القبيلة بين التراحم والعصبية

د. ماجد عرسان الكيلاني

القبيلة بين التراحم والعصبية

د. ماجد عرسان الكيلاني

يكشف التدبر الدقيق لآيات القرآن الكريم عن أن القبيلة هي "جعل" – أي تنظيم – إلهي محكم، ولها وظيفة محددة، وإنها إحدى المحطات التنشئة الاجتماعية التي تبدأ الأسرة ثم القبيلة ثم الشعب ثم الأمة ثم الإنسانية. وإلى هذه الوظيفة وهذه المحطات  يشير قوله تعالى:

" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات -13]

والتعاون المذكور في الآية معناه التعارف الذي يقود إلى التآلف والتعاون والمودة، لقوله صلى الله عليه وسلم:

"الأرواح جند مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".

والبحث في بنية القبيلة التي لم تعكرها مواقف الضعف النابعة من أهواء البشر وضلالاتهم يكشف أن هذه المؤسسة كانت ومازالت – الوحدة الاجتماعية – الملائمة لنشأة الإنسان بعد تخطي مرحلة الطفولة ودخول مرحلة الصبا والشباب، وأنها تسهم بشكل رئيس في تنفيذ الوظائف الآتية:

1-    مساعدة الإنسان – على تحديد الذات أو الهوية أو الإجابة عن سؤال:  من أنا ؟

2-    تقبل الذات وإشباع حاجة الانتماء، أو الإجابة عن سؤال: ما قيمتي كفرد ومكانتي في المجتمع ؟

3-    مساعدة الإنسان على تعيين وبلورة السلوك المطلوب. أو الإجابة عن سؤال: كيف أسلك؟ 

4-    تطوير ضمير ناضج، أو الإجابة عن سؤال: ما هو الصحيح الذي يجب أن اعمله؟

5-    الانجاز والنجاح، أو الإجابة عن سؤال: ما الذي استطيع إنجازه ؟

وحين تسترشد القبيلة بالإجابات التي تقدمها الأصول الإسلامية والعلوم النفسية لهذه الأسئلة الخمسة فإنها تسهم في بلورة ثقافة يطلق عليها القرآن الكريم "التعاون على البر والتقوى". وبذلك ينمو الناشئة في بيئة اجتماعية تسود فيها علاقات المودة وحسن الظن وتلبى حاجاتهم في الأمن والانتماء وإنجاز الطموحات. ومن أجل توفير مثل هذه البيئة السليمة جعل الله تعالى الأفضلية لرباط القربى في البر والتقوى. فقال:

"وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ  اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ " [الأحزاب– 6].

وانطلاقا من هذه الأفضلية جعل أجرة الوحيد الذي يتقاضاه من قومه مقابل جهاده في إيصال الدعوة إليهم هو المودة في القُربى

" وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " [الشعراء – 214]. :

" قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى " [الشورى – 23].

وهذا ما يؤكد علية قولة صلى الله عليه وسلم:

" تعلموا من انسابكم ما تصلون بت أرحامكم"

ولو أردنا أن نتبين الحكمة من هذه الأفضلية لوجدنا أنها تتجسد في  أن اكتساب القيم الأخلاقية القبلية وتطبيقاتها المتراحمة المتعاونة على البر والتقوى هي تدريب لشباب القبيلة وشاباتها على الفضائل والأخلاق الرفيعة وإعدادهم للمشاركة في حمل المسئولية في ميدان الحياة العملية. ومن شأن هذا النوع من التنشئة الاجتماعية أن يجنب صبيان القبيلة وشبابها أمراض الشعور بالعجز والشذوذ والاغتراب والمراهقة التي يواجهها ويعاني منها نظائرهم في المجتمعات التي حرمت التراحم القبلي والروابط الاجتماعية.

ولقد تجسدت تطبيقات هذه القبلية المتراحمة في تنظيم جيوش الفتح الإسلامي. فكانوا إذا احتدم القتال وصعب الانتصار تنادوا أن تمايزوا ! أي أعيدوا تنظيمكم لتتميز كل قبيلة عن غيرها ثم تمضي في المنافسة مع القبائل الأخرى على الاستشهاد والتضحية بينما هي تنادي وتتواصى أن لا يؤتى الإسلام من قبل رجالها أو يتسلل العدو من جهتها.

