو مع الحاجة: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: من الآية9)، والإحسان في كل شيء حتى في القتل ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: من الآية195)، ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ (الكهف: من الآية30)، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ (النحل: من الآية90).

 وتقرير عواطف الرحمة حتى مع الحيوان، فأبواب الجنة تفتح لرجل سقى كلبًا، وتبتلع الجحيم امرأة؛ لأنها حبست هِرَّةً بغير طعام، كما جاء ذلك وغيره من كثير من مثله في أحاديث النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- حتى استغرب أصحابه، وقالوا: وإنَّ لَنَا في البَهَائِمِ لأجرًا يَا رَسُول الله؟ قال:"نَعَم، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطبَةٍ أجرٌ" (رواه البخاري)، ولا شك أن هذه المشاعر هي التي تفيض على صاحبها أفضل معاني الإنسانية وتوجهه إلى تقدير قيمة الأخوة العالمية.

 شيوع هذه الإنسانية عمليًّا في المجتمع الإسلامي

وإن التاريخ ليحدثنا أن المجتمع الإسلامي سعد بتحقيق هذه المعاني في كل عصر من العصور التي ازدهرت فيها دعوة الإسلام، وطبقها المؤمنون فيها تطبيقًا صحيحًا، ففي عهد النبوة كان "سلمان" الفارسي إلى جانب "صهيب" الرومي إلى جوار "بلال" الحبشي ومعهم في نسق واحد "أبو بكر" القرشي تضمهم جيمعًا أخوة الإسلام: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية103)، ولم تعرف التعصبات الجنسية إلاً يوم ضعف شعور المسلمين بسلطان التوجيه الإسلامي الصحيح واجتاحتهم شياطين التقليد فانحرفوا عن هذا الصراط المستقيم.

 عالم اليوم

ولقد بشَّر زعماء العالم إبَّان محنتهم في الحرب الماضية بهذه الإنسانية العالمية، وهتفوا بالعالم الواحد السعيد الذي تسوده الطمأنينة والعدالة والحرية والوئام، فهل وصلوا إلى شيء من ذلك، أو حاولوا أن يصلوا إليه فيما قرروا من مؤتمرات وعقدوا من اجتماعات؟ وهل استطاعت هيئة الأمم المتحدة أن تسوي في الحقوق بين أبناء الوطن الواحد في إفريقيا الجنوبية، أو أن تحمل الأمريكان على ترك التفاضل بالألوان؟ لا شيء من هذا، ولن يكون إلا إذا تطهرت النفوس بماء الوحي العذب الطهور، وسقيت من معين الإيمان، وأخلصت للإسلام دين الأخوة والوحدة والإنسانية والسلام:﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء:106) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107).

 • السلام.

• وحكمة مشروعية القتال في الإسلام.

• الإسلام والحرب.

• أغراض الحرب في الإسلام.

• هل انتشرت دعوة الإسلام بالسيف؟

• هل الإسلام وحده هو الذي أوصى بالسيف لحماية الحق؟

• خطوات الإسلام وما وضع من ضمانات لإقرار السلام.

• أين خطوات زعماء هذا العصر من هذه الخطوات؟.

 

الإسلام شريعة السلام ودين المرحمة ما في ذلك شك لا يخالف في هذا إلا جاهل بأحكامه أو حاقد على نظامه أم مكابر لا يقتنع بدليل ولا يسلم ببرهان، واسم الإسلام نفسه مشتق من صميم هذه المادة مادة السلام، والمؤمنون بهذا الدين لم يجدوا لأنفسهم اسمًا أفضل من أن يكونوا المسلمين: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس﴾ (الحج: من الآية78).

 وحقيقة هذا الدين ولبه الإسلام لرب العالمين: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:112)، ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:131)، ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: من الآية71).

 وتحية أهل الإسلام فيما بينهم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته – وختام الصلاة عندهم سلام على اليمين وسلام على اليسار وسلام في الأمام، إن كانوا يصلون خلف إمام كأنهم يبدأون أهل الدنيا من كل نواحيها بالسلام بعد أن فارقوها بخواطرهم لحظات انصرفوا فيها لمناجاة الله الملك العلام.

 وقد نزل القرآن الكريم في ليلة كله سلام تحف به ملائكة السلام: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر:1)، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ (القدر:2)، ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القدر:3)، ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر:4)، ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر:5).

 وأفضل ما يلقى الله به عباده تحية السلام: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ (الأحزاب:44)، وخير ما يستقبل الملائكة به الصالحين من عباد الله في جنة السلام ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾ (الرعد: من الآية23)، ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد:24)، والجنة نفسها اسمها دار السلام ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:127)، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (يونس:25)، والله- تبارك وتعالى- اسمه السلام: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلام﴾ (الحشر: من الآية23)، ولن يتأخر المسلم عن الاستجابة لدعوة السلام ولن يردها أبدًا: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (لأنفال:61)، ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (لأنفال:62)، ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ (النساء: من الآية94).

 وليست في الدنيا شريعة دينية ولا نظام اجتماعي فرض السلام تدريبًا عمليًّا، واعتبره شعيرة من شعائره وركنًا من أركانه كما فرض الإسلام رياضة النفس على السلام بالإحرام في الحج، فمتى أهلّ المسلم به فقد حرم عليه منذ تلك اللحظة أن يقص ظفرًا أو يحلق شعرًا أو يقطع نباتًا أو يعضد شجرًا أو يقتل حيوانًا أو يرمي صيدًا أو يؤذي أحدًا بيد أو لسان حتى ولو وجد قاتل أبيه وجهًا لوجه لما استطاع أن يمسه بشيء: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ﴾ (البقرة: من الآية197)، فهو بهذا الإحرام قد أصبح سلمًا لنفسه سلمًا لغيره من إنسان أو حيوان أو نبات.

