درس من الإخوان
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
انتهت الأحداث الخاصة بالتغيير القيادي في جماعة الإخوان المسلمين ، على عكس ما كان
يتوقع النظام وخصوم الفكرة الإسلامية ، لم تنشق الجماعة ولم تتمزق ، ولم تؤثر
الحملات الهوجاء التي شنها النظام وأبواقه والمستفيدون منه في إخفاق تجربة الشورى
الرائدة التي شهدت عليها الدنيا في ظل أوضاع حكومية قمعية تسلطية ، تؤصل للاستبداد
، وتعمق الجمود ، وتعوق التطور والحركة إلى الأمام .
راهن البعض أن المرشد السابع سيخضع للرجاءات أن يعدل عن قراره بالانصراف ، وترك
المجال لغيره كي يؤدى دورا يجدد الخلايا ، ويمثل قاطرة أكثر شبابا وحيوية ، وفقا
لمنهج السنن التي فطر الله الناس عليها ، أن يخلف جيل جيلا آخر .. ولكن الرجل أصر
على تنفيذ قراره ورغبته وتقديم درس للقيادات السياسية والحزبية والفكرية والإدارية
، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم العربي جميعا ، مضمونه موجز وعميق ، وهو أن
التغيير ضرورة إنسانية وخلقية لابد منها حتى يستمر النظام العام في السير قدما نحو
تحقيق الأهداف والغايات .
لم
يكن هناك مجال للأمان أو الاطمئنان لإجراء انتخابات المستويات القيادية المختلفة ،
فالحصار الأمني أو القبضة البوليسية بالمرصاد لأفراد الجماعة ، والاعتقالات لا
تتوقف ، والتحقيقات مستمرة ، ومع أن الناس يتوقون أن تكون هذه الملاحقات الأمنية
للفاسدين المفسدين ، إلا إن هؤلاء محصنون ، ويمتلئون سمنة وتضخما مع مطلع كل صباح .
بيد
أن التجربة الإخوانية مع ما رافقها من اجتهادات وآراء وصل بعضها إلى حد الاحتجاج أو
المغاضبة ، لم تؤثر في بنيان الجماعة ، وتذكر جميع من يعنيهم الأمر أن الإخوان
ليسوا حكومة ، ولا مؤسسة حكومية ، يتصارع الناس على مكاسبها ومغانمها بالوسائل
المشروعة وغير المشروعة ، بل تذكروا وعرفوا من قبل أن المناصب القيادية في الإخوان
غرم لا غنم ، وأصحابها مستهدفون من النظام وقبضته الفولاذية وأبواقه التي لا تقول
الصدق أبدا ، ولا تكف عن التشهير بالباطل ، واستطاع المرشد السابع في كل الأحوال أن
يقدم درسه للأمة بترك منصبه اختيارا وهو يقدم المرشد الثامن في هدوء ، وثقة ، ووعي
بأن القضية الأساسية هي الإسلام وخدمته والتضحية في سبيله أمام حروب الاستئصال ،
والتغريب ، وسلب الأمة حريتها وكرامتها وحلمها ببناء مستقبل أفضل .
تجاهل الإعلام الرسمي مواقف عديد من قيادات الإخوان ورفضهم لتحمل مسئولية القيادة
وأعبائها الجسيمة ، واعتذارهم عن عدم القبول بالمناصب ، وهي أمور لا تحدث في واقع
الحياة العامة ، حتى صارت صورة ( عبده مشتاق ) نموذجا حاكما في مواقع القيادة
والإدارة على كافة المستويات ، ولا أظن أن الجماعة تعرف هذا النمط من الباحثين عن
لقب إداري يضاف إلى ألقابهم العلمية أو المهنية أو العملية .. فمن تربي على التضحية
والإيثار تطبيقا لمنهج " إن أجري إلا على الله " ، لا يمكن أن يقاتل من أجل منصب في
مجلس الشورى أو مكتب الإرشاد أو منصب المرشد ذاته .. ولكن القوم في النظام والسلطة
عالجوا المسألة من منظورهم ، واهتموا بما يقال عن خلافات واحتجاجات وانشقاقات من
خلال بعض الأفراد الذين استهلكهم الإعلام الخصم ، وظنوا أن الخلاف في الرأي على بعض
الوسائل أو الأساليب أو تفسير اللائحة ، يمكن أن يحقق لهم حلمهم بتمزيق الجماعة ،
والاستراحة من ملاحقتها ، ورضا المؤسسة الاستعمارية الصليبية وتابعتها الصهيونية .
ومن
المفارقات أن القوم كانوا دائما يتهمون الإسلاميين بالجهل والتخلف وعدم الوعي
بالواقع وما يدور في العالم ، فضلا عن اتهامهم بالتسلط ومنهج الطاعة العمياء ، فإذا
بالتجربة التي خاضها الإخوان تقدم نماذج مضيئة ، لأهل العلم والرأي ، الذين يعملون
في أدق التخصصات ، فالمرشد الثامن من أفضل مائة عالم في مجال الطب البيطري ،
وأولاده الثلاثة يعملون في تخصصات علمية دقيقة ، والرجل في الدائرة الاجتماعية صاحب
دور بارز في مجال العمل الأهلي من خلال النقابة والجمعيات التي تخدم جمهورا خاصا أو
عاما ، ثم إنه يدفع ضريبة الاستبداد السياسي الذي يمارسه النظام اعتقالا وحرمانا ،
ولكنه لا يأبه لذلك ويواصل التضحية والإيثار ابتغاء مرضاة الله.