كذلك تميزت تطبيقات هذه القبلية المتراحمة في تخطيط المدن والحواضر والقرى الإسلامية حيث كان يبنى المسجد الجامع في وسطها، وإلى جواره دار الإمارة. وحول الاثنين – خطط القبائل – وهي قطع كبيرة من الأرض تعطى كل قبيلة خطة منها ثم يجري تقسيمها إلى قطع صغيرة تبنى عليها دور القبيلة متجاورة، وجميع هذه الخطط ينحدر منها شوارع كبيرة تتلاقى في مساحة المسجد الجامع لتتجمع كلمة القبائل على ثقافة "وتعاونوا على البر والتقوى" وأخلاقها الإسلامية الرفيعة.

وفي هذه الخطط أصبحت تنشئة الأطفال والصبيان والشباب مسئولية القبيلة كلها، ففي دواوينها يتلقون الفضائل ويتدربون على حل المشكلات ومناقشة القضايا المشتركة والأخلاق وإتيان التواصل والتسامح التي ميزت المجتمعات الإسلامية وآنذاك. وإذا درج الناشئة والأطفال في شوارع الحي تبادلتهم أحضان الجدود والجدات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات بالابتسامات والوجوه الباشة، وإذا عثر انتشلوه باسم الله الحافظ وطبعوا على خده القبلات الحنونة – الودودة، وهدءوا من روعة ثم ملئوا جيبه بقطع الحلوى، ثم حملوه أو اقتادوه إلى أمه وأبيه.

وإذا تخطى مرحلة الطفولة إلى الصبا وبدايات الشباب بدأ المشاركة في ديوان القبيلة وفي ميادين سباق الخيل، والمتاجر والمعامل والحقول والمزارع وارتياد المساجد ودور العلم والتدرب على المهارات التي تمكنه من دخول عالم الكبار، كذلك يمكن أن نقول نفس الشيء عن الفتاة سبيلها إلى الأماكن المقابلة التي تعدها لعالم النساء الفاضلات.

أما المدينة الحديثة التي تزرع فيها البنايات الشاهقة المحشوة بأخلاط الأجناس البشرية الذين يعيشون في شقق وصفها عالم البيئة الامريكي (رينه دوبوا) بأنها حديثة حيوانات بشرية أقفاصها الشقق السكنية. فأنه لا يسمح للطفل فيها أن يتخطى عتبة الشقة قبل أن يملأ الوالدان أذنيه بالتحذيرات المرعبة وقصص الأطفال الذين خرجوا دون علم ذويهم، فالتقى بهم الجيران الأشرار على درج البناية أو في المصعد ثم انتهى بهم الامر إلى الخطف والاغتصاب والقتل. فإذا تخطى الطفل مرحلة الطفولة إلى الصبا تتحول هذه القصص المرعبة إلى خبرات تبرر الالتحاق بشلل المراهقين والمراهقات الجانحين والجانحات.

وفي حارات المدن الإسلامية القبلية كانت المرأة تخرج إلى أسواق مليئة بالأقارب والمعارف فلا تطاردها عيون زائغة، ولا تسمع التعليقات الجارحة، وكان "شباب القبيلة" يتبارون بالرجولة المسئولة، وكانت "بنات القبيلة" يتجملن بالعفاف والحياء وسموا لأخلاق، وكان الزواج رباطا مقدسا يربط بين قبليتين ويخرج لعقده الوفود والجاهات الكبيرة التي تباركه وتشارك في مسئولياته مدى الحياة. أما في المدينة الحديثة فقد تحول الزواج إلى علاقة جنسية بين ذكر وأنثى يتبادلان الوعود الواهمة في معارض الأجساد واللقاءات السرية، وإذا انتهت إلى الزواج تكشفت اسباب المشاجرات التي تنتهي إلى المحاكم وتدمير الحياة الأسرية.

وفي المدن والقرى الإسلامية أقام الأغنياء إلى جوار الفقراء في ظلال التراحم والقربى، وتكفل الموسرون بالمحتاجين والأرامل واليتامى والمطلقات ودفعوا لهم الزكاة والصدقات، وتبادلوا العطايا في الأعياد والمناسبات وحفظوهم من مضاعفات الفقر المفضي إلى الجريمة والفساد والفاحشة.

