البيئة الدولية وأثرها على القضية الفلسطينية

د. محمد المناصير

مقدمة :

 تحكمت البيئة الدولية وخاصة السياسية بكل الظروف والإجراءات التي مرت بها القضية الفلسطينية ، منذ منتصف القرن التاسع عشر ، فلم يتحرك ساكنا في فلسطين وما حولها ، إلا مرتبط بها ، أو له علاقة من قريب أو من بعيد بهذه القضية التي ولدت من رحم البيئة الدولية ، سواء بيئة الحرب أو بيئة السلم أو بيئة الحرب الباردة أو بيئة التكتل والتحالف ، أو البيئة الاقتصادية ، كلها عوامل ساهمت بالتأثير على هذه القضية بل خلقتها قبل أن تولد .

البيئة الدولية عبر التاريخ وظروف نشأة القضية :

 يرتبط أتباع الديانة اليهودية بفلسطين ومدينة القدس، برابطة روحية لا سياسية، وقد عاش اليهود العرب في القدس في ظل الدولة العربية الإسلامية ، جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين.

 إلا أن هناك من اليهود ممن كان يعيش في كافة بقاع العالم، ولم يكن في البدء يتوق للعيش في فلسطين ، إلا أن البيئة الدولية والظروف الاجتماعية خلقت وضعا جديدا له ، فشعب الخزر التتاريين كانوا قد اعتنقوا اليهودية في القرن الثامن الميلادي ، وكانوا يعيشون في شبه جزيرة القرم بين البحرين الأسود وقزوين ، وأقاموا لهم دولة ، تمكن الروس من القضاء عليها نهائيا إبان القرن الحادي عشر الميلادي في حدود عام 1016م ، وتم اسر عددا كبيرا منهم وفر الباقون وتفرقوا في أنحاء العالم .

 ولم يكن ليهود الخزر ولا ليهود أوروبا مطامع في فلسطين قبل قيام الحركة الصهيونية . فعندما حاصر نابليون بونابرت مدينة عكا عام 1799م دافع المسلمون والمسيحيون واليهود عن المدينة جنبا إلى جنب ، وشارك أغنياء اليهود أيضا بأموالهم ، وقد عرض نابليون على أغنياء اليهود الانضمام لحملته ، مقابل جعل القدس مدينة خالصة لليهود ، إلا أن اليهود رفضوا عرض نابليون .

 وفي عام 1839م أسست بريطانيا لها أول قنصلية في القدس إبان العهد العثماني، وقد أوكلت بريطانيا للقنصلية مهمة حماية اليهود في القدس، وتسهيل هجرتهم إليها، لزيادة عددهم في المدينة، بناء على حسابات فرضتها البيئة الاجتماعية السياسية لجماعات الضغط لإرضاء اليهود. حيث أسفرت جهود جمعيات "حب صهيون " في أوروبا عن زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقيام الحركة الصهيونية، إبان عقد أول مؤتمر صهيوني عالمي في " بال " بسويسرا عقد في 29 آب 1897م. فقد طالبت الحركة الصهيونية في أوروبا بإقامة دولة خاصة باليهود ؛ وقد رأى العديد من الصهاينة إن موقع هذه الدولة يجب أن يكون في مكان الدولة التاريخية اليهودية ، بالمنطقة التي تعرف باسم فلسطين. وكانت فلسطين حينئذ جزءا من الدولة العثمانية . و كان لفلسطين حكم محلي على شكل ولاية، وكانت المنطقة مأهولة بالفلسطينيين العرب بشكل رئيسي فقد ظل اليهود يشكلون نسبة اقل من 8% حتى عام 1920.

 ففي بديات القرن العشرين ، وقعت الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا اتفاقية سايكس بيكون عام 1916 لاقتسام مناطق النفوذ بينهما ، وجعلتا فلسطين تحت الإدارة الدولية ، متخليتين عن الوعود للشريف حسين ولاتفاقاتهم مع روسيا ، وذلك إرضاء ليهود الولايات المتحدة للضغط على أميركا لدخول الحرب إلى جانب الحلفاء ، فتم تسهيل الهجرة لليهود الى فلسطين ابان الانتداب . وفي 2 تشرين الثاني عام 1917م تمكن اليهود من الحصول على وعد بلفور لجعل فلسطين وطنا قوميا لليهود . وعندما عقد الحلفاء مؤتمر سان ريمو عام 1920 ، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين ، وأعلنت بريطانيا فورا عن خطتها لتأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين ، واعتبرت اللغة العبرية رسمية إضافة للغتين العربية والانجليزية ، وأخذت تعمل على تهويد فلسطين ، واستملاك الأراضي .

وحاول العرب والمسلمون مقاومة الإجراءات البريطانية ، فعقدوا مؤتمرا إسلاميا في القدس عام 1931 ، ومؤتمرا في يافا عام 1933 ، بمشاركة معظم الدول الإسلامية ، لمعارضة الإجراءات البريطانية . كما شكلت لجان قومية في المدن والقرى الفلسطينية ، وشكلت اللجنة العربية العليا ، وقامت الانتفاضات والثورات المسلحة ضد الوجود البريطاني واليهودي في فلسطين ، أهمها ثورات 1936 و1939 ، مما جعل بريطانيا ترسل اللجان تلو اللجان لمعرفة أسباب الاضطرابات ، وكانت أولها لجنة بيل والتي عرف تقريرها بالكتاب الأبيض ، والتي توصلت إلى أن أسباب الثورات تعود لانتشار الروح القومية عند العرب ، ولمقاومة إنشاء وطن قومي لليهود ، فأوصت اللجنة بحل المشكلة على أساس تقسيم فلسطين وقيام دولتين عربية ويهودية فيها . ولما رفض المشروع من الطرفين اليهودي والعربي ، عقد مؤتمر لندن ، فحولت بريطانيا الموضوع إلى الأمم المتحدة ، وفي هذه الأثناء قرر اليهود فرض سياسة الأمر الواقع حال إنهاء الانتداب البريطاني ، من خلال شن حرب 1948م واحتلال الأراضي بالقوة . وتلا الحرب العديد من المشاريع لتحقيق السلام ، كان أولها المشروع النرويجي الداعي إلى السلم والدخول في مفاوضات بين الطرفين ، أما الولايات المتحدة فقد تكفلت بأمن إسرائيل ، وكانت حريصة على طرح مشاريع سياسية أولها مشروع "كاما" عام 1955 لإحلال السلام ، وضمان حسن الجوار بين إسرائيل وجيرانها من العرب ، مصر والأردن ، وتلاه مشروع دالاس الذي ركز على حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ، ومشروع جونستون الذي ركز على الحلول الاقتصادية والتعاون الاقتصادي بين إسرائيل وجيرانها ، كما انه أوصى بتوطين اللاجئين في الأردن . وطرحت بريطانيا مشروع إيدن ، وحتى الصهيونية نفسها طرحت مشروعا عام 1956 ، ركز على امن إسرائيل والمواصلات والتجارة والمياه وإعادة توطين اللاجئين خارج فلسطين وتعويضهم ، وقد تزامن هذا المشروع مع العدوان الثلاثي على مصر لكسر شوكتها كقوة عربية قد تهدد امن إسرائيل .