إن
الإخوان مجموعة من البشر قد يصيبون وقد يخطئون ، وهي جماعة تقبل المراجعة والتصحيح
، وقد كنت في السبعينيات أناقش الأستاذ عمر التلمساني – رحمه الله – في بعض القضايا
، وكان ياسر عرفات - رحمه الله - يشكوني إليه بسبب ما أكتبه عن سياسة منظمة
التحرير في مجلة الدعوة ، ولكنه كان يرد عليه بقوله : إن ما ينشر في الدعوة هو رأي
الكتاب ، وليس رأي الإخوان ، وكان - رحمه الله - يستمع إلى الآراء برحابة صدر ،
ويبدى وجهة نظره بهدوء شديد ودون عصبية أو انفعال نراه لدى أصحاب المناصب الحكومية
أو الإدارية ، وكان في الأسبوع الأول من كل شهر يعقد جلسة يحضرها محررو الدعوة
وكتابها لمناقشة مستوى العدد الجديد الذي يطالعه الجمهور ، ويستمع إلى الآراء
الناقدة للسلبيات في العدد بدءا من شكل الغلاف ومحتوياته حتى الصفحة الأخيرمرورا
بمضمون المقالات وأسلوب العناوين والخطوط المستخدمة في الطبع ....إلخ . وكان يقر
مايراه الحاضرون صوابا في أبوة حانية ، مبتعدا عن فرض الرأي ، أو الغضب مما يقال .
ويقيني أن التجربة التي خاضها الإخوان مؤخرا ستمنحهم مزيدا من الخبرة التطبيقية في
ممارسة الشورى ، بالإضافة إلى ثراء الرؤى والأفكار التي تقربهم إلى جمهور الأمة ،
والتفاعل مع القوى الاجتماعية والفكرية بما يضيف إلى تراث الجماعة ويغذيه بالحيوية
والرسوخ .
وأظن أن المهمة الرئيسة أمام الجماعة في المرحلة القادمة هي الإسهام الفعال في بناء
الإنسان المصري روحيا وفكريا ، بعد أن جردته السلطة من الانتماء الروحي والوطني
والقومي ، وحولته إلى مجرد هيكل جسدي فارغ من القيم والأهداف اللهم إلا الإشباع
المادي والشهواني ..
لقد
انتهى التعليم الإسلامي من الأزهر والتربية والتعليم . الأزهر لا يحفظ طلابه القرآن
، وتحولت مواده الشرعية إلى هوامش مسطحة لا يتم تدريسها بجدية ، ووزارة التعليم
ألغت حصة التربية الإسلامية عمليا لحساب المواد الأخرى أو الدروس الخصوصية ، ونشأت
أجيال على مدى نصف قرن من الزمان لاتملك معرفة شرعية أو إسلامية تؤهلها للوعي
بالحلال والحرام ، فانتشرت المفاسد والانهيارات الخلقية والفكرية على النحو الذي
ألحّ عليه الكتاب طويلا ..
إنني أطرح في هذا السياق التجربة الإسلامية التركية من خلال جماعة سعيد النورسي
ورسائل النور ، حيث استطاعت أن تبني جيلا تركيا مسلما ، يطبق الإسلام أكثر مما
يتكلم عنه ، ويشتبك مع الواقع الاجتماعي في التعليم والتربية والنظافة والعمل
الإنتاجي والبناء الاقتصادي والفكري والثقافة الإسلامية .. في إطار شامل ، ويركز
على الشباب من الجنسين ، ويتجاوز الصدام مع الواقع المعاكس ما استطاع إلى ذلك سبيلا
، متحليا بالصبر والنفس الطويل ، وهو ما قدم للأمة الإسلامية في تركيا جيلا جديدا
يملك مفاتيح الإيمان والمعرفة والقوة الاجتماعية التي صارت النموذج الذي يشد إليه
المدرسة العلمانية بجبروتها وإمكاناتها الغلابة ، ويخضعها لمنهجه طوعيا وتلقائيا ..
إن
بناء الجيل الجديد فريضة واجبة تسبق كل الأولويات ، وهذا البناء لن يختلف عليه أحد
، وسوف يجذب مفردات المجتمع بطريقة وأخرى ، وهو ما يعني اقتراب الأمل بوجود مجتمع
يصنع المستقبل ، ويحقق الحرية والكرامة لأبنائه جميعا .
إنني أحيى المرشد السابع على الدرس العظيم الذي تلقته الأمة كلها ، فقد ألقى الكرة
في ملعب السلطة وخصوم الفكرة الإسلامية .. واتمنى له عمرا مديدا يستمتع فيه بخدمة
الإسلام بعيدا عن المنصب الرسمي .
كما
أحيى المرشد الثامن ، وأدعو له بالتوفيق في حمل الأمانة ورعايتها ، وقيادة سفينة
الدعوة إلى بر الأمان ، وجمع شمل الإسلامين وليس الإخوان وحدهم على منهج الوحدة
والتكامل .. والله من وراء القصد .