كذلك تجلت تطبيقات القبلية المتراحمة – المتعاونة في تقسيم الأراضي الزراعية إلى نواحي كبيرة توزع على الأقارب الذين يتعاونون في زراعتها ويتها دون محاصيلها بحيث لا يكون في قبيلتهم جائع ولا محروم.

لكن هذه الفضائل تختفي ولا تكاد تبين حين تتحول الرابطة القبلية – المتراحمة – إلى عصبية قبلية – يوجهها الهوى وتذكيها الشهوات، ويحكمها الجهل، ثم يكون من مضاعفات ذلك اقتراف الإثم في داخلها وممارسة العدوان في خارجها، وهذا ما يحذر منه قوله تعالى:

" وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " [المائدة – 2].

وإذا تحدرت قيم الإثم والعدوان من الآباء إلى الأبناء دخلت في منظومة الأعراف والعادات والتقاليد وأفرزت مرضين أثنين: الأول، الطاغوت، والثاني، مرض الصنمية والأصنام.

أما مرض الطاغوت – فقد ورد ذكره في القرآن الكريم في (8) ثمانية مواضع، وترددت مشتقاته في (21) واحد وعشرين موضعا، والطاغوت لغويا معناه – تجاوز حدود الشرع والقانون والموازين وبصائر العقل ثم الاحتكام إلى القوة الطاغية المتعجرفة التي تدعي الكمال والعصمة والمثاليات المطلقة في المعاملات وسائر شبكة العلاقات، وتعتبر مطالبة الطاغين بالتقيد بالمواثيق والعقود والدساتير المدونة طعنا في كمالهم وتهما تشكك في أماناتهم وعفتهم وفضائلهم، ثم تنتهي جميع هذه الدعاوى إلى اغتصاب الحقوق وانتهاك الحرمات واستباحة الفضائل.

ولذلك ورد التنديد الإلهي الصارم بأصحاب قيم الطاغوت الذين يحتكمون إلى دعاويه ولا يتزكون من آثاره، من ذلك قوله تعالى:

ومثله قوله تعالى:

" كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا " [الشمس – 11].

" فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ " [الحاقة – 5].

" أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ " [الرحمن – 8].

" إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ  مِرْصَادًا . لِلْطَّاغِينَ مَآبا " [النبأ – 25].

والمرض الثاني من أمراض "العصبيات القبلية" هو "الصنمية وعبادة الأصنام". وهذا مرض يدمر إنسانية الإنسان ويقتل فيه المناعة الفكرية والأخلاقية، ويبطل فاعليته ويحوله إلى مخلوق يعبد ما صنعت يداه، وتتقاذفه رياح التغيير دون أن يكون له أثر في صنع حاضره أو مستقبله. والأساس الذي تقوم عليه – الصنمية – يتكون من ثلاثة قواعد هي:

القاعدة الأولى: "دع" الأقوياء للضعفاء، أي اغتصاب حرياتهم وقهرهم والتسلط عليهم.

القاعدة الثانية: سلبهم ممتلكاتهم والاستئثار بموارد العيش والثروة دونهم.

والقاعدة الثالثة: تشكيل عقول الضعفاء وقيمهم وتقاليدهم وثقافاتهم ليصبح "الدع" أو القهر المذكور في القاعدة الأولى. جزءا من مقدساتهم ومعتقداتهم وممارساتهم.

ولذلك فالصنمية هي – تخلي الأفراد والجماعات عن حرياتهم في التفكير والتعبير والاختيار، وعن ممتلكاتهم التي رزقهم الله إياها من أجل مخلوق أخر ثم التوسل إليه ليرد بعضا منها غليهم.

والقرآن الكريم يمسى الأقوياء "الطغاة" الذين يغتصبون الإرادات والحريات والممتلكات أسماء عديدة أشهرها وأخطرها أسمي "الطاغوت" الذي مرَّ شرحه أعلاه، و "الأنداد – أي أنداد الله في التملك والكبرياء والطاعة، وإليهم كانت الإشارة في آيات عديدة، من ذلك قوله تعالى:

" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ  أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ " [البقرة – 165].