 والإسلام دين الرحمة، فهي قرين السلام في تحية المسلمين، ونبي الإسلام إنما أرسله الله رحمة للعالمين، وشعار المسلم الذي يردده قبل كل قول أو عمل "بسم الله الرحمن الرحيم".

 والوصية بين المؤمنين الصبر والمرحمة: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ (البلد:17)، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ (البلد: 18)، وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- وأعماله وتصرفاته كلها تدل على سمو منزلة الرحمة بين الأخلاق التي يأمر بها هذا الدين.

 لقد فتحت أبواب الجنة، وشملت مغفرة الله تعالى ومنته رجلاً سقى كلبًا يلهث يأكل الثرى من العطش، روى "البخاري" و"مسلم" وغيرهما عن "أبي هريرة" قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "بينَمَا رَجُلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطشُ فوَجَدَ بئرًا، فَنَزَلَ فيها فَشَرِبَ ثمَّ خَرَجَ، وإذا كلبٌ يَلهثُ يأكلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فقال الرَّجل: لَقَد بَلَغَ هَذَا الكلبُ مِنَ العَطَشِ مِثل الذي كانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ البِئرَ فملأَ خُفَّهُ مَاءً، ثمَّ أمسَكَهُ بفِيهِ حتَّى رَقَى فَسَقَى الكلبَ فشَكَرَ اللهُ- تعالى- لهُ فَغَفرَ لهُ. قالوا يا رسول الله: وإنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أجرًا؟ قال: فِي كُلِّ كَبِدٍ رِطْبَةٍ أجرٌ".

 وفتحت أبواب النار لامرأة حبست هرة وقست عليها، روى "البخاري" و"مسلم" أن "ابن عمر" قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "دخلت امرأةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ ربطَتهَا فَلا هِيَ  أطعمَتهَا ولاَ هِيَ تَركَتهَا تَأكُلُ مِن خَشَاشِ الأرضِ".

 ومن قبل أن تنشأ جمعيات الرفق بالحيوان في أوربا أو غيرها، كان الرفق بالحيوان شعار الدين الإسلامي ووصية النبي- صلى الله عليه وسلم- لكل مسلم. عن "أبي هريرة"- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"لا تتَّخِذُوا ظُهُورَ دوابِّكُم مَنَابِرَ إنَّمَا سَخَّرَهَا اللهُ لكم لتبلُغُوا إلَى بَلَدٍ لَم تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأنفُسِ وجَعَلَ لكُم الأرضَ، فَعَليهَا فاقضُوا حَاجَتَكُم" (رواه أبو داود).

 وعن "عبدالرحمن بن عبدالله" عن أبيه- رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفرٍ، فرأينا حمرة معها فرخان لها فأخذناهما، فجاءت الحمرة تعرش، فلما جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن فَجَعَ هذه بولَدِهَا؟ ردُّوا وَلَدَهَا إليهَا، ورأى قريةَ نملٍ قد أحرَقنَاهَا، فقال: مَن أحرَقَ هَذِه؟ قلنا: نحن، قال: إنَّه لا ينبغي أن يُعَذِّبَ بالنَّارِ إلاَّ ربُّ النَّارِ" (أخرجه أبو داود أيضًا).

 وروى "ابن عبدالحكم" في سيرة "عمر بن عبدالعزيز"- رضي الله عنه- أنه نهى عن ركض الفرس إلاَّ لحاجة، وأنه كتب إلى صاحب السكك ألا يحملوا أحدًا بلجامٍ ثقيل ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة، وكتب إلى "حيان" بمصر أنه بلغني أن بمصر إبلاً نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل.

 وإنما سمي (الفسطاط)- مصر القديمة- بذلك لأن فسطاط "عمرو بن العاص" حين الفتح اتخذت من أعلاه حمامة عشًّا لها فلم يشأ "عمرو" أن يهيجها بتقويضه، فتركه وتتابع العمران من حوله فكانت مدينة (الفسطاط).

 وما ذلك كله إلاَّ أثرًا من آثار الرحمة التي يشيعها الإسلام في نفوس المؤمنين، فهو ولا شك دين الرحمة، وهو ولا شك دين السلام، وإذا كان الإسلام دين دين السلام ودين الرحمة، فمن موقفه من فكرة الحرب والقتال والجهاد؟ وهل انتشر بالسيف؟ كما يقول عنه كثير من خصومه الذين لم يعرفوه أو تعمدوا أن يتجاهلوه؟ وهل انفرد دون غيره من الأديان بمشروعية القتال؟ هذه هي رؤوس الموضوعات التي سنعالجها مختصرة في هذه الكلمات التالية:

 الإسلام والحرب

1- الحرب ضروروة إجتماعية

القاعدة الأساسية التي وضعها الإسلام للحياة هي ولا شك الطمأنينة والسلام والاستقرار؛ ولكن الإسلام مع هذا دين يواجه الواقع ولا يفر منه، وما دامت في الدنيا نفوس لها أهواء ونوازع ومطامع، وما دام هناك هذا الناموس الذي يطبق على الأفراد والجماعت على السواء، ناموس تنازع البقاء، فلا بد إذن من الاشتباك والحرب، وحين تكون الحرب لردع المعتدي وكف الظالم ونصرة الحق والانتصار للمظلوم تكون فضيلة من الفضائل وتنتج الخير والبركة والسمو للناس، وحين تكون تحيزًا وفسادًا في الأرض واعتداءً على الضعفاء تكون رذيلة اجتماعية، وتنتج السوء والشر والفساد في الناس.