وقد تصاعدت حمى المشاريع ومقترحات الحلول بعد العدوان الثلاثي على مصر كمشروع أيزنهاور والمشروع الكندي والمشروع الاسترالي ، وكلها ركزت على تثبيت الحدود وقضية اللاجئين وإرسال قوات طوارئ للفصل بين الطرفين ، كما أن الأمم المتحدة طرحت مشروعا تقدم به أمينها العام همرشولد عام 1959 ، مركزا على الجوانب الاقتصادية ، بما يشبه" مشروع شرق أوسط جديد" ، الذي طرحه شمعون بيريز وطرح مشروع همرشولد تقسيم المشرق العربي إلى ثلاثة أقسام : 1- الدول العربية المنتجة للنفط ، والكيان الإسرائيلي 2- الأقطار العربية غير المنتجة للنفط ، مصر وسورية 3- الأقطار العربية التي ينعدم فيها البترول الأردن ولبنان
. وذك على أساس طرح تنمية شاملة في هذه الأقطار مع التركيز على توطين اللاجئين .

ويلاحظ أن بريطانيا هي التي تحملت المسؤولية من الحرب العالمية الأولى إلى قيام دولة اسرائيل ، رغم معارضة روسيا ، إلا أن إعادة اقتسام الغنائم جعلت روسيا أول الدول اعترافا بإسرائيل .

وخلال الفترة من قيام إسرائيل إلى عام 1967، استمرت بريطانيا كلاعب رئيسي على الساحة الدولية متبنية المسالة اليهودية، والإصرار على التقسيم، وإرسال لجان التحقيق، فيما كانت الولايات المتحدة قد أطلقت سيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقدمت دعما ماديا لتوطينهم وإقامة دولتهم.

وبينما كان العالم منشغلا بتفحص آخر مشاريع السلام ، وهو مشروع ليفي اشكول ، فقد وجد العالم أن اسرئيل قامت بفرض واقع جديد لاحتلال أراض جديدة ومقايضتها بالسلام، وقد أغدقت الولايات المتحدة على اسرئيل سيلا من المساعدات المادية والعسكرية ، لتحقيق تفوق عسكري على الدول العربية . قد كانت العلاقات الفرنسية الإسرائيلية تتنامى في الستينات ، حيث كانت فرنسا تبيع كافة المعدات العسكرية والسلاح لإسرائيل ، حتى تمكنت اسرائل من إقامة قوة ضاربة ، شجعت اسرئيل على شن حرب 1967 ،حيث احتلت كامل فلسطين وأراضي من ثلاث دول عربية هي الأردن ومصر وسورية ، مما أدي إلى المزيد من اللاجئين الفلسطينيين ، والمزيد من المشاريع والمقترحات لإعادة توطينهم وحل مشكلتهم ، وقد أصدرت الأمم المتحدة سلسلة من القرارات إلى أن تمكنت من وقف الحرب ، وتقدم الاتحاد السوفيتي بمشروع لعودة اسرئيل إلى حدود عام 1967 ، وتعويض الدول العربية عن الأضرار التي لحقت بها جراء الحرب ، إلا أن الولايات المتحدة ردت على المشروع السوفيتي بمشروع رفض فكرة الانسحاب غير المشروط ، والدعوة لإجراء مفاوضات مباشرة بين العرب وإسرائيل .

وقد اصدر مجلس الأمن القرار رقم242 ، بعد رفض إسرائيل الانسحاب ، فدعى القرار لإقامة سلام عادل في الشرق الأوسط وانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلت عام 1967 وضمان حق الجميع للعيش بسلام في حدود معترف بها ، إلا أن الولايات المتحدة أخذت زمام المبادرة وطرحت العديد من مشاريع الحلول السلمية ، كمشروع روجرز عام 1970 ، إلا أن الأردن وأمام تهديدات حل مشكلة اللاجئين على أرضه طرح مشروع المملكة العربية المتحدة لتتكون من قطري الأردن وفلسطين بما فيها القدس ، إلا أن المشروع رفض من إسرائيل والدول العربية والفلسطينيين.

ولما يأس العرب من مشاريع الحلول السلمية ، ولإعادة التوازن بالمنطقة اندلعت حرب 1973 ، مما جعل جميع الأقطاب تتحرك بعد انجاز تقدم في الحرب لصالح الدول العربية وتهديد امن اسرئيل ، وتطالب بوقف إطلاق النار ، واصدر مجلس الأمن الدولي القرار 338 ومطالبا بالبدء بتطبيق القرار 242 . وقد أسفرت الجهود الدولية عن التقاء القطبين الرئيسيين في العالم على عقد مؤتمر جنيف للسلام عام 1973 ، تنفيذا للفقرة الثانية من القرار 338 ، فحضرت الأردن ومصر والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي المؤتمر ، إلا أن المؤتمر لم يحقق الغاية المرجوة للاصطدام بالتعنت الاسرئيلي والدعم الأميركي ، مما جعل المنطقة تصبح هدفا جديدا لسلسلة من المشاريع للحل السلمي ، أهمها مشروع الرئيس كارتر ، ومشروع بيغن ، وبيان السوق الأوروبية ، وجميعها ركزت على الحل النهائي ، لضمان امن إسرائيل.

