الحراقة وجراحات الرحلة في المجهول
د. أمحمد زغوان
كلية الأدب واللغات
جامعة د. مولاي الطاهر. سعيدة
اللغة بنت الاجتماع يضمنها جماع أحواله وأوضاعه فيترجم بها، وتترجم عنه جملة آماله وآلامه وتؤرخ لمراحل انتصاره وانكساره، إعتامه وإشراقه، فليس غريبا أن يكون لكل مرحلة من مراحل الإقدام أو الإحجام مصطلحاتها، ومفاهيمها..
بالمعنى المتقدم يمكننا قراءة الدوال التالية : الحَرقة والحُقرة والحُرْقة والتي تسلك كلها مسلك المعنى المشترك متى عمقنا مفهومنا بالبعد الدلالي لهذه المواد اللغوية المنقدحة عن جذر لغوي واحد، وهذا تبعا لتطبيقات أصوليي فقه اللغة " من أن ما اشترك من المواد في حرفين، فقد اشترك في المعنى " ، فحين نعمد إلى تفكيك هذا الاشتراك جريا على القاعدة المتقدمة وجدناه مطردا في متتالية متوالية، وذلك كأن تكون الحرقة ( بفتح الحاء، وإسكان الراء ) بمعنى '' الهربة '' التي هي شعور الشاب بالغربة والنفي حتى ضمن حلقته الضيقة التي هي أسرته الصغيرة، ومن ثمّ يفكر في الفرار على الغالب من واقعه على أمل تغييره وتعديله للأحسن، مما يعني دخول شبابنا في أبعاد آخرى لم نعهدها من ذي قبل عند الأجيال السابقة ، وقد يكون أخف هاته الأبعاد وطأة ما تجنيه تلكم العوائل والأسر من مآسي " الحرقة " وتوابعها الماثلة للعيان : المخاطرة بالنفس والمقامرة بالمال ومفارقة الأحبة والأهل والخلان وأحيانا الولدان.
إن جملة تلك التوابع وليدة قناعة أثمرها ضغط الحقرة ( بضم الحاء ) أي بمعنى ( الاحتقار ) وما ينضح به من الكبائر الاجتماعية التي تنخر أوطاننا بعد انفصالها في عالمنا العربي عن قيمة كونية خالدة اسمها " الإنسان "، أو بحسب التعبير القرآني " التكريم الآدمي "، فلقد فشت فينا أدواء الأمم، واجتمع فينا ما تفرق عندها من مباذل يزيد من تعقيدها ومضاعفاتها حالة الوهن والضعف الفاشية في أوصالنا جسمنا المهدود والمكدود بفعل السنين العجاف، ومع كل هذا لا زلنا نصر بعناد وأريحية تثير التندر أننا أبناء الله وأحباؤه، وصدق فينا قول من قال في معرض الحال:
بعت بيتي وحماري معا وبقيت لا فوقي ولا تحتي .
إن الاحتقان الاحتقاري الذي يعيشه شبابنا ، وانسداد آفاق المستقبل أمامه ، يصيبه بوسواس الهلع والقلق الوجودي الذي ينغص عليه حياته ويصنع لنا عقلية " حراقة "، كنوع من ثقافة الرفض للواقع، ومحاولة إدارة الظهر له استحضارا للحكمة الجارية :
عجبت لمن يقوم بدار ذل وأرض الله واسعة فضاها
مشيناها خطا كتبت علينا ومن كتبت عليه خطا مشاها
ومن كانت منيته بأرض فليس يموت بأرض سواها
كثيرا ما تؤول تلك المتتالية العجيبة من حَرْقَة إلى حُرْقة يكتوي بنارها أهل الحرَّاق وعائلته بعد أن يفشل المسكين في مغامرته أو مقامرته تلك فيتلقفه الحوت أو البحر، ويلبث في بطنهما إلى يوم يبعثون، أو ربما ينتهي به الأمر إلى السجن في الحالين وعلى الضفتين : عند ذويه من أهل الدار أو عند من أناخ بساحتهم من ذوي الجوار وربما رأيناه يتمثل قول الصدّيق الشاكي إلى الله ظلم العباد " السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " .
إذن فنحن ضمن سياق مؤتلف من حُقْرة حَرْقة حُرْقة... والكل يصب بالنهاية في فتيل الاحتراق المنبعث عن ثقافة " الحقْرة والمحروقية ( المظلومية ) التي يجد الشاب نفسه في القلب منها يتجرع مرارها، ويصلى لظاها، ويفكر بحماسة وجد في أن يترك الجمل بما حمل لقوم أضاعوه وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر.
à موبقات المحروقية ( الاحتقار)
إن من موبقات المحروقية التي من الاحتقار أو قل هي على قياس المظلومية: البطالة، التهميش، اللامبالاة.. وما دخل في حكمها مما يتأدى إلى انسداد الأفق أمام الشاب وانكفاء فكره على ذاته لأنه على ثقة من أن لا أحد يفكر فيه في الملأ الأعلى من أصحاب الألقاب ذوي الفخامة، والفهامة، والسيادة، والقيادة.. وإن لم يفكر في نفسه، وينجو بجلده باء بالخسران الوبيل، والأمثلة أمامه أوضح من أن يشار إليها بالبنان، أو يخوض في تعداد نكباتها إنسان، وعليه إن كان عاقلا أن يتعظ بغيره، وبالأجواء السائدة في محيطه : انج سعد فقد هلك سعيد. وليعتبر بعبر الأولين القائلين: ما حك جلدك مثل ظفرك** فتولى أنت جميع أمرك .
إن هناك أسبابا موضوعية تبعث على هذه المشأمة التي تغذيها موبقات الحقرة التي تصابحنا اليوميات بمباذلها وتماسينا بما يكاد يشيب له الولدان من تبذير للمال العام، ونهب دون حسيب أو رقيب، واختلاسات بالملايير.. نقرأ ونسمع عن أغنياء أثروا بالحرام واختلسوا الأموال ونهبوها ثم هم بعد ذلك يستطيلون على خلق الله بما نهبوه من نعماء هم فيها غارقون، ويراءون بما اغتصبوه من حلواء هم فيها والِغون ، وما فضيحة القرن ببطلها خليفة وآله منا ببعيد، وفي المقابل يجد الشاب نفسه يعيش ضنكا اقتصاديا ومنفى اجتماعيا غير مبرر في زمن :
عزت السلعة الذليلة حتى بات مسح الحذاء خطبا جساما
وغدا القوت في يد الناس كاليا قوت حتى نوى الفقير الصياما
إن الشعور بالغبن هو ما يحمس الشاب الحراق على البحث عن لجوء اقتصادي
واجتماعي في الدول الأوربية المرفهة كبديل عن وطنه الأم ، وما يدفع المرء للمر إلا الأمرّ منه.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
ويا ليت الشاب كان جاهلا بالقراءة والكتابة حتى يحسن فيه ظن المتنبي في عجز بيته
( وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم )، لأنه سيفقد والحال هاته حاسة الإحساس بالمحروقية ( المظلومية ) ، مغمورا بحسنات الجهل هنا إن كان للجهل حسنات ، ولن يجد الألم لنفسه سبيلا : ألم عنف الحرمان الممارس عليه يوميا من خلال ما تعرضه الجرائد يوميا كما قدمنا من فضائح بالجملة تصيب القارئ بالغثيان وتجعله يفقد الثقة بكل شيء، ويكفر بكل شيء في بيئته، وربما آثر البعض أن يحرّم على نفسه قراءة الجرائد حتى لا يتأذى مما يعنّف به سمعه وبصره حين يتصفح تلك اليوميات الصادمة بالاعتداء المتكرر على المال العام.... والله المستعان، ولا يملك المستضعف مع ذلك إلا أن يجأر لله قائلا ( حسبنا الله ونعم الوكيل )، وربما فاجأك بعضهم إن لم نقل فاجعك بقوله ( الحمد لله أن الموت كاين )، إلى هذا الحد صار المرء يطلب العدالة حتى في الموت !!