 ومن هنا جاء الإسلام يقرر هذا الواقع ويصوره، فيقول القرآن الكريم: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: من الآية251)، كما يقول في آية أخرى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:40)، ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج:41).

 وبذلك كانت أولى نظرات الإسلام إلى الحرب أنه ضرورة اجتماعية، أو شر لا بد منه، إلاَّ لما يرجى من ورائه من خير، على حد قول الشاعر العربي

 والشَّرُّ إن تَلقَهُ بالخَيرِ ضِقتَ بِهِ        ذرعًا،  وإن  تَلقَهُ بالشَّرِّ  يَنحَسِمِ 

والنَّاسُ إن ظَلَموا البُرهَانَ واعتَسَفُوا     فالحَربُ أجدَى عَلَى الدُّنيَا مِنَ السِّلمِ 

  2-أغراض الحرب في الإسلام

وفي الوقت الذي يقرر الإسلام فيه هذا الواقع يحرم الحرب، ويسمو بها ولا يدعو إليها أو يشجع عليها إلا لهذه الأغراض الأساسية السامية العالية الحقة.

 أ- رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن والدين. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة:190)، وكانت أول آية من آيات القتال نزلت وفيها الإذن به قول الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39)، ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ (الحج: من الآية40)، وفي الآية الثالثة: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (النساء: من الآية75)، وروى "مسلم" و"النسائي" عن "أبي هريرة"- رضي الله عنه- قال: "جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن عُدِيَ عَلَى مَالِي؟ قال: فانشد بالله، قال: فإن أبَوا عَلَيَّ؟ قال: فانشد بالله، قال فإن أَبَوا عَلَيَّ؟ قال: فقاتل، فإن قُتِلتَ فَفِي الجنَّةِ، وإن قُتِلُوا ففي النار".

 وروى "أبو داود" و"الترمذي" و"النسائي" و"ابن ماجة" عن "سعد بن يزيد"- رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:"مَن قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَن قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُون دِينِه فَهُوَ شَهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُون أهلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ".

 وروى "البخاري" و"الترمذي" عن "عبدالله بن عمرو بن العاص"- رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن أريدَ مَالَهُ بِغَيرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ".

 

ب- تأمين حرية الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاولون الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿سْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (البقرة: من الآية217)، ويقول في آية أخرى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:193)

 ج- حماية الدعوة حتى تبلغ إلى الناس جميعًا ويتحدد موقفهم منها تحديدًا واضحًا، وذلك أن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية شاملة تنطوي على أفضل مبادئ الحق والخير والعدل، وتوجَّه إلى الناس، كما قال الله- تبارك وتعالى- لنبي الإسلام محمد- صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (سـبأ: من الآية28)، فلا بد أن تزول من طريقها كل عقبة تمنع من إبلاغها، ولا بد أن يعرف موقف كل فرد وكل أمة بعد هذا البلاغ.

 وعلى ضوء هذا التحديد تكون معاملة الإسلام وأهله للناس فالمؤمنون إخوانهم والمعاهدون لهم عهدهم وأهل الذمة يوفى لهم بذمتهم والأعداء المحاربون، ومن تخشى خيانتهم ينبذ إليهم فإن عدلوا عن خصومتهم فيها وإلا حوربوا جزاء اعتدائهم حتى لا يكونوا عقبة في طريق دعوة الحق أومصدر تهديد وخيانة لأهلها لا إكراهًا لهم على قبول الدعوة ولا محاولة لكسب إيمانهم بالقوة: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ﴾ (البقرة: 256)، والآيات والأحاديث ناطقة بذلك مفصلة إياه في مثل قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ (الأنفال: من الآية58 )، ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء:74)، وقوله تعالى ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:29)، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء:76).

 وروى "البخاري" و"مسلم" عن "ابن عمر"- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أن لاَ إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رَسُولُ اللهَ، ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة، فإذا فعلوا ذلك، عَصَمُوا مِنيِّ دِمَاءَهُم وَأموَالَهُم إلاَّ بِحَقِّ الإسلامِ، وحِسَابُهم عَلَى اللهِ".

 د- تأديب ناكثي العهد من المعاهدين أو الفئة الباغية على جماعة المؤمنين التي تتمرد على أمر الله وتأبى حكم العدل والإصلاح، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ (التوبة:12)، ﴿أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة:13)، ويقول: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات:9).

 هـ- إغاثة المظلومين من المؤمنين أينما كانوا والانتصار لهم من الظالمين وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الأنفال: من الآية72).