ولما لم تسفرالمؤتمرات عن حل قرر الرئيس السادات القيام بزيارة دراماتيكية إلى القدس عام 1977 ، والاندفاع بحماس لحل سلمي منفرد مع إسرائيل ، مما مهد الطريق لعقد مفاوضات مباشرة والقفز فوق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، وتحويل الإشراف الدولي على القضية الفلسطينية إلى رعاية منفردة للولايات المتحدة ، مما أسفر عن توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ، وخروج مصر عن الإجماع العربي .

وقد طرحت إسرائيل على الفلسطينيين بعد كامب ديفد مشروعا للحكم الذاتي ، وهو ما أكده الرئيس ريغان بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982، وهو طرح يستبعد قيام دولة فلسطينية مستقلة ، مؤكدا على الخيار الأردني ، إلا انه دعا لانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية لتحقيق السلام مع لبنان. مما أثار اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ضده ، وبالمقابل طرح الرئيس برجنيف مشروعا للسلام على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947.

وأمام كل هذه التطورات وانفلات مصر من الإجماع العربي ، والضياع في خضم المشاريع الغير قابلة للتطبيق ، والقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وأبعادها من لبنان إلى ليبيا وتونس واليمن ، وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام انتفاضة عارمة عام 1987 ، مما ثار الاهتمام العام العالمي ، وإعادة القضية إلى مكانتها الدولية ، وبدا التعاطف الدولي مع الفلسطينيين ، مما جعل اسرئيل تفكر جديا بالتخلص من الأراضي ذات الغالبية والكثافة السكانية ، فابدت مرونة الخيار الأردني الذي طرحته الولايات المتحدة ، ومن جانبها أعلنت المقاومة الفلسطينية تجاوبها مع طرح السلام بعد أن فقدت قوتها ، واخذ فلسطينيو الداخل زمام المبادرة بنفسهم ،وأمام الضغوط الدولية ، أعلنت القيادة الفلسطينية رغبتها لإحلال السلام من خلال عقد مؤتمر دولي للسلام على قاعدة قرارات الأمم المتحدة ، إلا أن شامير طرح في الوقت نفسه وأمام ضغط الانتفاضة مشروعا للحكم الذاتي للضفة الغربية وقطاع غزة مقابل وقف الانتفاضة . و قد اندلعت الانتفاضة الثانية في 28/9/2000 و خلفت خسائر جسمية و متنوعة في الكيان الصهيوني منها ما هو بشري و عسكري و نفسي و لكن آثارها على الاقتصاد الإسرائيلي كان الأفدح و الأكثر ضررا . فقد قام الشعب الفلسطيني بانتفاضة شعبية في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزّة، وقامت منظمة التحرير الفلسطينية بتبنيها فيما بعد، مما أُجبر الإسرائيليون على الجلوس على مائدة المفاوضات مع الفلسطينيين.

واشتدت وطأه التصعيد الإسرائيلي في هذه الانتفاضة حيث قامت القوات الإسرائيلية بعملية اجتياح واسعة جداً لجميع مناطق السلطة الفلسطينية في 2/4/2002 ، حيث قامت القوات الإسرائيلية باستخدام القوة المفرطة ضد المليشيات الفلسطينية الصغير غير المجهزة وقوات الأمن الفلسطينية ، حيث قامت بضرب جميع البنية التحتية للأمن بتدمير جميع مراكز الشرطة والأمن الوطني واعتقلت وقتلت العشرات منهم ، مما أشاع حالة من الفوضى .

وقد حرصت الولايات المتحدة على استغلال الانشقاق العربي بعد هزيمة العراق في حرب الخليج ، لفرض تصوراتها ومشاريعها السلمية على العالم العربي ، فما أن انتهت حرب الخليج واختلال موازين القوى الدولية حتى طرح الرئيس جورج بوش الأسبق مبادرة لحل نهائي للصراع العربي الإسرائيلي ، فتم طرح فكرة عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 بمشاركة كافة الأطراف ، تحت رعاية أميركية سوفيتية مشتركة ، وبحضور الأمم المتحدة ، وعقد المؤتمر ، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي أصبح المؤتمر تحت الرعاية المنفردة للولايات المتحدة ، فجعلت منه مظلة لمفاوضات ثنائية منفردة ، بين الأطراف كل على حده ، فيما تم استبعاد الأمم المتحدة نهائيا ، لتتم التسوية ليس على أساس الشرعية الدولية ولكن وفقا لوازين القوى الجديدة. فبينما كانت المسارت تجري المفاوضات ، ووفد فلسطينيي الداخل تحت المضلة الأردنية ، وباستبعاد منظمة التحرير الفلسطينية ، أجرت المنظمة مفاوضات سرية مع الاسرائليين في اوسلو ، تضمنت اعترافا متبادلا بين اسرائل والمنظمة ، وتشكيل سلطة فلسطينية انتقالية ذاتية في قطاع غزة والضفة الغربية ، تمهيدا لتسوية نهائية على أساس قراري 242، و338 .

