المثقف العربي أمام دور ريادي ينتظره

صادق جواد سليمان*

محاضرة تحت رعاية جمعية الكتاب والأدباء العمانية

شكرا على الاستضافة لهذا الحديث ... أمام جمعكم الكريم ... في مدينتكم العريقة ... التي منها انبعث العهد   الموصول بحاضرنا الراهن... منذ مائتين وخمسة وستين عاما.  وقت ذاك، خلال أربعة عقود حافلة بالأحداث،  عبر مد وجزر في الوضع الوطني، بين فترات استقرار وفترات اضطراب، رستاق، في المؤدى الأخير، أولت مسارنا الوطني وجهة وحدة واستقرار وتطور.  من بعد عثار كاد أن يسلُب الوطن ليس وئامه السياسيَ-الاجتماعيَ فحسب، بل أيضا استقلالَه السيادي، مدينتكم، على يد الإمام أحمد بن سعيد، من بعد النصر في  صحار، وفت بهذا الدور الوطني الحاسم ... بامتياز. (1)      

سعيد أنا أيضا أن نتناول في حديثنا هذا المساء، في هذه المدينة العربية العصماء، موضوعا يتجاوز اهتمامنا الوطني في حد ذاته – مع أنه لصيق باهتمامنا الوطني على أي حال ...  يتجاوزه إلى اهتمام عربي أعم.  ذلك أن المثقف العماني صميما مثقف عربي: ما يعنيه وطنيا يعنيه أيضا على صعيد الوطن العربي الكبير.  المثقفون العرب في جميع أوطانهم ينهلون من ثقافة عربية واحدة: إطارها العروبة ومضمونها الإسلام.  العروبة تتجاوز العرق واللون، وحتى الدين، والإسلام، بعُرضه الحضاري، يستوعب ثقافيا وحضاريا من العرب من ليسوا مسلمين.

الإرث العربي الإسلامي إذاً قاسم مشترك بين أبناء وبنات الأمة العربية، أيا كانت خصوصياتهم، وأنى  تواجدوا، أكان في مواطنهم الأصلية أو في مهاجرهم المتفرقة في الشرق والغرب. خلاصة القول: يصعب تصورُ قِوامٍ ثقافيٍ حضاري لأي مجتمع عربي من دون التواصل مع هذا الإرث الأصيل ... من دون الاستقاء من معينه الأدبي المعرفي الثر ... ومن دون الاستبصار بما استُودع هذا الإرثُ من بصائر للأمة العربية، بل للإنسانية جمعاء.

من هنا عنوان هذا الحديث: المثقف العربي أمام دور ريادي ينتظره.  بالمثقف العربي أقصد الشخصَ العربيَ الموفورَ في معارف عصره وأعراف أمته، ومَن بذلك يمتلك جدارة التمييز معرفيا بين ما هو صحيح وخطأ، نافع وضار، صالح وفاسد.  وبالدور الذي ينتظر المثقف العربي، أقصد الدورَ الرياديَ وليس بالضرورة  الدورَ القيادي. ذلك أن بين القيادة والريادة تمايز مفيد ذكره. القيادة تنطوي على تولي زمام الأمر العام فعلا، سياستِه، واتخاذِ قرارت إزاء مختلف تفريعاته التنظيمية وتطبيقاته العملية.  الريادة لا تنطوي بالضرورة على أي من ذلك.  إنها بالأحرى وظيفة استطلاعية تبصيرية:  بمعنى أن الرائدَ، من موقع معرفيٍ متقدم، بالشأن الوطني كما بالحراك العالمي، يشرح ما عليه الأمورُ والأحوال، يستقرئ سياقاتها المستقبلية، ويبصر قومه فيما ينبغي أن يعملوا لأجل تحقيق مصالح من خلال فرص تسنح، واجتناب مضار من خلال مخاطر تُحتمل.     

إجمالا، الدور الريادي الذي أراه ينتظر المثقفين العرب في جميع أوطانهم هو أن يتدارسوا الواقع موضوعيا على ما الواقعُ عليه، لا أن يظلوا متذمرين منه ومتعاجزين إزاءه ... أن يستطلعوا المستقبلَ على ما يتبلور نحوه فعلا، لا أن يبقوا حالمين بما يرغبون أن يتحول المستقبل إليه، أو متمنين أن يعود الحاضر على شاكلة ماض تليد ...  بقدرة قادر!  في ضوء مثل هذا النظر الموضوعي للأمور والأحوال،  بمثل هذه الرؤية المحسوبة بدقيق التفنيد والتحليل، على مثقفينا أن يبصروا الأمة بما يرون ويتوقعون، وينصحوا شعوبهم بما ينبغي أن تخطط له وتقبل عليه، وما ينبغي أن تعرض عنه وتحاذر منه ...عليهم أن يضعوا أمام الأمة رؤى سليمة لما هو واقعٌ معطوب ولما هو مستقبل منشود. (2)  وهم في ذلك، كما قيل قديما في أدبنا المأثور ... همُ الرائد الذي لا يكذب أهلَه.       