 

2- تحريم الحرب لغير ذلك من الأغراض: فكل ما سوى هذه الأغراض الإنسانية الإصلاحية الحاقة من المقاصد المادية أو النفعية فإن الإسلام لا يجيز الحرب من أجلها بحال من الأحوال وذلك واضح كل الوضوح في إضافة الإسلام القتال أو الجهاد دائمًا إلى سبيل الله فلا تزد واحدة من هاتين الكلمتين في بحث من البحوث الإسلامية إلاّ مقرونة بهذا السبيل، على أن القرآن الكريم قد صرح بتحريم كل قتال لغير هذه الأغراض المشروعة، وأكدت هذا التحريم أحاديث النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- وسجل التاريخ ذلك لأصحابه الذين لم يريدوا بقتالهم شيئًا أبدًا إلا وجه الله وتحقيق المقاصد المتقدمة كلها أو بعضها وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء:94)، ويقول: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:67)، ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال:68).

 وأخرج الخمسة عن "أبي موسى"- رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ فقال:"مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ"، وأخرج "أبو داود" عن "أبي هريرة"- رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله، يريد الجهاد في سبيل اللهِ وهو يبتغي عرضًا من الدنيا فقال: "لاَ أجرَ لَهُ"، فأعاد عليه ثلاثًا كل ذلك يقول: "لاَ أجرَ لَهُ".

 ولقد تأثر أصحاب النبي- حتى الأعراب منهم- بهذا السمو في الغرض من القتال حتى روى "النسائي" عن "شداد ابن الهاد"- رضي الله عنه- أن رجلاً من الأعراب جاء فآمن بالنبي، ثم قال أهاجر معك فأوصى النبي به بعض أصحابه فكانت غزاة غنم النبي فيها شيئًا، فقسم وقسم له فقال: ما هذا؟ فقال: "قَسَمتُهُ لَكَ" قال: ما على هذا اتبعتك؛ ولكني اتبعتك على أن أُرمَى إلى هَهُنَا، وأشار بيده إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة فقال: "إِن تَصدُق اللهَ يَصدُقُكَ" فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فَأُتِيَ به النبيَّ محمولاً قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي: "أَهُوَ هُوَ؟" قالوا: نعم، قال: "صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ" ثم كُفِّنَ في جُبَّةِ النبي، ثم قدمه فصلى عليه، فكان ممَّا ظهر من صلاته: "اللهمَّ إنَّ هَذَا عَبدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا وَأنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ".

 وصُحُفُ التاريخ فيَّاضة بمثل هذه الزهادة منهم في عرض الحياة الدنيا وغنائم الفتح، وأن غرضهم من الجهاد لم يكن شيئًا إلاَّ إعلاء كلمة الله وحماية دعوته في الناس.

 3- إيثار السِّلم كلما أمكن ذلك والتشجيع عليها، المسلم لا يحارب إلا مكرهًا على القتال بعد استنفاد وسائل المسالمة جميعًا، وحين تلوح بارقة أمل في السلم يوجب عليه الإسلام أن ينتهزها وألا يدع الفرصة تفلت من يده وعليه أن يعمل على إطفاء نار الحرب إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾ (لأنفال:61)، وروى "أبو داود" عن "الحارث بن مسلم" عن أبيه قال بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سرية فلما بلغنا المغار- أي مكان المغارة- استحثثت فرسي فسبقت أصحابي، فتلقاني أهل الحي بالرنين، فقلت لهم قولوا: لا إله إلا الله، تحرزوا فقالوها فلامني أصحابي، وقالوا: حرمتنا الغنيمة، فلما قدمنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخبرته بالذي صنعت، فدعاني فحسن لي ما صنعت، ثم قال لي: "أمَا إنَّ اللهَ قَد كَتَبَ لَكَ لِكُلِّ إنسَانٍ منهُم كَذَا وكَذَا مِن الأجرِ" وقال: "أمَا إنِّي سَأكتُبُ لَكَ بِالوصَاةِ بَعدِي، فَفَعَلَ، وخَتمَ عَلَيهِ ودَفَعَهُ إليَّ" 

 

4- الرحمة في الحرب ومراعاة أعلى آدابها الإنسانية: فإذا كانت الحرب ولا بد فإن المسلم يضرب فيها أروع المثل على الرحمة والتفضل ومراعاة أعلى آدابها الإنسانية، فإذا رجحت كِفَّة المسلمين على أعدائهم وظهرت الغلبة له فإن عليهم بحق القرآن أن يكفوا عن القتل ويكتفوا بالأسر؛ ليمنوا على الأسير بعد ذلك بحريته أو يفتدوا به مثله من أسراهم فيحسنوا إلى إنسان من عباد الله، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ (محمد: من الآية4).

 وأما الرق فسيأتي تفصيل الكلام عنه في بحث آخر، وحسبنا الآن أن نقول: إنه معنى من معاني الرحمة التي شرعها الإسلام في الحرب فأبدل حكم الإعدام وهو القتل بحكم السجن المؤبد، وهو الرق بعد الأسر، ثم جعل لهذا السجن بعد ذلك عدة منافذ يستطيع الأسير فيها أن يسترد حريته بكل سهولة لا يبيح الإسلام الرق بحال من الأحوال إلا في هذا الموقف، والذي تتجسم فيه معاني الرحمة والإحسان.

 والمسلم في قتاله، لا يغدر ولا يفجر ولا يفسد ولا يتلف ولا ينهب مالاً ولا يقتل امرأة ولا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا ولا يتبع مدبرًا ولا يجهز على جريح ولا يمثل بقتيل ولا يسيء إلى أسير ولا يتعرض لمسالم أو رجل دين ولا يقصد أن يضرب وجهًا أو يقتل صبيًا.