وقد أصبحت المحادثات المتعددة الأطراف جزءا من البيئة الدولية الجديدة وواقعا ملموسا ، فقد أسندت الولايات المتحدة لحلفائها في حرب الخليج أدوارا في العملية السلمية ومؤتمر مدريد ، فقد جعلت اليابان مسؤولية عن لجنة البيئة ، والولايات المتحدة وروسيا مسؤولتان عن لجنة الأمن ومراقبة التسلح ، وكندا مسئولة عن لجنة اللاجئين ، والسوق الاروربية المشتركة مسئولة عن لجنة التنمية الاقتصادية ، والولايات المتحدة منفردة مسئولة عن لجنة المياه ، وبهذه المحادثات المتعددة الأطراف وضعت الولايات المتحدة حجر الأساس لبناء شرق أوسط جديد ، والذي يسمح لإسرائيل بأخذ دور في إعادة تشكيل المنطقة ، مما أدى إلى اتفاق إعلان المبادئ في واشنطن بين اسرئيل ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية أميركية ، ونتج عنه توقيع اتفاقية الحكم الذاتي في القاهرة ( غزة – أريحا أولا ) ، وكان من نتائجه عودة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات إلى غزة عام 1994 ، وبهذا خرجت القضية الفلسطينية من إطارها العربي الإسلامي إلى البعد الثنائي والإقليمي .، وإخراج القضية من المحافل الدولية إلى المحادثات الثنائية .

 وقد أدى توقيع مصر والفلسطينيين للسلام مع اسرئيل ، وإرباك المسار الأردني ، وتأجيل موضوع اللاجئين الفلسطينيين ، ونتائج حرب الخليج ، وحصار ميناء العقبة ، والضغوط الأميركية والتهديدات الإسرائيلية حول ما يسمى الدافع الأمني ، وبروز فكرة الوطن البديل ، وتدهور علاقة الأردن مع المنظمة ،والدافع الاقتصادي والأمني ، إلى تحرك الأردن لتوقيع معاهدة سلام مع اسرئيل لإعادة الأرض والمياه المغتصبة.

وأمام الاتفاق الإسرائيلي مع منظمة التحرير الفلسطينية، ظهرت حركة حماس لترفض الاعتراف بإسرائيل ، واتفاق إعلان المبادئ، وقد قابل ذلك رفض دولي لعدم اعترافها باسرائيل واستحقاقات العملية السلمية ، وذلك لوجود قيادتين لحماس خارجية متشددة بقيادة مشعل وداخليةمرنة بقيادة هنية ، ويعود ذلك لاغتيال اسرائيل لقادة الحركة من 2002-2004 ، مما افسح المجال امام القيادة الخارجية لفرض ارادتها على الداخلية ، ورفض حماس الاشتراك بالحكومات الفلسطينية ، حيث انها تخضع لضغوط خارجية ، فقد تتخذ قرارات تخالف قرارات الحركة ، مثل الاعتراف صراحة باسرائيل ، الامر الذي دفع باميركا والاتحاد الاوروبي لفرض عقوبات سياسية واقتصادية لاسقاط الحركة ، بعدان شكلت حماس الحكومة بعد فوزها بالانتخابات ، وقد أدى الاختلاف بين فتح وحماس إلى الاقتتال ، عدة مرات ، قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق وذلك بسبب الضغوط الدولية التي وسعت الهوة في العلاقة ، واساءات الاصدامات بين فتح وحماس الى مكانة الحركة شعبيا ، مما جعل الولايات المتحدة تعتبر حماس منظمة إرهابية ، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية ، فقامت حركة حماس الجانب العسكري باسر الجندي الاسرائلي ، الامر الذي شكل نقطة تحول للحركة ، وبدات تعتمد اعمالا عسكرية جديدة بدلا من العمليات الاتحارية ، إلا أن الاختلاف والاقتتال استمر إلى أن تم التوصل لتسوية بيتهما بوجود جناحي فتح الخارجي والداخلي خالد مشعل وهنية في مكة المكرمة عام 2006، الا ان الاتفاق السياسي بين الطرفين لم يخفف من حدة التوتر الا لفترات قصيرة جدا ، وحاولت الولايات المتحدة تعديل اتفاق مكة او افشاله ، على الرغم من ان تقيري بيكر هاملتون اكد على ضرورة الاسراع بحل الصراع في المنطقة ، من خلال قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة .

البيئة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه القضية :

 ان موقف تحاد الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية كانت في بداياتها على علاقة وثيقة بما يمكن تسميته بـ"سياسة الاتحاد الأوروبي الإسرائيلية". فالقضية الفلسطينية لم تدرج في البداية على أنها قضية خارجية تستحق فلا توجد نظرة واقعية إلا بالقدر الذي كانت فيه هذه القضية على علاقة بسياسة الاتحاد الخارجية المتعلقة بإسرائيل. وهذه العلاقة بالتالي شكلت لب ما يمكن تسميته بالسياسة الخارجية المشروطة بالسياسة الخارجية جعلت منها في الأساس سياسة مبهمة ومشلولة الحركة. ويمكن وصف علاقة الاتحاد باللاجئين الفلسطينيين ضمن مصوغات مواقف المجموعة الأوروبية آنذاك من قضايا المنطقة عامة والتي تشمل صراع إسرائيل مع كل ما سمى وقتها دول الطوق العربي (الأردن، مصر، سوريا، لبنان) ورغم ما يمكن أن يشفع لمثل هذه السياسة في بدايتها من أسباب والمتمثلة في أن الاتحاد الأوروبي كان في الستينات في مطالع حضوره كجسد سياسي موحد وكانت تعوزه مقومات الوحدة التي من شانها أن تساهم في خلق الموقف السياسي الخارجي الموحد. كما أن علاقات الدول الأعضاء حديثاً في الاتحاد مازالت مبتلة جذورها بماء الإرث الاستعماري، وما ساهمت به هذه الجذور من محاباة لإسرائيل حتى على حساب ما سمي حينه بالروح التي سادت أوربا غداة ويلات الحرب. ولم يكن ينظر إليها إلا كجزء من الصراع العربي اليهودي في المنطقة.

وهناك عدم اتفاق وربما خلاف في الكثير من الأحيان حول الدور الذي يجب أن يلعبه الاتحاد الأوروبي في المنطقة. ولما كانت الدول الأعضاء باختلاف الطيف والتاريخ السياسي تتفق على ضرورة أن يقوم الاتحاد بممارسة دوراً ما في منطقة الشرق الأوسط أو ضفاف المتوسط (كما سيأتي في الخطاب السياسي الأوروبي لاحقاً) فإن هذه الدول تفتقر للرؤيا الدقيقة حول هذا الدور: شكله وماهيته ومداه وكيفيته. علينا أن نلاحظ أن الكثير من الدول الأعضاء في الاتحاد تنظر لدور عالمي وحيز واسع للتواجد الأوروبي السياسي في الساحة العالمية، فيما تقتصر رؤى دول كثيرة على الدور الإقليمي للاتحاد وترى بوجوب أن لا يضخم الاتحاد من نفوذه العالمي. فان سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية في المنطقة عادة ما تتسم بكونها ردود فعل.

