المراكز الحضاريّة والثقافيّة
(دورها·· ورسالتها)
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
نحن في عصر تلاشى فيه مفهوم المراكز الحضارية والأطراف، سواء على مستوى الوطن المحلّي أو الوطن الكبير أو العالم. ذلك أن ثورة الاتصالات المعاصرة قلّصت المسافة بين البلدان، وبين مراكز الإشعاع الحضاري وأقاصي الأرض.
إلاّ أن ذلك التقارب المعرفي بين الأُمم والبلدان والبلدات لا يتمّ في ظل غياب إعلاميّ حيّ، يواكب الأحداث الثقافيّة، بما يتجاوز مجرد نشرات صحفيّة، أو متابعات إخباريّة، لا تُسمن ولا تغني من جوع. ودور الإعلام اليوم ليس الإخبار فحسب، ولكن أيضًا قنطرة المسافة بين الحدث ومتابعيه بشكل مباشر. وما لم يحدث هذا فستظلّ معظم الفعاليّات المقامة في مدن المملكة- على سبيل الحصر- احتفاليّات بلا ثقافة، لا لتزامنها أحيانًا وتعذّر حضورها فحسب، ولا حتى لطبيعة ما يُطرح فيها ومدى جدّيّته وجدواه، ولكن كذلك لعدم خدمة الإعلام نشاطَنا الثقافيّ بما يكفي. إذ من اللافت أن الإعلام الذي يتفرّغ تمامًا لبثّ المواسم الرياضيّة، أو لبثّ الفعاليّات الفنّيّة، فيفرد لذلك الساعات الطويلة مسموعة ومرئية، في قنوات الرياضة وغير الرياضة، ويسخر له الصفحات الكثيرة الملوّنة المثيرة الجذّابة، لم ير بعد أن من واجبه الحضاري والتاريخيّ والإنسانيّ والاجتماعيّ والتربويّ أن يفعل مثل ذلك أو بعض ذلك للفعاليات الثقافيّة.
والثقافة في بلادنا لم تعد محصورة في مراكز، بل الثقافة في جوهرها إنما تعني التنوّع، لا التنميط في قوالب محدّدة أو مواطن دون غيرها. الثقافة ماء الحياة وهواؤها، ولكل محافظة أو مدينة أو قرية ما يمكن أن تتفرّد به وتقدّمه. وقيمة الوحدة الوطنيّة تكمن دائمًا في التنوّع، وإلاّ فلا معنى لوحدة ما دام النمط واحدًا. وعليه، فإن القناة الثقافيّة السعوديّة- التي دشّنت منذ أسابيع، وكان إنشاؤها مقترحًا ناديتُ به منذ سنوات، كما طالبتُ به وزير الإعلام السابق حين حضوره إلى مجلس الشورى، والتي أصبح حلمها اليوم واقعًا- ينبغي أن تواكب النشاطات المتعددة في أرجاء المملكة. ذلك أن الثقافة بطبيعتها تتنافى مع المركزيّة المطلقة. وهناك زخم ثقافي محلّيّ يعوزه التوثيق والبثّ الإعلامي، كذلك الذي يجري من خلال مهرجانات مهمّة، كمهرجان الجنادرية في الرياض، ومهرجان سوق عكاظ في الطائف، وغيرهما، إضافة إلى معارض الرياض الدولية للكتاب وفعالياتها، والنشاطات السنوية للجوائز العلمية والفكرية والأدبية، وفي طليعتها جائزة الملك فيصل العالميّة، وكذا فعاليات التنشيط السياحي في مدن المملكة المختلفة، وأنشطة الأندية الأدبية الثقافيّة، إلى غير ذلك. كل ذلك غذاء ثقافي متنوّع يمكن أن يُستثمر، في مسعى إلى جعل الثقافة رئة وطنيّة، وجسرًا عالميًّا، وأن تظلّ أنشطة المراكز الثقافيّة وغير المراكز نتاجًا إبداعيًّا مستدامًا ومستمرًا.
يجب على إدارة الشأن الثقافي أن تتوخّى تنظيم الفعاليات الثقافيّة على نحو عصريّ فعّال، فيه مراعاة لتعقيدات الحياة اليوم، وذلك بإتاحة تلقّي الثقافة على نطاق واسع، وبأسلوب يواكب المستجدّات، بحيث لا يُحرم كثيرون من متابعة الأنشطة المختلفة والإفادة منها، لأنها تقام متزامنة، أو لتعارضها مع ظروف المواطن، أو لبعدها عن مكان إقامته.
لذلك كلّه فإن المراكز الحضاريّة- مع التحفّظ على هذا المصطلح- لن تؤدّي دورها بالدرجة المطلوبة ما لم يُستثمر الإعلام ووسائل التقنية الحديثة بدرجة جيّدة في نشر ما يعتمل في تلك المراكز من أنشطة ثقافيّة، وهذا أمر جدّ حيويّ لا على المستوى الثقافيّ فحسب ولكن أيضًا على مستوى توطيد اللُّحمة الوطنيّة والإسهام الثقافيّ العالميّ.