من الريادة تنشأ القيادة، وعلى مثقفينا أن يمارسوا الريادة لكي يتأهلوا للقيادة.  بتعبير آخر، على مثقفينا أولا أن يفكروا للأمة، ويعرضوا أفكارهم بدقة ووضوح، فالأمة التي لا يفكر لها أبناؤها وبناتها تنقاد لما يفكر لها الغرباء.  والأمة التي تهمش دور الفكر في حياتها تُهمّش عملياً دور العقل لتحلَّ مكانه الغرائز والانفعالات فتصبح الشعوبُ أدواتَ فتنٍ وضحاياها في آن واحد، وتتحوّل الأوطان إلى بؤرِ صراعاتٍ مهلكة تسهم في تأجيجها قوىً متربصةٌ معادية. (3)

بهذه التوطئة أدخل صلبَ موضوع هذا الحديث، وسأوجز ما تبقى لدي من قبيل التفصيل لأجل إفساح الوقت، ما أمكن، للحوار.  فعهدي – من خلال خبرة على مدى سنوات بمركز الحوار بواشنطن، الولايات المتحدة – أن الحوار التفاعليَ لطالما يستظهر أبعادأ وإشكالياتٍ للقضايا قيدَ البحث ويبلورها لمدىً أوسعَ وأدق مما يأتى به المحاضر بادئ الأمر. مركز الحوار هذا، منذ تأسيسه عام 1994، يعمل بقناعة أن الفهم يجب أن يسبق الرأي، وأن سلامة أسلوب الحوار أساس لإنجاح الحوار.

عودا للموضوع بشيء من التفصيل:  الدورُ الرياديُ الذي ينتظر المثقف العربي، بنظري، يتألف من شقين: شق يتصل بإعداد الذات نفسيا ومعنويا لأداء الدور المنتظر بنجاح، وشق توأم يتصل باعتماد وتفعيل عناصر التمكين  للدور المنتظر.  

الشق الأول يطالب المثقف العربي بالغوص في الذات لاستظهار ما في جوفه من مكنة واقتدار، وهذا يستدعي منه، ابتداء، تعريةَ واقعِ التخلف المعاش، لا التسترَ عليه أو التحرجَ منه.  التخلف الذي تعيشه الأمة العربية في مختلف استحقاقات الشأن الإنساني بمعايير هذا العصر فادح وخطير، لحد يصعب تصور محوه، أو حتى حسره،  إلا بمجهود جامع، دائب، جسيم.  كيف تراكم التخلف من بعد ريادة مشهودة كانت لهذه الأمة عالميا في عصر سبق ... تساؤل لعلنا نتوقف عنده تفنيدا وتحليلا في يوم آخر.  لكن بيتا للطغرائي من ماض قديم يظل يستحضر نفسه في ذاكرتنا الجماعية كلما تأملنا بأسىً هذا الواقع الراهن -  قوله:  

تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي لو أمشي على مهل ...

أذكر أنني حين شرعت أقرأ من لامية العجم للطغرائي في أمسية أدبية بمركز الحوار في واشنطن قبل سنوات، لمحت وجوما يعتري الوجوه ... فلما وصلت إلى بيت لاحق:  

أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيقَ العيشُ لولا فسحة الأمل ...

انفرجت الأسارير.

في الشق الثاني، المثقف العربي مطالب بريادة تتسم بعزم وصبر ... مطالب بعملية بناء ذاتي ... عمليةٍ جامعة، دائبة، زاخرة مستنيرة، تعتمد، كأمر أساس، الثلاثيَ المقومَ والمنميَ للحياة على صعيد الفرد والمجتمع بسواء:  أقصد بذلك ثلاثيَ المعرفة المحققة، المنطق العقلي، الانضباط الخلقي.

المعرفة، كمقوم ومنم للحياة، نتاج إنساني مشترك، تداورت على بلورتها الحضارات من خلال تسابق وتقابس جيلا إثر جيل، حتى أوصلتها حيث محتواها ومداها اليوم.  مضمار المعرفة مفتوح أبدا أمام التوسع والتعمق: في عصرنا المعرفة تتضاعف في الرصيد الإنساني كل عام من خلال أبحاث معمقة، موسعة، مستمرة ... أبحاث في شأننا الإنساني، في الطبيعة المحيطة بنا على هذا الكوكب، وفي الفضاء الخارجي.  في عصر خلا كان للأمة العربية سبق معرفي حين قادت الحركةَ المعرفية بأبحاث رائدة على مدى عدة قرون، عبر تعاقب أجيال من العلماء.  في عصرنا، خليق بالمثقف العربي أن يحي صلته التاريخيةَ الأصيلةَ بالمعرفة، ويسعى لابتعاث دور أمته في المضمار المعرفي من جديد.