لو أن امرءا قتلته الحسرة، وجنّنه العجب ما كان ملوما ، وهو يرى النعمة التي أغدقها الله على بلده من فيوض الموارد الطبيعية وخيراتها تتحول إلى ريوع وملكيات خاصة للعائلة الحاكمة ومقربيها وسدنتها ومحترفة النفاق الأمر الذي يفضي إلى نقمة ولعنة تضيق معها الأرزاق في الأوطان بفعل تلك الأنانية المقيتة، والأهواء المتألهة.
إن حياة شبابنا لا تعدلها ثروة فهم تاج رؤوسنا، ورمزية أوطاننا، وموضع الكرامة منا، وسقف المكانة والمنزلة فينا، فإن امتهنوا وأهينوا من الأغراب وهم يسألون رغيف الخبز في مقابل حياة داجنة في هاته الضفة أو تلك فلا معنى للتبجح بعد ذلك من أي كان بوطنية أو قدسية أو رمزية، فلا معنى للأوطان التي يهان فيها الإنسان، فالأوطان أشبه بالألفاظ معناها الإنسان، وإن فقدت هاته القيمة عادت لغوا، وللعبرة نذكر كيف أن الإنسان الأوربي يجد عند حكامه العزة والمنعة حيث لا تجرؤ أي دولة من دول العالم الثالث على محاكمته أو مساءلته أو التعرض له وإن أساء ذلك أن قيمته من قيمة وطنه، ومن الجماعة التي ينتمي إليها.
لم تعد الهربة من الأوطان أو الحرقة مع الأسف حكرا على الشاب حتى يتسع باب
االتحليل للقائل أن يقول : إنهم حدثاء أسنان أغرار ما خبروا الحياة بعد، وما بلوا أخبارها بل أصبحنا نسمع عن شيوخ تجاوزوا السبعين يخوضون هذه التجربة الشبابية ، ويسلكون سبيل الحرقة بحسب ما تتناقله اليوميات بين الفينة والأخرى.
إن فقدان الأمل يجعل الحرّاق مأزوم النفسية فلا يرى لوجوده معنى كونه عنصرا
عاطلا عطالة ليست من ذات نفسه، وإنما هي مفروضة عليه من الخارج وهذا أسوأ ما في الأمر ، فهو بحسبان دواخل النفس عبارة عن كتلة مضغوطة بالحيوية والطاقة والحماسة الشبابية الأشبه بالشلال المتدفق الباحث عن مواطن استفراغ لتلك الطاقة الكامنة فيه، وهو مما يحمله على ركوب الصعب عملا بالأمثولة المعروفة التي تقول فيها الخشبة للمسمار: لم تشقني ؟، قال: سلي من يدقني. واتفاقا مع قول الشاعر "
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا فلا يسع المضطر إلا ركوبها
فليس غريبا أن يُلقى في روع الشاب ما تعلمه ذات يوم في المدرسة، وأيام مثاليات المدرسة وزمنها الوردي الجميل من خبر التينة الحمقاء فيهتف معها :
بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني عندي الجمال وغيري عنده النظر
وإذا استشعر الشاب هذه الروح وألحت عليه وساوسها تبرم بالحياة وذاق بها ذرعا ، ورتب على هذا كله احتقاره لها فهناك كما قال أحد المفكرين : ((أسباب مختلفة لاحتقار الحياة، ولكن ليس ثمة مبرر لاحتقار الموت )).