وقد تقدمت دول الاتحاد الأوروبي بمبادرات سلام ، فقد قامت اسبانيا وبدعم من فرنسا وايطاليا ، أعلنت في نهاية عام 2006 بمبادرة سلام أكدت فيها على وقف النار في فلسطين ، وإرسال قوات دولية ، وتشكيل حكومة وطنية فلسطينية معترف بها دوليا ، وتبادل الأسرى ، وعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط ، إلا أن اسرئيل رفضت المشروع الأوروبي ومات في مهده . كما أعلنت روسيا ضرورة إجراء مشاورات بين مختلف الأطراف المعنية بما فيها مصر والسعودية والأردن.

أما دول أميركا اللاتينية فقد أيدت القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة ، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، فقد سعت البرازيل لعقد أول قمة عربية لاتينية في عام 2005 ، لمساندة القضايا العربية ، وزيادة التبادل التجاري ، وقد زار الرئيس البرازيلي مدينة رام الله في آب 2006 للاعرب عن تضامن بلاده مع الفلسطينيين .

وقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور النظام العالمي الجديد وفرض الليبرالية الغربية على دول وشعوب العالم ، سعت القوى الصهيونية للاستفادة من الصراع بين الشرق والغرب ، فقامت باختراق القوى العالمية المناصرة للحق العربي ، ومنها الصين ، وخاصة وان للصين مقعدا دائما في مجلس الأمن ، ولم تكن هناك تصورا صينيا عن إسرائيل قبل مؤتمر باندونغ ، وقد كانت اسرئيل تزود الهند بالسلاح إبان الحرب الصينية الهندية ، ولكن الصين بعد وفاة ماو تسي تونغ عام 1976 بدأت بالانفتاح على العالم ، فأخذت تبحث عن مصالحها ، وأيدت الصين حل النزاع العربي الإسرائيلي بالطرق السلمية ، وإقامة علاقات دبلوماسية مع اسرئيل عام 1992 ، ويبدو أن ذلك محاولة من الصين للحصول على التكنولوجيا الإسرائيلية ، وليكون للصين دور على الساحة الدولية ، والنظام العالمي الجديد .

وقد طرحت الولايات المتحدة فكرة الشرق الأوسط الجديد عام 2006 ، بعد بدء الحرب الاسرائلية على لبان ، فقد قالت كونداليزا رايس في مؤتمر صحفي إن شرق أوسط جديد يتخلق الآن ، ويبدو أن أميركا استخدمت الذراع الاسرايلية لفرض هذا الوضع ، على اعتبار إن إسرائيل ستنتصر ، وان سورية ستجر إلى الحرب وكذلك إيران ، إلا أن ذلك لم يحدث لان اسرئيل لم تنتصر ، ولكن الصراع لازال مستمرا .

الانعكاسات الدولية لأحداث الحادي عشر من أيلول الماضي على القضية الفلسطينية :

 شهدت القضية الفلسطينية تطورات هامة عقب أحداث نيويورك وواشنطن منها انتفاضة الأقصى والمواقف الدولية التي استجدت لاحقاً، وخاصة الموقفين الأمريكي والأوروبي. ولكن كيف تأثرت القضية الفلسطينية بأحداث 11 سبتمبر على الصعيد الدولي ؟

 كان الحدث الأبرز في القضية الفلسطينية ومسيرة تسويتها قبل أحداث واشنطن ونيويورك انعقاد قمة كامب ديفيد في تموز من العام 2000 بحضور ياسر عرفات وإيهود باراك ورعاية الرئيس الأمريكي كلينتون ، وقد فشلت هذه القمة، ثم قام شارون رئيس المعارضة الإسرائيلية آنذاك بزيارة المسجد الأقصى في تحد سافر للمشاعر ، ليس للفلسطينيين وحدهم ، وإنما كافة أبناء الأمة أيضاً، ثم اندلعت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من أيلول عام 2000 .

 وبالنسبة للموقف الأمريكي في تلك الفترة من القضية الفلسطينية، فإن الوقوف عليه يكون من خلال معرفة خلفياته، حيث إن الرئيس جورج بوش الذي كان قد تولى حكمه حديثاً قد صعد إلى كرسي الرئاسة بقرار قضائي مما يدل على أن توليه السلطة كان ضعيفاً، والأمر الآخر أن بوش ينتمي إلى التيار الأصولي المسيحي الأقرب إلى الصهيونية أي إنه مسيحي صهيوني ذو خلفية دينية حتى إن ظهر بغير هذه الصورة، كذلك لم يكن في أولويات الرئيس بوش حل النزاع في منطقة الشرق الأوسط ، والحزب الجمهوري «الذي ينتمي له الرئيس» يتبنى فكرة ترك النزاع بدلاً من الدخول فيه وهو معقد ، كذلك فإن بوش كان في كثير من الحالات يميل إلى مناصرة الكيان الصهيوني حتى لو كان على حساب الأمن القومي الأمريكي .

 وبالإضافة إلى العوامل السابقة لدى الإدارة الأمريكية فإن الولايات المتحدة - بطبيعتها- تعيش على الدوام انتخابات مستمرة لا تقتصر بحال من الأحوال على الانتخابات الرئاسية التي تتم مرة كل أربع سنوات ، ومن هنا فإن بوش يستعد للانتخابات القادمة ، سواء كانت الرئاسية أو غيرها « مثل مجلس الشيوخ والنواب ومجالس الولايات وغير ذلك » ، وهذا ما يؤثر في السلوك السياسي للرئيس وإدارته معاً.