ولقد فسر الصحابي عبد الله بن عباس والصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما – الأنداد – بأنهم – رؤساء العصبيات – التي رفضت دعوة الرسول ومنعوا أتباعهم من الاستجابة لدعوة الإسلام.

وترسم الآيات القرآنية لإنسان العصبيات القبلية خريطة نفسية وعقلية وسلوكية دقيقة التفاصيل خلاصتها ما يلي:

العصبية القبلية أداة إفساد في الأرض تستوجب اللعنة الإلهية، والطرد من رحمة الله، لأنها عمياء لا تبصر الخير إذا رأته، ولا تفهم الحق إذا سمعته لأنها محجوبة عن رؤية الخير بشهواتها ومعصوبة عن سماع الحق بهواها.

" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ " [محمد 22 – 23].  

فالعصبيات القبلية – في العادة – انفعالية غير عاقلة، هوجاء غير متزنة، عمياء غير مبصرة، والمتعصب قبليا إنسان مصاب بمرض "انتفاخ الشخصية وتقلصّها"، متعجرف غير منطقي، أناني يريد أن يستولي على كل شيء ولا يعطي للآخرين أي شيء، فردي ضد الصالح العام، متكبر بتعالى على الضعفاء من حوله، شعاره دائما: "أنا أكثر منك مالا، وأعز نفراً".

والمتعصب القبلي مفتون يجب الرئاسة، يريد الآخرين إتباعاً له وأذناباً، لا يحترم الناس إلا من كان أقوى منه وأغنى، وهو ماكر لا يرعى عهدا ولا يصدق كلاما، تحركه الأهواء والشهوات والمصالح الموقوتة، وهو لا يفعل شيئا مفيدا لأنه عاجز عن فهم الواقع.

والمتعصب القبلي يحتقر أفكار الآخرين ولو كانت هي الوحي المنزل من الله، وهو عدو الإصلاح لأنه لا يعيش إلا إذا فسد الآخرون وتخلفوا، وهو يقترف الإثم داخل القبيلة، يتلصص على حرماتها وأعراضها ويدعي الغيرة على حرماتها، ويمارس العدوان خارج القبيلة ليستغلها في غزو الأمة ومؤسساتها وثرواتها.

ولهذه الصفات السيئة التي تفرزها العصبيات القبلية ومضاعفاتها في الطاغوت والصنمية كان الوعيد الإلهي من أمثال قوله تعالى:

" لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ".  [المجادلة – 22].

" قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ  فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ". [التوبة – 24].

ويقول صلى الله عليه وسلم: "من قاتل تحت راية عميّة، يدعو عصبيته أو يغضب لعصبيته، فقتلته جاهلية" ( ابن ماجه , حديث رقم 3948). ولا يعني هذا أن يهجر الإنسان أقاربه ويقطع عنهم إحسانه ورحمه. فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمن العصبية أن يحب الرجل قومة؟ فقال : لا . ولكن العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم". [ابن ماجه، السنن، ج2، حديث رقم 3949].

الملاحظات والتوصيات:

بعد هذا الاستعراض لـ (القبيلة بين التراحم والعصبية) يخلص البحث إلى إن (القبيلة) هي رافعة رئيسة في توجيه وتشكيل وقائع الحياة في الشعوب العربية والإسلامية سواء في تخلف هذه الشعوب أو تقدمها، فحين يصيب الجهل هذه القبائل وتسيطر عليها الأهواء والنزعات فإنها تصاب بداء – العصبية القبلية – التي تقف سدا منيعا أمام الوحدة والتقدم . ولكن حين تتزكى من أمراضها وتسترد عافيتها فأنها تصبح حاضنتا  الرسالات وحركات التجديد والإصلاح. لقد كانت غالبية المواجهات والمعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم ضد العصبيات القبلية التي رأت في الرسالة جاها قبليا هي أولى به ولديها مؤهلاته.