وربما انغرس في لا شعوره ولا وعيه نظرة للحياة والموت مغايرة لنظرة من يحيون في ظروف طبيعية، ويتصرفون تصرفا متسقا مع ظروفهم الطبيعية تلك، فهو قد لا يرى نفسه حيا حتى يخاف الموت الذي يترصده في عرض البحر، فليس له ما يعيش لأجله حتى يفكر فيه، أو يحرص عليه لأجل ألا يخسره، كما أنه لم يخلف ما يخاف عليه، وربما يكون الشاعر العربي قد استحضر هذه الفكرة ، وجسدها ذات يوم برحيله إلى ديار المهجر تاركا المشرق خلف ظهره، وإن أودعه قلبه وعاطفته وهمه:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء
الميت هو من يعيش الكآبة، وانكساف البال، وقلة الرجاء ، هي خلطة سامة تجعل المبتلين بها يصابون بروح الإحباط المهين والإذلال المشين والتبرم بالحياة كلها، وإذا أردنا أن نعرف ما معنى أن تكون حراقا ؟ لا بد أن نعيش بنفسية الحراق، فهو واقع بشكل رأسي تحت ضغط نفسي يومي، فإذا فكر في المستقبل التفكير العادي والمتواضع: كأن يكون له عمل، وبيت، وزوج، وأولاد فالآفاق معتمة، والنفق مظلم، والعمر يجري، واليأس محبط ومحيط.
لا يجب أن ننسى أن الخالق تعالى أودع في الإنسان طاقة نزاعة لتحقيق معاني الإنشاء والإعمار في الأرض بحكم مقتضيات الفطرة البشرية، وبالتالي فأول صراع لهذا النوع البشري ( الحراق ) سيكون في مواجهة طبيعته تلك وفطرته التي تأبى أن تخالف سنن الخلقية فيها، اللهم إلا أن يعفيه الجنون من مؤونة ذلك وآثاره، وحتى في هذه الحالة يعد هذا منه هروب أو " حرقة " عنيفة على مستوى النفس من عالمها الطبيعي إلى عالم اللاطبيعي حيث يفقد معنى إحساسه بالوجود الإنساني.
وبالإضافة إلى هذا الضغط النفسي الحاد الذي تترجم عنه يوميات الحراق الكالحة هناك الضغط الاجتماعي الذي يمارس عليه ويضاعف جراحاته النفسية، ويربط هاته بتلك، ويضع الملح على الجراح ، فالحراق واقع على الدوام تحت تقريع وتأنيب أقرب الناس إليه كأمه وأبيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا، فلا أحد يعذره منهم أو وينجيه من ضغوطهم، واقرأ هذا الخبر في الجريدة واحكم بنفسك " انتحر 18 شخصا منذ بداية رمضان، بسبب الظروف الاجتماعية الصعبة التي حاصرتهم، حيث وضعوا حدا لحياتهم شنقا بالحبال والأسلاك الكهربائية. ... في الوقت الذي تتحدث فيه أرقام وزارة الشؤون الدينية والأوقاف ووزارة التضامن الوطني عن تراجع نسبة الفقر في الجزائر، ترتفع معدلات الانتحار يوميا، وبالأخص في شهر رمضان، الذي لم تصل قفة رمضان التي توزعها السلطات إلى مستحقيها، الذين قرروا وضع حد لحياتهم وحفظ كرامتهم " (1) .
ولعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ** ولكن أخلاق الرجال تضيق
" وتلك حالة تستوجب أقصى ما يمكن من الاهتمام والعناية، لأن كل علاقة فاسدة بين الأفراد تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن تحبط أعمالهم الجماعية، إما بتصعيبها أو بإحالتها.
فالعلاقة الفاسدة في " عالم الأشخاص " لها نتائجها السريعة في " عالم الأفكار " وفي " عالم الأشياء ". والسقوط الاجتماعي الذي يصيب " عالم الأشخاص " يمتد لا محالة إلى الأفكار وإلى الأشياء في صورة افتقار وفاقة " (2) .
وما أصدق قول من قال :
إن دام هذا ولم تحدث له غِيّرُ لم يُبكَ ميتُ ولم يفرح بمولود.
àà شهادات وإفادات
1. تروي بعض الجرائد عن بعضهم أنه عوتب شديد العتب كونه يقامر بحياته التي كادت تنتهي عند حدود الماء ، فأجاب أنه ليس في نيته الوصول إلى الضفة الأخرى من العالم العلوي ( الشمال ) فرارا من عالمه السفلي ( الجنوب )، بل ما يهمه هو أن يخرج من هذه البلاد الظالم أهلها، وإن كان ولا بد فليلتقمه الحوت ولا يأكله الدود.