 أخرج "أبو داود" عن "ابن مسعود"- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أعف الناس قتلة أهل الإيمان"، وأخرج "البخاري" عن "عبد الله بن يزيد الأنصاري" قال:"نَهَى رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- عن النَّهبِ والمُثلَةِ"، وأخرج الشيخان عن "أبي هريرة"- رضي الله عنه- قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذَا قَاتَلَ أحَدُكُم فَليَتجنَّب الوَجهَ".

 وأخرج "أبو داود" عن "أبي يعلى" قال غزونا مع "عبدالرحمن بن خالد بن الوليد" فأتى بأربعة أعلاج من العدو فأمر بهم فقتلوا صبرًا بالنبل فبلغ ذلك "أبا أيوب الأنصاري"- رضي الله عنه- فقال: "سمعتُ رسولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنهَى عَن قَتلِ الصَّبرِ فَوَالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو كانَت دَجَاجَةٌ ما صَبَرتُهَا، فبلغَ ذَلكَ عبدَالرحمنَ فأعتقَ أربَعَ رِقابٍ"، وأخرج الستة، إلا النسائي، عن "ابن عمر" قال: وُجِدَت امرأةٌ مقتولةٌ في بعض مغازي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-فَنَهَى رسُولُ اللهِ- صَلَّى الله عَليهِ وَسَلَّمَ- عن قتلِ النِّسَاءِ والصِّبيَانِ"، وأخرج "مسلم" و"أبوا داود" و"الترمذي" عن "بُريِّدة"- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أمَّر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله- تعالى- ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا باسم اللهِ في سبيل الله، قاتلوا مَن كَفَرَ بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا".

 وكانت هذه الوصية شعار الخلفاء والأمراء، يوصون بها دائمًا قواد الجيوش حين يبعثون بهم إلى القتال، أوصى "أبو بكر" "أسامةَ"- رضي الله عنه- فقال: "لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلاَّ للأكل، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقًا " ثم قال: اندفعوا باسم الله"، فهل رأت الساحات والميادين أرقَّ من هذه الأفئدة وألين من هذه القلوب؟

 

6- الوفاء بالعهود والمواثيق والشروط: فإذا كانت هدنة وموثق وعهد وصلح وشرط، فالإسلام يشدد في ملاحظة ذلك والمحافظة على صورته ومعناه أدق المحافظة ويتوعد المخالفين من أبنائه إن غدروا ولم يفوا بأشد الوعيد، والآيات والأحاديث في ذلك واضحة محكمة لا تدع مجالاً لإباحة نقض العهد بالخيانة فيه وقت القوة وعده قصاصة ورق عند إمكان الخروج عليه بالحيلة، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (النحل:91)، ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (النحل:92)، ﴿إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:4)، ﴿بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ (الاسراء: من الآية34).

 وأخرج "أبو داود" عن "صفوان بن سليم" عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم- رضي الله عنهم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن ظَلَمَ مُعاهدًا؛ أن انتقَصَهُ أو كَلَّفَهُ فَوقَ طَاقَتِهِ أو أخَذَ مِنهُ شَيئًا بِغَيرِ طِيبِ نَفسِهِ، فَأنَا حَجِيجُهُ يَومَ القِيَامَةِ"، قال أهل (سمرقند) لعاملهم "سليمان بن أبي السري": إن قتيبة غَدَرَ بنا وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين- وهو يومئذ "عمر بن عبدالعزيز"- يشكون ظلامتنا فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن له فوجهوا منهم قومًا إلى "عمر"، فلما علم "عمر" ظلامتهم كتب إلى "سليمان" يقول له: إن أهل سمرقند قد شكوا إليَّ ظلمًا أصابهم، وتحاملاً من "قتيبة" عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا قضى لهم فأخرجهم إلى معسكهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم "قتيبة"، فأجلس لهم "سليمان" "جميع بن حاضر" القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم، وينابذوهم على سواء فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة، فقال أهل السند: بل نرضى بما كان ولا ندد حربًا؛ لأن أهل الرأي منهم قالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمنونا وأمناهم، فإن عدنا إلى الحرب لا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا نكون قد اجتبينا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان عليه ورضوا ولم ينازعوا، وهذا منتهى المبالغة في تقصي العدل والوفاء بالعهد.

 و‌- الجزية: ولسنا نحب أن تمر هذه الكلمات عن موقف الإسلام من الحرب قبل أن نتناول أمر الجزية بكلمة توضح معناها والمقصود منها وتكشف عن حكمتها، وكيف أنها أبلغ معاني الإنصاف والمرحمة التي جاء بها الإسلام: فنقول: الجزية ضريبة كالخراج تُجبى على الأشخاص لا على الأرض، والكلمة عربية مشتقة من الجزاء؛ لأنها تدفع نظير شيء هو الحماية والمنعة، أو الإعفاء من ضريبة الدم والجندية، وذهب بعض العلماء إلى أنها فارسية معربة وأصلها "كزيت" ومعناها الخراج الذي يستعان به على الحرب، وقال: إن "كسرى" هو أول من وضع الجزية، وعلى هذا فهي نظام في الضريبة نقله الإسلام عن الفارسية ولم يبتكره.

 ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين في البلاد التي يفتحها نظير قيام الجند الإسلامي بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها في الوقت الذي قرر فيه إعفاءهم من الجندية، فهي "بدل نقدي" لضريبة الدم، وإنما سلك الإسلام هذه السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين من باب التخفيف عليهم والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا في صفوف المسلمين فيتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال، فهي في الحقيقة "امتياز في صورة ضريبة" وفي الوقت نفسه احتياط لتنقية صفوف المجاهدين من غير ذوي العقيدة الصحيحة والحماسة المؤمنة البصيرة ومقتضى هذا أن غير المسلمين من أبناء البلاد التي تدخل تحت حكم الإسلام إذا دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية.

 وقد جرى العمل على هذا فعلاً في كثير من البلاد التي فتحها خلفاء الإسلام، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية في كتب ومعاهدات لا زالت مقروءة في كتب التاريخ الإسلامي ومنها:

 1- كتاب "خالد بن الوليد" لـ"صلوبا بن نسطونا" حين دخل الفرات، وأوغل فيه وهذا نصه: "هذا كتاب من "خالد بن الوليد" لـ"صلوبا بن نسطونا" وقومه. إني عاهدتكم على الجزية والمنعة، فلك الذمة والمنعة، فيما منعناكم، فلنا الجزية وإلا فلا"، كُتِبَ سنة اثنتي عشرة في صفر.

 2- وفي (حمص) رد الأمراء بأمر "أبي عبيدة" ما كانوا أخذوه من الجزية من أهلها وما إليها حين جلوا عنها ليتجمعوا لقتال الروم، وقالوا لأهل البلاد إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك الآن، وقد رددنا علكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فكان جواب أهل هذه البلاد: ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلوا كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء، لولايتكم وعدلكم أحب إليننا مما كنا فيه من الظلم والغشم، وكذلك فعل "أبو عبيدة" نفسه مع (دمشق) حين كان يتجهز لليرموك.

 3-كتاب العهد الذي كتبه "سويد بن مقرن" أحد قواد "عمر"- رضي الله عنهما- لـ"رزبان" وأهل (دهيستان) وسائر أهل (جرجان) ونصه: "هذا كتاب "سويد بن مقرن" لـ"رزبان صول بن رزبان" وأهل دهستان) وسائر أهل (جرجان) أن لكم الذمة وعلينا المنعة على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حال، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه "أي جزيته " في معونته عوضًا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومالهم وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك"، شهد "سواد بن قطبة" و"هند بن عمر" و"سماك بن مخرمة" و"عتبة بن النهاس" وكتب في سنة 18هـ - الطبري.

 4- كتاب "عتبة بن فرقد" أحد عمال "عمر بن الخطاب" وهذا نصه: "هذا ما أعطى "عتبة بن فرقد" عامل "عمر بن الخطاب" أمير المؤمنين أهل (أذربيجان) سهلها وجبلها وحواشيها وشعارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا جزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم في سنة- أي جند منهم في سنة- وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل من أقام من ذلك" (الطبري).

 5- العهد الذي كان بين "سراقة عامل عمر" وبين "شهر براز" وقد كتب به "سراقة" إلى "عمر" فأجازه واستحسنه وهذا نصه: "هذا ما أعطى "سراقة بن عمرو" عامل أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" "شهر براز" وسكان (أرمينية) والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاورا ولا ينقضوا، وعلى (أرمينية) والأبواب الطراء منهم- أي الغرباء- والقناء- أي المقيمون- ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحًا على أن يوضع الجزاء- أي الجزية- عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل (أذربيجان) من الجزاء فإن حشروا- أي جندوا- وضع ذلك عنهم" شهد "عبدالرحمن بن ربيعة" و"سلمان بن ربيع" و"بكير بن عبدالله" وكتب "مرضي بن مقرن" وشهد "الطبري".

 

6- أخيرًا أمر (الجراجمة) فيما ذكره "البلاذري" فقال: حدثني مشايخ من أهل (أنطاكية) أن الجراجمة من مدنية على جبل (لكام) عند معدن (الزاج) فيما بين (بياس) و(بوقا) يقال لها الجرجومة، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريرك أنطاكية وواليها، فلما قدم "أبو عبيدة" إلى أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهمُّوا باللحاق بالروم؛ إذ خافوا على أنفسهم فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إنَّ أهل أنطاكية نقضوا وغدروا فوجَّه إليهم "أبو عبيدة" مَن فتحها ثانية، وولاها بعد فتحها "حبيب بن مسلمة الفهري" فغزى الجرجومة فلم يقاتله أهلها؛ ولكنهم بادروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل (لكام) وألا يؤخذوا بالجزية، ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح... ولم يؤخذ الجراجمة بالجزية قط حتى إن بعض العمال في عهد "الواثق" العباسي ألزمهم جزية رؤوسهم، فرفعوا ذلك إليه فأمر بإسقاطها عنهم.

 وبهذا البيان يندفع كل ما يوجه إلى "ضريبة الجزية" من نقد أو اتهام وتظهر حكمة الإسلام ورحمة الله بعباده في تشريعاته واضحة لا غموض فيها ولا إبهام.

 7- الحث على دوام الاستعداد وكمال الشجاعة إذا تحتَّم الجهاد 

فإذا كان ولا بد من الحرب لغرض من الأغراض الإنسانية المشروعة التي سبقت الإشارة إليها، فإن الإسلام يصرح بأن الجهاد والقتال فريضة على كل مسلم ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:216).

 وهو حينئذ أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى والموت في ساحاته " شهادة " توجب الإكبار في الدنيا والجنة في الآخرة ولا يعفى منه إلا العاجزون عنه وعليهم أن يجهزوا غيرهم إن كانوا قادرين على ذلك وأن يخلفوهم في أهليهم بخير ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾  (التوبة:111).

 وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك أكثر من أن تحصر وقد باشر هو بنفسه في أكثر من خمس وعشرين معركة كان فيها مثال الشجاعة والنجدة والبأس حتى قال فارس أصحابه على كرم الله وجهه، " كنا إذا اشتد البأس وحمى الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أدنانا إلى العدو " وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم يفعلون. ولا يستطيع أحد أن يرى قى هذه الأحكام والأخلاق لمثل ما شرعت له من مقاصد وأغراض إلا أكرم معاني الفضيلة الإنسانية والجود بالنفس أقصى غاية الجودة وأجمل ما يكون الحق إذا استعان بالقوة وأفض ما تكون القوة إذا استخدمت للحق بالحق.

 هل انتشرت دعوة الإسلام بالسيف؟

أولع خصوم الإسلام في كل عصر وبخاصة في هذا العصر بتوجيه هذه التهمة إلى الإسلام، والإسلام منها براء، فهو لم يكره الناس على الإيمان بالسيف ولم يضعه على رقابهم ليشهدوا بشهادته أويدينوا بعقيدته فهذه التهمة باطلة من وجوه عدة.

 1- باطلة بشهادة التاريخ الذي يحدثنا بأن النبي محمدًا- صلى الله عليه وسلم- مكث بمكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى دينه كان فيها مضطهدًا أشد الاضطهاد حتى من أهله وعشيرته وأقرب الناس إليه، ومع ذلك فقد احتمل وصبر وصابر، وكان يمر على النفر من أصحابه والأسرة من المؤمنين به يعذبون أشد العذاب فلا يزيد على أن يقول له: "صَبرًا آلَ يَاسِرَ إنَّ مَوعِدَكُم الجَنَّةُ" ومع هذا فقد آمن بالإسلام السابقون الأولون الثابتون من أبنائه وأبرهم به في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته أعمق الإيمان، وآمن الأنصار وهم أهل المدينة بالنبي- صلى الله عليه وسلم- بمجرد أن تحدث معهم في الموسم وتوافدوا إليه يبايعونه في كل عام حتى كانت بيعة العقبة وعلى أثرها كانت الهجرة ،وكل ذلك ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يقابل أهل العدوان بسيف ولا عصًا؛ ولكن يصبر ويحتسب ويقول: "اللَّهمَّ اغفِر لِقَومِي فإنَّهُم لاَ يَعلَمُونَ" وما جاء الإذن بالقتال إلا في السنة الثانية من الهجرة بعد أن كثر خصوم الإسلام من المشركين واليهود، وتألبوا عليه وأخذوا يتحرشون به ويكيدون له، فأنزل الله هذه الآيات المحكمة وفيها أروع صور الإذن بالقتال لأنبل المقاصد والأغراض: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39)، ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج:41).

 والتاريخ يحدثنا عن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنهم فتحوا البلاد بأخلاقهم وحسن معاملتهم قبل أن يفتحوها بسيوفهم وعدتهم وعددهم، فلا يتصور أن عددًا قليلاً من هؤلاء العرب يصل إلى عرش "كسرى" ويَدُكَّ مُلك "قيصر" ويرث هذه الإمبراطوريات الضخمة في هذا العدد من السنين بمجرد القوة، ولا يعقل أن ثمانية آلاف جندي يفتحون إقليمًا شاسعًا كمصر، وينشرون فيها دينهم ولغتهم وآدابهم وثقافتهم وعقيدتهم بالإكراه والجبروت؛ ولكن بحسن الأحدوثة وجميل العمل، وها نحن قد رأينا فيما تقدم كيف أن كثيرًا من أهل هذا البلاد كانوا يتمنون عودة العرب إليهم بعد جلائهم، فكيف يقال بعد هذا: إن الإسلام قام على السيف وانتشر بالسيف؟!

 2- وباطلة بآيات القرآن الكريم التي تقرر حرية العقيدة وتقول في وضوح وصراحة: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي﴾ (البقرة: 256)، كما تقول ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ (الكهف:29)، كما تقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة:6)، فهو يلزم المؤمنين إن استجار بهم أحد المشركين أن يبلغوه الدعوة ويوضحوا له مقاصد الإسلام، ثم يحرسوه حتى يصل إلى مأمنه ويتركوه، ليسلم عن رغبة واقتناع لا عن خوف ورهبة وإكراه.

 3- وباطلة لأن قواعد الإسلام وما جرى عليه العمل به منها تأباها كل الإباء فأساس الإيمان في الإسلام الفكر والنظر والاطمئنان القلبي: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية14 )، وأساس المؤاخذة في الإسلام بلوغ الدعوة على وجه يدعو إلى النظر، والتقليد في الإيمان ليس أساسا صحيحا له فضلاً عن الإكراه عليه حتى قال بعض العلماء المتأخرين في منظومة فنية:  

إذ كُلُّ مَن قَلَّدَ فِي التَّوحِيدِ     إيمَانَهُ لَم يَخلُ مِن تَردِيدِ

وقول المكره في الإسلام مردود عليه ولا يؤاخذ عليه ولا يؤاخذ على عمله، فالدين الذي يعتبر العقل والحرية أساسًا للاعتقاد والمسئولية لا يمكن أن يقال فيه: إنه يقوم على السيف وينتشر به، وإن كان قد شرع الحرب والقتال لما تقدم من الأغراض التي لا يتقرض عليها إلا واهم أو مكابر.