ولكن حين شفيت من أمراضها العصبية وأصبحت قبليات متراحمة – متعاونة قدمت التضحيات وأبدت ضروب الشجاعة والإخلاص ابتداء من التصدي للقبائل التي ارتدت بعد وفاة الرسول، وصارت القوة الضارية في جيوش الفتح الإسلامي في الشام ومصر والعراق وشمال المغرب العربي. فهذا خالد بن الوليد الذي قاد فرسان قريش وأوقع بالمسلمين في غزوة أحد يقود الجيوش من العراق إلى الشام بمهارة مازالت تثير الدهشة والإعجاب الكبير، ومن الطريف أنه حين أراد التوجه إلى الشام قال له بعض العرب:

"إن أنت أصبحت عند الشجرة الفلانية، نجحت أنت ومن معك وإن لم تدركها هلكت أنت ومن معك". فسار خالد بمن معه من الجند وأصبح عند الشجرة القائمة في سهول حوران، فقال قولته الشهيرة: "عند الصباح يحمد السرى" وصارت مثلا بعده لقرون، وإذا لم تكن هذه الشجرة هي الشجرة الوحيدة المشهورة التي رأيناها في طفولتنا، فأنها – على كل حال – قائمة في الأراضي التي تجمعت فيها جيوش الفتح الإسلامي، وتستحق أن نطلق على قريتنا هذه اسم (شجرة خالد) أو (شجرة اليرموك).

وحين وصل خالد بن الوليد قبيل معركة اليرموك قام في الناس خطيبا وهو يرى (القبائل المسلمة) تتنافس في الحصول على الاستشهاد وتصدر القتال، فقال

"إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم وأريدوا الله معكم، وأن هذا يوم له ما بعده، لو رددناهم إلى خندقهم، فلا نزال نردهم، وأن هزمونا لا نصلح بعدها أبدا، فتعالوا فلنتعاور الأمارة، فليكن علينا بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمر كلكم، ودعوني اليوم أليكم".

ثم خرج في تعبئة لم ير مثلها قط حيث قسم الجيش إلى أربعين كردوساً كل كردوس ألف رجل وعليهم أمير.

ويقف عكرمة بن أبي جهل ويقول لقادة الرومان:

"لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن، وأفر منكم اليوم ؟" ثم نادى: من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وعمه سلمة بن هشام، وولده عمرو بن عكرمة، وأربعمائة منهم ضرار بن الأزور وعصبوا رؤوسهم بعصائب حمراء واندفعوا يمزقون صفوف الروم ويبثون الرعب في قلوبهم فما عاد منهم إلا واحد. ولقد أحضر عكرمة بن أبي جهل وفي جسده بضع وسبعون جرحا فوضع خالد بن الوليد رأسه على فخذه، ورأس ولده عكرمة على ساقه وقال: زعم ابن الحنتمة أننا لا نستشهد !! والحنتمة اسم أم عمر بن الخطاب وأخت أبو جهل بن هشام (الطبري، التاريخ، ج2، ووقعة اليرموك، ص411).

ووقف أبو سفيان الذي قاد حملات قريش ضد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدنية، فصار يدور على كراديس القبائل المجاهدة ويقول لهم،

الله الله إنكم دارة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم دارة الروم، وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.

ومثله عمرو بن العاص الذي قاد سفارة قريش إلى الحبشة يحرض النجاشي على المسلمين الذين هاجروا عنده، فوقف في اليرموك ليقول مثلما قال من سبقه، ووقفت هند بنت عتبه زوجة أبي سفيان التي لاكت كبد حمزة يوم أحد، تقود النساء يحرضن المقاتلين تارة، ويمتشقن السيوف تارة أخرى... ومثلهن ... ومثلهم .... لقد تبدلت عصبيات قبائل الجاهلية التي كانت تتعاون على الإثم والعدوان، لتتعاون على البر والتقوى وإخراج الناس – كل الناس – من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.

ثم استدار الزمان وأخذ أثر الإسلام يضعف في النفوس، وضعفت العناية في الفقه القبلي المتراحم وأخذت العصبيات القبلية والطائفية والشعوبية تطل برؤوسها تشعل الفتن وتمزق الأمة الإسلامية الواحدة، واليوم تفتك العصبيات وتهلك الحرث والنسل وتهدم البنيان وتجري الدماء أنهارا في العراق وأفغانستان والصومال وفلسطين والسودان وسائر بلاد العرب والمسلمين، وراحت هذه العصبيات تستثمر مفاهيم الدين لإغراضها الخاصة  تماما كما استثمرته العصبيات القبلية العربية في العصر الجاهلي حتى أنها جعلت لكل قبيلة تلبية خاصة بها ومن أمثلة ذلك:

1-    تلبية قريش – لبيك اللهم ليبك إننا لقاح، حرمتنا أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح.