بذلك أقصد تكثيف الاهتمام عربيا باقتباس معارف العصر، ليس تحديدا من الغرب، وإنما عامة من  الأمم ذات التميز المعرفي.  في هذا الصدد، تعاملا مع الجدلية الرائجة في خطابنا العام بين الأصالة والحداثة، جدير أن نتذكر أن المسلمين في القرون الإسلامية الأولى حين أقبلوا على الاقتباس المعرفي من الحضارات الأخرى – اليونان، فارس، مصر، الهند، الصين – لم يُعنَوا كثيرا بالخصوصيات الثقافية لشعوب تلك الحضارات، كآدابها وفنونها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها -  وإنما انفتحوا على معارفهم بثقة، دونما تحفظ أو تردد.  بذلك، على ما اقتبسوا،  بنوا صرحا معرفيا باجتهاد ذاتي  سرعان ما فاق محتوى ما اقتبسوه بادئ الأمر. هذا درس جدير أن يوعى عربيا في هذه المرحلة التي لا زلنا فيها بموقع المتلقي للمعرفة المنتجة لدى الآخرين.   

جدير أن نلاحظ أيضا أن تعطل قابليات إنتاج المعرفة المعاصرة ذاتيا ضمن الثقافة العربية يشكل أحد أخطر أسباب ضمور اللغة العربية في المجال المعرفي. من هنا ضرورة تركيز العناية بالعربية لتأهيلها لاستقبال واستيعاب المعرفة المتبلورة في عصرنا – تلك المتدفقة طردا على قدم وساق.  من هنا دعوتي أن يأتي  اقتباسنا للمعرفة المعاصرة مقرونا بتعريب المقتبَس على نحو متزامن، كي تتأصل المعرفة في ثقافتنا، لا أن تبقى على هامش منها، خارج لساننا العربي. على منهاج التعريب المتزامن جرى الاقتباس لدى المسلمين في القرون الإسلامية الأولى، الأمر الذي لاحظه العالم الجليل أبو الريحان البيروني الذي عاصر تلك التجربة وأسهم فيها بامتياز ... بقوله:  لقد كانت العلوم تدخل العربية من كل حدب وصوب، فإذا دخلتها اكتسبت جمالياتها، فأضحت بذلك أكثر تشويقا لطلبة العلم.  

مع الاقتباس المعرفي يكون اعتماد المنطق العقلي.  المنطق العقلي كمقوم ومنم رديف للحياة، ينطوي على التحقق، والتفكر والتأمل، والتدبر والتبصر: ملكات من النظر ميزتها العربية في معرض تأكيدها على دور العقل في الاستنباط والإستبصار. المنطق العقلي، بذلك، يرجح الاجتهادَ لسلامة الرأي، ويرجح العملَ لرصانة الأداء. إنه يربط الأمور بعللها فلا يدع مجالا لنزق وشطط، ويعري الواقع على علاته، فلا يدع مجالا لتورية وتحريف. والمنطق العقلي، من بعد ذلك، يمكن موضوعيا ومنهجيا من التصحيح والتقويم والتحسين باطراد، كل ذلك جهارا ودون حرج.

على الاقتباس المعرفي والمنطق العقلي يهيمن الانضباط الخلقي.  الانضباط الخلقي، كمقوم ومنم للحياة، يصون النفس والغير، ويعصم الوسيلة والغاية في المسعي الإنساني المعرَض أبدا لمزالق الهوى والحمق، والمتأثر مرارا بعوامل الرضى والسخط.  في ميزان الانضباط الخلقي، الحكمة لا الشطارة، والاستقامة لا الوجاهة، هما الموصلان  للسداد والفلاح في المؤدى الأخير.  بعثت لأتمم مكارم الأخلاق: بذا لخص الرسول الأعظم مهمته. وإنك لعلى خلق عظيم، بذا خوطب في القرآن المجيد.  في عصرنا المتشوه بكثير من الكذب، والمضطرب بكثير من العنف، الانضباط الخلقي عمليا أجدر أن يكون بالالتزام بثنائي الصدق واللاعنف، ذلك المنهاج الشجاع الذي برهن مهاتما غاندي نضاليا في الهند نجاعة تأثيره في إحقاق الحق وإزهاق الباطل مهما تتطاول الباطل بادئ الأمر.    