 ثم إن الأهم من ذلك أن اليهود يتولون مناصب مهمة وحساسة في إدارة بوش يستطيعون من خلالها توجيه السياسات الأمريكية لصالحهم، فمساعد وزير الدفاع الأمريكي هو صهيوني يدعى وولثز ، كذلك فإن المنصب الأكثر جدلاً الذي يتولاه يهودي هو « مجلس السياسات الدفاعية » الذي يرأسه ريتشارد بيرل وهو من أكثر المقربين للكيان الصهيوني ، بل إنه متهم بالتجسس لصالح «إسرائيل» والتعاون مع الجاسوس الصهيوني الشهير « بولارد » ولذلك فإنه يلاحظ أن وزارة الدفاع الأمريكية غالباً ما تتبنى المواقف الأكثر تشدداً في الإدارة الأمريكية والأكثر تطرفاً لصالح الكيان الصهيوني .

 إن البرنامج الذي أعلنه بوش فيما يتعلق بالشرق الأوسط لدى توليه رئاسة الولايات المتحدة يحدد أن العراق أولاً ؛ فقد أعلن بوش الابن أن مهمته الأساسية في الحكم تتمثل في إنجاز ما بدأه والده عام 1991 في الشرق الأوسط ، أما القضية الفلسطينية فلم تلق اهتماماً يذكر .

وبالنظر إلى آلية اتخاذ القرار في الإدارة الأمريكية فإن الحزب يتميز بوجود طرف فيه يتبنى « المسيحية الصهيونية » فالأصولية المسيحية إحدى أعمدته، وهذا الطرف المسيحي - الصهيوني في الحزب الجمهوري يمارس تأثيراً في السياسات إلا أنه لا يملي إرادته كاملة ، لأن السياسة الأمريكية حصيلة مساومات وتوازنات بين مراكز الضغط والقوى في كل مرحلة ، وهذا بالطبع مع ثبات الخط العام لهذه السياسة .

 حتى نتعرف على التغير الذي طرأ على القضية الفلسطينية بعد أحداث نيويورك وواشنطن يجب أن نعود إلى حال القضية الفلسطينية قبل أحداث الولايات المتحدة ، فعلى صعيد مسيرة التسوية مثلاً، عقد مؤتمر كامب ديفيد برعاية الرئيس الأمريكي في تموز من عام 2000، وكان مقرراً لهذا القمة أن تتوصل إلى الحسم النهائي في مسيرة التسوية ، وقد تم خلالها بحث كافة القضايا المتعلقة بالقضية الفلسطينية فتم بحث قضايا: الدولة ، واللاجئين ، والانسحاب والقدس، وتم حسم هذه القضايا والتوصل إلى تفاهم بشأنها ، وتم التوقف في النهاية عند أمر واحد فقط وهو طرح إسرائيلي شاذ لم يكن في حسابات أي من الأطراف وهو بخصوص المسجد الأقصى، حيث فوجئ الجميع بالطرح الإسرائيلي : «سيادة فلسطينية فوق المسجد وإسرائيلية أسفله».

 لقد كان كلينتون يأمل التوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية قبل انتهاء ولايته، وأظن أن باراك كان كذلك أيضاً، وكانت كافة التجاوبات الإسرائيلية مع مطالب الفلسطينيين بمثابة مقايضات، فما حصل عليه الجانب الفلسطيني في كامب ديفيد كان مقابل أمرين: الأول هو حق عودة اللاجئين ، والثاني هو القدس والمسجد الأقصى.

وبعد كامب ديفيد اندلعت انتفاضة الأقصى ليس كرد فعل على القمة الفاشلة في كامب ديفيد، فالانتفاضة لم تكن نتيجة قرار سياسي، وإنما بعد زيارة شارون إلى الحرم القدسي والتي كانت ترمي إلى محاولة التأكيد على أن القدس يهودية من الجانب الصهيوني .

وفي تلك الفترة تحول الإعلام الأمريكي إلى تبني المواقف الصهيونية بشأن المسجد الأقصى، فكان الإعلام الأمريكي يستخدم تعبير « جبل الهيكل » للإشارة إلى الحرم القدسي، أي أنه يتبنى المقولة الإسرائيلية.

وبعد كامب ديفيد حاولت الولايات المتحدة إنقاذ مسيرة التسوية من خلال مؤتمر طابا وذلك في محاولة أخيرة لفرض ما يتم التوصل إليه على الرئيس الجديد، وإضافة لذلك فقد طرح كلينتون مبادرة جديدة على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي كشف عنها في الثامن من يناير عام 2001 وتضمنت المبادرة تأسيس دولة في فلسطين مع حدود آمنة من جهة الأردن ؛ مع مراعاة الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية في وادي الأردن، وبالنسبة للقدس تضمنت مبادرة كلينتون أن تكون المدينة المقدسة عاصمة لدولتين ، ويتبين لنا من هذا أن مسألة الدولة الفلسطينية كانت واردة في السياسة الأمريكية قبل أحداث الحادي عشر من أيلول الماضي .

أما الأمر الذي فاجأ النظام الدولي بما فيه الحكومة الأمريكية والكيان الصهيوني فهو اندلاع انتفاضة الأقصى وهبة الشعب الفلسطيني لمواجهة الإرهاب الإسرائيلي ؛ فقد فتحت هذه الانتفاضة باباً جديداً في رسم خارطة مختلفة عما كان في السابق.

ثم في شهر تشرين الثاني من عام 2000 جرت الانتخابات الأمريكية، وكان فوز جورج بوش بمثابة إسقاط لمقولة إن الصوت اليهودي ذو تأثير كبير في حسم الانتخابات الرئاسية كون بوش صعد إلى سدة الحكم دون دعم الأصوات اليهودية الأمريكية.

وخلاصة الأمر إن الاعتراف بضرورة تأسيس الدولة الفلسطينية على سلم أولوياته، لكن أحداث 11 سبتمبر قلبت مفهوم الأمن الأمريكي ، وكانت فاصلة جداً، فالولايات المتحدة لم تتعرض لتهديد أمني داخلي حقيقي منذ تأسيسها وحتى الآن بما في ذلك أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية كما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001.