2.2. أنقذ أحدهم وهو بين الحياة والموت ما حملك أن تصنع ما صنعت بنفسك وانظر إلى النهاية التي … لولا أن الله سلّم . فقال والله عند أمي وإخوتي وعائلة فقيرة لحد الإتراب إذا وجدنا الدواء أعوزنا الغذاء وإن توفر الغذاء غاب الكساء.. ألا تستحق عائلتي بعدد أفرادها أن أضحي لأجلها، وما يغلى علي يرخص في حقهم.
3. وتذكر الجرائد عن أحد القائمين بتوريد ضحايا الحرقة قوله رواية على لسان أحد "
الحراقة " الذين وصلوا الأرض الموعودة " إسبانيا " أنه من الأمور التي أثرت في نفسه ما سمعه عن الرجل صاحب القارب الذي قام بتهريبهم " المسامحة يا أولاد البلاد كونوا رجال " ولا ندري ما الانطباع الذي وجده هذا الشاب الذي كان لتوه قد نجح في البكالوريا بنقاط جيدة، وقرر أن يغادر.. فإذا هو يتجاوز حدود الماء فهل الرجولة عند هذا المهرب تبدأ من هذه النقطة ؟ نقطة الحرقة والاحتراق ، وعلى الشاب بهذا المعنى أن يغامر ولا يرضى بالقنوع والخنوع، بخلاف الشباب الذي عاش أزمة البطالة والعطالة قبله بقليل وعاش حياة الانتظار متبرمجا بلعب دور " الحيطيست " ( الحائط ) بكل رتابته، وانسداد آفاقه، فقرر من خلفه الإفادة من خبرته والانتقال مع جيل ثان إلى مرحلة جديدة هي مرحلة " الحراق " .
وقد تمضي الأيام والليالي ويعود هذا الشاب بعد زمن لا يستغرق منه أكثر من تحصيل أوراق الإقامة ليعود إلى أهل جورته ومحلته بالسيارة، والزوجة والهدايا ويستقبل يوم عودته استقبال الأبطال الفاتحين فيكون بلسان حاله داعيا للشباب لأن يحذوا حذوه، فيرون أن مستقبلهم ليس على يابستهم وإنما هو وراء الماء، ثم ليقضي الله ما هو قاض، كيف يكذبون ما يرون بأعينهم ، ويصدقون ما يشاع بينهم في وطنهم من أحاديث تعدهم وتمنيهم الأماني الغرور
أليس فعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل.
فها هو صاحبهم الذي كان بينهم بالأمس مفلسا لا درهم له، ولا دينارا فضلا عن الأورو والدولار عاد بغير الوجه الذي ذهب به ، فقد أصبح على الأقل مالكا ، فقد اشترى قطعة أرض وهو شارع في بناء سكن يعود له عندما يعود للبلاد، أما هم فحالهم لا تزال تراوح المكان فقد وجدهم صاحبهم كما تركهم وربما أسوأ ، وربما ذكرهم بالأمثولة الفرنسية :
" /span> qui ne risque rien n’a rien " : من لم يخاطر بالشيء فليرض بلا شيء
4. بل تحدث بعضهم بنوع من الغرابة وكان ممن استفادوا فيما أظن من قرعة الإقامة بكندا ( البطاقة الخضراء ) ، قال لما نزلت بمطار " مونريال " وجدت نفسي أردد في خاطري وبيني وبين نفسي " جئنا من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد " إلى هذه الدرجة يصل التعبير عن الاحتقان والإحباط بابن الجنوب، وبمثل هذا الكلام الصريح الواضح الفاضح يعلن عن نفسه، وهو يحل ببلاد الحبشة الحديثة عفوا أعنى العالم الجديد كندا
5. ويروى عن أحدهم أنه كان يحمل علم دولة أجنبية ويطوف به في إحدى الولايات
االكبيرة بالجزائر فاستوقفه أحد الشيوخ وقال له بنبرة الوالد : يا بني كان أحرى بك أن تحمل علم بلدك الذي مات لأجله رجال وأي رجال . وكانت غرابة الشيخ شديدة عندما بادره الشاب بالقول إن كان مقياسك في حسبان الأمور بالتضحية، فالعلم الذي أحمله أيضا ضحى لأجله رجال أعزاء على قلبي. فلم يفهم الشيخ ، وقال :يا بني لم أفهم قصدك فدع الجملة وهات التفصيل. قال الشاب : في مثل هذا اليوم من هذا التاريخ كان لي أصحاب من أعز الناس على قلبي، وأحبهم إلى نفسي خرجوا " حارقين " إلا أن الموت كان لهم بالمرصاد، وكان ذلك خروجهم الأبدي فأنا أذكرهم بطريقتي هاته، وحتى لا أنساهم أفعل ما ترى فلعل في ذلك بعض الوفاء لذكراهم، وفيهم من ترك الأم والأب والأحبة.