2-    تلبية ربيعة:- لبيك عن ربيعة، سامعة لربها مطيعة:

3-    تلبية قبيلة أسد – لبيك اللهم لبيك- يا رب أقبلت أسد- أهل التواني والوفاء والجلد.

4-  تلبية بني النمر – لبيك يا معطي الأمر، لبيك عن بني النمر ،جئناك في العام الزمر، نأمل غيثا ينهمر، يطرق بالسيل الخمر.

5-    تلبية ثقيف – لبيك اللهم لبيك، أن ثقيفاً قد أتوك            قد أطلقوا وقد رجوك.

(د.جواد علي، المفصل في تاريخ العرب، ج6 ، ص 376-377)  

واستدار الزمان واستفحلت العصبيات في ضمائر الشعوب وعقولها، ولونت إفهامهم وأفعالهم. ومن طريف ما سمعت أن حاجا من قبيلة – القبلان – حين ذهب إلى الحج وازدحم الطواف حول الكعبة أخذته الحمية القبلية فكشف عن رأسه ووضع غطاءه تحت أبطه ثم اندفع يزاحم الطائفيين ملبيا بهذه الكلمات:

قبلان لا تذلي                   كم هوشةٍ حضرناها

وبالرغم من هذه السلبيات العصبية القبلية التي عادت لتفعل فعلها في حياة الشعوب العربية والإسلامية المعاصرة، فإن القبيلة تبقى هي المؤثر الأول بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية وعامل قوي في تفعيل طاقات الإنسان العربي وتفجير حميته. لقد مر على هذه الشعوب أكثر من قرنين وهي تستعمل فيها أشكال التنظيم والأطر والمحتويات والشعارات الحزبية المستوردة من خارج، ومع ذلك بقية رطانةً غير مفهومة، والعناصر التي جذبتها هذه التنظيمات إلى صفوفها لم تتجاوز الحفنة من الخليط البشري الذي يعاني من الاغتراب الاجتماعي والغموض في الأغراض والأهداف.

ولتقوم (القبيلة) بدورها الذي أراده الله لها- كما ذكرنا في مطلع هذا البحث- فإن البحث يقترح عدد من التوصيات كالآتي :

أ- توصيات خاصة:

1-  تنظيم برامج لبلورة "ثقافة القبيلة المتراحمة – المتعاونة" وإشاعتها بين سكان القرية من خلال المحاضرات والدورات والنشرات وغيرها.

2-  التعاون مع بلدية سهل حوران لاستثمار تاريخ المنطقة في أطلاق اسم – شجرة خالد بن الوليد أو شجرة اليرموك – ثم تنظيم حفل مهرجان سنوي بذكرى – معركة اليرموك –بمشاركة سلالات القبائل التي شاركت في المعركة، ويتخلل المهرجان أسواق ومعارض ثقافية واقتصادية.

ب‌- توصيات عامة

1-    يمكن تعميم فكرة المهرجان لتشمل – يوم مؤتة في الجنوب ويوم أجنادين في الوسط.

2-  اقتراح أنشاء إدارة أو وزارة تعنى بتفصيل دور القبائل المتراحمة وإشاعة ثقافتها المتعاونة وتعيين وعاظا لكل قبيلة.

3-  اقتراح عقد مؤتمر مستوى لإدارات (القبائل المتراحمة) ووضع برامجها السنوية لتنظيم نشاطاتها وتبادل خبراتها وتحديد أهداف المرحلة وحاجاتها المستقبلية.

4-  ويقترح أن يقوم العلماء من المختصين بالشريعة والتربية والاجتماع في تأسيس علوم (فقه القبيلة) ومؤسساتها التربوية والتنظيمية التي تزكيها من مضاعفات العصبية وأمراضها في الطاغوت والصنمية ثم كيفية تفجير طاقاتها في ميدان العمل الحكيم الملبي لحاجات الزمان والمكان.