وعلامة الإيمان الحق الاطمئنان إليه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28)، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ (الرعد:29).

 

هل الإسلام وحده هو الذي أوصى بالسيف لحماية الحق؟

وليس الإسلام وحده هو الذي أشار إلى القتال والحرب والجهاد كوسيلة لحماية الحق؛ بل إن الشرائع السابقة واللاحقة كلها جاءت بذلك، فأسفار التوراة التي يتداولها اليهود طافحة بأنباء القتال والجهاد والحرب والتخريب والتدمير والهلاك والسبي، وهي تقرر شريعة القتال والحرب؛ ولكن في أبشع صورها فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح العشرين منه عدد 10 وما بعده ما يأتي بنصه: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفع بجميع المدن البعيدة منك جدًّا والتي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تبقى منها نسمة ما بل تحرمها تحريمًا- الحيثين والأموريين والكنعانيين والفيروزيين والحويين واليوسيين كما أمرك الرب إلهك".

 وفي إنجيل (متَّى) المتداول بأيدي المسيحيين في الإصحاح العاشر عدد 25 وما بعده يقول: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض؛ بل سيفًا، فإنني جئت لأفرق الإنسان ضد ابنه والابن ضد أبيه والكنة ضد حماتها.. وأعداء الإنسان أهل بيته، ومن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها"، والقانون الدولي العصري قد اعترف بالظروف والأحوال التي تشرع فيها الحرب ووضع لها قواعدها ونظمها.

 وما جاء به الإسلام في هذا الباب أفضل وأدق وأرحم وأبر بالسلام من كل هذا، فلماذا تتوجه إليه الشبهات وليس غيره سبيلاً إلى السلام؟!: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة:16).

 خطوات الإسلام وما وَضَعَ من ضمانات لإقرار السلام

وفى وسعنا بعد هذه النظرات أن نقول: إن الإسلام كان أول وأكمل تشريع خَطَا في سبل إقرار السلام العالمي أوسع الخطوات، ورسم لاستقراره أوفَى الضمانات التي لو أخذت الأمم بها، وسلك الحكام والزعماء والساسة نهج سبيلها لأراحوا واستراحوا ومن ذلك:

 1-  تقديس معنى الإخاء بين الناس، والقضاء على روح التعصب، وقد تقدم موقف الإسلام من ذلك في الفصل السابق.

2- الإشارة بفضل السلام وطبع النفوس بروح التسامح الكريم وقد تقدم في أول هذا الفصل موقف الإسلام في ذلك مع افتراض الوفاء وتحريم الغدر ونقض العهود والمواثيق.

3- حصر فكرة الحروب في أضيق الحدود، وتحريم العدوان بكل صورة وإشاعة العدل والرحمة واحترام النظام والقانون حتى في الحرب نفسها، وللإسلام في ذلك القدح المعلي ويقول القرآن الكريم تأكيدًا لهذا المعنى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8).

4- التأمين المسلَّح، وقد سبق الإسلام كل الخطوات العصرية إليه في قول القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات:9).

4- ولقد ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما كان في الجاهلية من هذا المعنى، وهو (حلف الفضول) بكل خير، وقال عنه: "لقَد شَهِدتُ في بيتِ عَبدِالله بنِ جُدعَانَ حِلفًا مَا أُحِبُّ أنَّ لِي بِهِ حُمرَ النَّعَمِ" ثم قال: "ولو سُئِلتُ بِهِ فِي الإسلامِ لأجَبتُ".

 أين خطوات زعماء هذا العصر من هذه الخطوات؟

وبعد: فأين خطوات زعماء هذا العصر وساسته وعلمائه ومشرعيه وفلاسفته من هذه النظرات؟! وماذا صنعوا لإقرار السلام على الأرض؟! وقد شهدت الدنيا في ربع قرن حربين عالميتين طاحنتين أكلتا الأخضر واليابس!! وقامت بعد الحرب الأولى (عصبة الأمم) لإقرار السلام، فكُتِبَ لها أن تموت قبل أن تولد، ووأدها الذين شهدوا مولدها، بالأهواء السياسية والأطماع الاستعمارية فلم تستطع أن تعالج قضية واحدة من قضايا الخلاف بين الأمم التي اشتركت فيها ووقعت ميثاقها، ولم تلبث- إلا ريثما تهيأت- الأمم والشعوب للحرب من جديد، وقيل: إن سبب فشلها خلو ميثاقها من النصِّ على العقوبة العسكرية للمخالفين.

 وعقب الحرب العالمية الثانية قامت (هيئة الأمم المتحدة) وأنشئ (مجلس الأمن) واستكمل النقص التشريعي في بناء (عصبة الأمم) الموءودة، ومضى على ذلك وقت طويل، ولا زال الخلاف يشتد أثره ويقوَى مظهره، وإن لم تنجح الهيئة ولا المجلس إلى الآن في علاج قضية أو تسوية خلاف، وليس وراء ذلك إلا الحرب الثالثة، وليس معنى الحرب الثالثة شيئًا إلا فناء الأرض، ومن عليها فنحن في عصر القنبلة الذرية... فهل تفيء الإنسانية الحَيرَى إلى الله؟! وتتلقى دروس السلام قلبيًّا ونظريًّا وعمليًّا عن الإسلام؟! دين المرحمة والسلام.

﴿قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (النمل:59).