وقد برزت عقب أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة أصوات أمريكية وأوروبية تتحدث عن الدولة الفلسطينية.. فهل هذا يشير إلى تغيير في السياسات الدولية؟ ، كما أن أحداث واشنطن ونيويورك صنعت أكبر صدمة أمريكية، وفي مركزين هما الأهم سياسياً واقتصادياً.

 أما التساؤل: لماذا أيدت الولايات المتحدة مؤخراً قيام دولة فلسطينية، فإن الأمر الواضح أن سبب ذلك يعود إلى سعي واشنطن إلى تأييد الرأي العام العربي والإسلامي ؛ كونها تتقدم لعمل عسكري ، وهذا تماماً حدث في حرب الخليج عندما تحالفت أمريكا مع دول عربية لإضفاء الشرعية على هجومها الذي استهدف العراق ، أي أن أمريكا وأوروبا تحاولان احتواء الرأي العام العربي والإسلامي ، وكذلك لإيجاد المبرر الكافي بالنسبة للدول العربية حتى يمنحوا تأييدهم للحملة الأمريكية، فأمريكا في قرارة نفسها تعلم أن القضية الفلسطينية هي قضية مركزية لدى كل العرب والمسلمين ، إلا أن الأمر المهم أن الموقف الأمريكي الأخير المؤيد القيام دولة فلسطينية ولا يعبر عن توجه حقيقي ، بل هو آني ولحظي فقط .

بيئة الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية :

بالنظر إلى التساؤل المركزي وهو: ماذا تريد الولايات المتحدة من هذه المنطقة ؟ فإنه مع هجمة العولمة والحاجة إلى حرية حركة البضائع والخدمات ورأس المال والأفكار والثقافة ، ومع تقدم المشروع الصهيوني من طور احتلال الأرض والحاجة إلى السيطرة على السياسة والثقافة تولدت الحاجة بالنسبة للولايات المتحدة لتفكيك المنطقة ، وذلك لسببين هما: العولمة ونقل المشروع الصهيوني إلى طور أعلى . ومن هنا فإن ثمة أنظمة عربية تشعر اليوم بأنها أصبحت مستهدفة رغم أنها كانت لزمن طويل تقدم خدمات كبيرة للولايات المتحدة ، إلا أن الأخيرة تشعر بأن هذه الأنظمة قد استنفدت مهمتها.

ومن هنا يمكن أن نفهم الموقف الأمريكي والأوروبي من حركات التحرر الفلسطينية ضمن هذا السياق ، فالأوروبيون طلبوا من عرفات والسلطة تفكيك بنية حركتي حماس والجهاد بالكامل ، وهذا يؤكد الجانب الاستراتيجي المتمثل في تفكيك كافة العوائق أمام المشروع الصهيوني ، إن المطلوب الآن هو القضاء على كافة الحركات الجهادية في فلسطين ولبنان لأنها تشكل عقبة أمام المشروع الصهيوني .. وفي هذه الأثناء فإن عرفات لا يدرك حتى الآن بأن إسقاط الحركات الجهادية هو إضعاف لموقفه حتى في أثناء التفاوض .

والخلاصة التي أرغب في الوصول إليها أن الدولة الفلسطينية ليست بالضرورة انتصاراً ولا تناقضاً مع المصالح الأمريكية والصهيونية ، والحركات الجهادية بمختلف توجهاتها تشكل عائقاً حقيقياً أمام تقدم المشروع الصهيوني والأمريكي، وهذا هو محور الصراع الآن .

ويدرك الجانب الفلسطيني أن الحركات الجهادية مثل حماس والجهاد تخدم استراتيجياته، وأن علينا التفريق بخصوص هذه الحركات بين الموقفين الإسرائيلي – الأمريكي ؛ فالكيان الصهيوني يطالب بالإنهاء الكامل لوجود هذه الحركات ، إلا أن الموقف الأمريكي شهد تغيراً في الآونة الأخيرة تجاه الحركات الجهادية حيث لم يسمع أحد في السابق بأن الولايات المتحدة تعتبر حركات حماس والجهاد منظمات إرهابية إلا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول الماضي .

 رغم كافة المتغيرات التي تؤثر في صنع السياسة الأمريكية تجاه العرب إلا أن هناك ثابتاً هو نزع أوراق القوة من الطرف العربي والفلسطيني ومنح القوة للطرف الصهيوني ، وهذا الثابت غير المتحول في تاريخ السياسة الأمريكية والصهيونية في المنطقة ، وضمن هذا السياق مطلوب من ياسر عرفات التنازل عن كافة أوراق وعوامل القوة ومطلوب أيضاً تحييد الأنظمة العربية .

مستقبل القضية الفلسطينية في ظل البيئة الدولية :

لقد بدأت الولايات المتحدة تفكر بمنطق سياسي أكثر واقعية بلا شك بعد أحداث واشنطن ونيويورك، وقد اكتشف الأمريكيون الآن أن قضية فلسطين لا تزال مبرراً مشروعاً لدى الجماهير العربية للقيام بأي أعمال ضد الكيان الصهيوني والولايات المتحدة. من هنا اتجه الحزب الجمهوري لتبني ما توصل له الحزب الديمقراطي سابقاً فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية.

وكذلك فإن الأوروبيين في بيانهم أيدوا قيام دولة فلسطينية لإفقاد أي حركة عربية أو إسلامية أو غيرها ورقة قوية، وهي القضية الفلسطينية التي تحرك الشارع العربي والإسلامي ، ومن هنا أقول إن حجم التغير الحاصل بعد هجمات أيلول على صعيد النظام الدولي ينعكس على القضية الفلسطينية بشكل مباشر.

إننا نلاحظ الآن بأن العالم بدأ يتفق واقعياً مع الطرح الرسمي العربي الذي لا يجد أي مشكلة في وجود «إسرائيل»، بل إنه يطالب فقط بالانسحاب من الضفة والقطاع طبقاً للقرارات الدولية الصادرة بعد عام 1967.