 باعتماد مرجعية هذه المنظومة الثلاثية المقومة والمنمية للحياة – منظومة المعرفة المحققة، المنطق العقلي، الانضباط الخلقي – يُكسر الإحباط، ويُستولد فهم عربي للذات أوضحُ استبصارا  للأمور، أكثرُ اقتدارا على التعامل مع الواقع الراهن، وأنشطُ إقداما على اقتباس واستثمار معطيات العصر.  بذلك، نفسيا وموضوعيا، يستطيع المثقف العربي تمكين أمته من البناء واللحاق: يستطيع ذلك بدفع التوجه نحو إنماء القدرات والمهارات، إستصلاح المؤسسات، ترشيد مهام الحكم، تعزيز الاستقرار، تفعيل التنمية الإنسانية ... كلِ ذلك في الخبرة القومية عامة على امتداد الوطن العربي الكبير. في جميع ذلك جدير بالمثقف العربي أن يتواصى بالحق ويتواصى بالصبر، أن يجاهد ويثابر، وفي كل الأحوال أن يتحلى بتواضع المقتبس المجتهد المستنير. 

بهكذا تصويب لنظره، بهكذا توجيه لجهده، بهكذا ترشيد لدوره في تسديد خطى أمته،  يستطيع المثقف العربي إزالة ما أمته عليه من عجز وتعاجز، وما هو نفسيا عليه من تأزم وإحباط.  عندها، الأصالة والحداثة لديه تخرجان من دائرة تعارض متوهَم، وترتدفان ضمن مرجعية موحدة: مرجعية ما هو حقيق في الطبيعة، صحيح في المدرَك العقلي، متسق بالضابط الخلقي، نافع للوطن والمواطنين، وصالح للإنسانية جمعاء ... كل ذلك ليس ادعاءً بزخرف القول،  بل مُبرهَناً بخير يدر عربيا للنفس والغير. 

ذلك، على ما أرى، هو الدور الريادي الذي ينتظر المثقف العربي ... وعساه بهكذا تمكين لنفسه وتفعيل لدوره في جميع أوطانه، يرود أمته ريادة حضارية من منظور يحضن ضمن الوطن المواطنينَ كافةً في تواؤم وتضامن، على تكافؤ ودون تمييز يفارق بين الناس فيما الناس فيه سواء ... وفي أعمَ من ذلك، منظورٍ يصون حرمة الإنسان وكرامته، ويسهم في إنماء الشأن الإنساني ككل. دور المثقف العربي عندئذ، كما دور وطنه ودور أمته، سيغدو عالميا دورا  ناصعا موفور الخير للنفس، وفير الخير للغير ... دوراً عامرا، ثامرأ، حصيفا، ذا عطاء حميد مستدام. (4)     

              

(1) الإشارة في هذا المطلع هي إلى عهد الإمام أحمد بن سعيد، مؤسس حكم السادة الألبوسعيديين في عمان منذ عام 1744. (السلطان قابوس بن سعيد، سلطان عمان الحالي، هو الحاكم الرابع عشر من الأسرة).  أحمد بن سعيد كان واليا على مدينة صُحار الساحلية عندما نزلت قوات فارسية في عُمان بدعوة من أحد أطراف نزاع داخلي، ثم حاولت الاستيلاء على السلطة وتكريس الاحتلال.  إزاء ذلك، لما أبدى من مراس عسكري وبسالة في محاربة الفرس وطردهم من البلاد، وأيضا لما اتصف به من سعة الصدر وجم الكرم ولين الجانب تجاه الفقراء والمساكين، بويع أحمد بن سعيد إماما، أي رئيسا للدولة.  إثر ذلك، من مدينة الرستاق، مقر الإمامة وقت ذاك،  أدار دفة الحكم، وطنيا وفي العلاقات الخارجية، بجدارة مرموقة قرابة أربعة عقود- (1744 – 1783) .

(2) و (3) العبارة مقتبسة بتصرف من مقال للأستاذ صبحي غندور، المدير التنفيذي لمركز الحوار، واشنطن، الولايات المتحدة.

(4) المقاطع الأخيرة مقتبسة بتصرف من مقال للكاتب بعوان:  المثقف العربي وإشكالية الأنا والآخر.  عُرض المقال أولا كمحاضرة بمركز الحوار بواشنطن، الولايات المتحدة، ثم كورقة بحثية في المؤتمر الرابع والعشرين لاتحاد الكتاب والأدباء العرب بمدينة سرت، المجماهيرية الليبية.

* صادق جواد سليمان: سفير عُماني سابق ورئيس "المجلس الإستشاري لمركز الحوار العربي"