أما الجانب الفلسطيني فلديه الآن فرصة تاريخية حيث إن الولايات المتحدة تحاول أن تعمل بالمقايضة بين سكوت العالم العربي عن حربها على ما تسميه « الإرهاب » مقابل التقدم في القضية الفلسطينية ، وهذه المقايضة بطبيعة الحال غير عادلة. والفلسطينيون اليوم أمام خيارين أولهما الرهان على الموقف الأمريكي والأوروبي ، وهو موقف محكوم بالسقف الإسرائيلي ، وثانيهما الاعتماد على الورقة الجديدة التي امتلكها الموقف الفلسطيني والتي لم يكن يمتلكها من قبل ، وهي المقاومة التي تهز البنية الأمنية للاحتلال وهي أقوى من الثورة الفلسطينية وأقوى من انتفاضة عام 1987 بحكم وجود قيادة ميدانية واحدة لهذه الانتفاضة الأخيرة وهذه المقاومة .

لم تكن هذه الورقة الفلسطينية القوية موجودة من قبل ، لذلك فإن الرهان الفلسطيني الآن جمد الرهان على الانتفاضة والمقاومة، علماً بأن المتابعة الدقيقة لتغيرات المجتمع الإسرائيلي والإحصاءات والبيانات المتوافرة تشير إلى أن هذه الانتفاضة الأخيرة لو منحت فرصة مناسبة لكان يمكن أن تجبر الجانب الإسرائيلي على الاستسلام للمطلب الفلسطيني في الضفة وغزة وشرقي ، وهذا لم يكن بحاجة لوقت طويل حتى يتحقق، والوضع الدولي حتى الآن يسمح بذلك.

إن المشروع الصهيوني يمثل تاريخياً قاعدة استعمارية ضد هذه الأمة لتجزئتها وإبقائها ضعيفة وهو المشروع الذي ما يزال ينمو سرطانياً فإما أن يقتلنا ويفتتنا ويغير هويتنا الحضارية أو يفشل في ذلك ولا خيار غير ذلك ، فهذا الصراع ذو طبيعة تناحرية ولا يمكن حله إلا بالعنف . ومن جانب آخر فإن المرحلة القادمة من الحرب على ما يُسمى « الإرهاب » تقتضي إعادة تنظيم المنطقة بحيث يسهل فرض الشروط السياسية للطرف الصهيوني - الأمريكي فيما يُسمى « العملية السلمية » ، وبالتالي أتوقع في المستقبل تصعيد الصراع في المنطقة وإذا ما تم التوصل إلى حل فسيتم بالشروط الأمريكية والصهيونية ، وبالتالي سيهيئ البيئة لمزيد من الصراع.

ان الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وحلفاءهما لن يقبلوا بتأسيس دولة تكون مكسباً للفلسطينيين ، فهم لن يسمحوا بإيجاد موطئ قدم يستخدم ضدهم ، بل على العكس هم يريدون الدولة الفلسطينية موطئاً لأقدامهم، فدون تحقيق شروط ضرب المقاومة وتفكيكها وإضعاف الدول العربية لن تقوم دولة فلسطينية.

البيئة الدولية والتدخل الدولي من اجل السلام: 

 السلام ليس مجرد رغبة أو أمنية تتطلع إليها الشعوب التى تبحث عن حريتها المفقودة في زمن تحكمه القوة والمصالح الوطنية للدول ، بل هو عملية جماعية تحتاج إلى إرادة وفعل دولي حقيقي قادر على كبح جناح النزاعات الوطنية لدول القوة والتي ما زالت ترى فى القوة ألأداة ألأكثر حسما لمصالح الدول التى تأتى غالبا على حساب ألسلام والأمن الدوليين ومصالح الدول الصغرى وحتى على حساب الشرعية الدولية التى جسدتها المواثيق الدولية وفى مقدمتها ميثاق ألامم المتحدة . والسلام كالقوة لا يوهب ولا يمنح ، وإنما يصنع ويخضع لاعتبارات ومعايير كثيرة . ولعل الدارس للنزاعات الدولية وأدبيات بناء السلام يلاحظ أن عملية بناء السلام ما زالت مرهونة بدرجات متفاوتة بعوامل القوة وموازين القوة التي تحكم العلاقات بين الدول وهذا ما يفسر لنا ضعف ألأمم المتحدة فى تحقيق أهدافها فى السلام وألأمن الدوليين وضعف الشرعية الدولية كقاعدة أساسية للتفاوض وتحقيق السلام القائم على توازن الحقوق ، ولعل هذا التفسير هو الذي يفسر لنا فشل الجهود الدولية فى تحقيق السلام فى المنطقة وتسوية الصراع العربي الإسرائيلي وهو ما أفقد الدور ألامريكى مصداقيته وفاعليته فى كل الجهود التى تبذل من أجل تحقيق السلام وتسوية هذا النزاع المركب والممتد . ولعل السبب ألاخر الذى يفسر لنا تعثر هذه الجهود هو أن الصراع في نشأته وتطوره تحكمه القوى الدولية أكثر من تأثير القوى الإقليمية وحتى الطرفين الرئيسيين الفلسطينيون والإسرائيليون ، ومن العوامل المهمه في تفسير فشل الجهود الدولية في تسوية هذا الصراع ارتباط القضية الفلسطينية بالقضايا المحورية في المنطقة فهي بمثابة القضية المركز لكل القضايا التي تحكم علاقات دول المنطقة المجتمع الدولي كما هو الحال بالعراق وقضية الإرهاب الدولي وتنامي القوى الإقليمية كإيران على سبيل المثال .

 وأمام هذا الوضع استغلت الحكومة الاسرائيلية الفرصة للتكثيف من تضييقها على الفلسطينيين واغتيال رموز المقاومة وقصف مؤسسات السلطة واقتحام المدن والقرى والمخيمات ومحاصرة الرئيس باسم وقف «الارهاب» والتبرؤ من الاتفاقيات السابقة وحصر التفاوض حول الانسحاب إلى ماقبل 28ايلول 2001.