à الحلقة المفقودة بين الحيطيست والحراق
لم يفهم الشاب الحراق أن تكون خزائن بلده ملأى بالعملة الصعبة والسهلة بعد الطفرة
غير المسبوقة التي شهدتها أسعار السوق البترولية.
هل كثير عليه أن يكون له : عمل وبيت وزوجة، كباقي خلق الله العاديين. إنه لا يطمع أن يكون حالما إن حاز الأساسيات التي لا يختلف حولها عاقلان، ولا يتنازع فيها اثنان. فالخالق جل وعلا أقر لآدم من يوم أهبطه أرضه حاجات أربع : (إنّ لكَ ألا تجوع فيها ولا تعرى* وأن لا تظمأ فيها ولا تضحى) . (طه/ 118- 119)، مطعم يسد جوعته، وكساء يستر عورته، ومشرب يطفئ ظمأته، ومسكن يقيه ضحوته وتلك هي ضرورات العيش في مستواها العادي الطبيعي. /span>
للعل المطلوب من الشاب وحده أن يظل طوال الوقت مفتقرا لأنه مواطن شريف وصالح، ولا بأس أن نذكره بين الفينة والأخرى أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء لقلة مؤونتهم، وفي هذا ما يحفزه على أن يفاخر بذلك ويدعو به في جلواته وخلواته، وأن يكون شاكرا ممنونا لصانع القرار في بلده الذي وفر عليه مشقة السعي في طريق الفقر ووفر له سبله وأمده بأسبابه حتى يحجز مكانه في الجنة قبل مالك قراره وراهن عقاره.
فلا شأن له إذن بمن يغتنون بطرق غير مشروعة وإن قاسموه دعوى الشرف والصلاح، وتزلَّفهم الناس وأغدقوا عليهم الألقاب، وحملوهم على الأكتاف، فليس له أن يحزن إن أغلقوا في وجهه ما يتسع لهم من أبواب./span>
للقد كان الشاب متفهما ذلك كله، راضيا بالاستظلال بظل الحائط صيفا، والتشمس تحته شتاء، وهاضما للقبه الجديد ( الحيطيست ) لأنه كان عائشا على أمل لعل وعسى ... ودوام الحال من المحال فاليوم جمر وغدا أمر .
كان يتفهم في الماضي القريب ما معنى أن يكون سعر برميل النفط يراوح مستويات جدّ منخفضة، ترجمت عنها الميزانية المرصدة لحاجياته : سكره وزيته وخبزه ودواؤه وكساءه... في سقوفها الدنيا 19 دولار، فالناس أوعى بالمرحلة وأبصر بها ، و الحيطيست من الناس كان أدرك لذلك، وأعذر خاصة عندما يشيع أولو الأمر الاقتصادي في المجتمع على نطاق واسع: شدوا وثاق أحزمتكم، واربطوا على بطونكم ، فرؤيا يوسف قد تناسلت عندنا، وتحققت فينا بمعنى مختلف فالبقرة السمينة قد أكلتها العشر العجاف وقد جفت الأقلام، وطويت الصحف ، ولا يوسف هناك ولا صدّيق حفيظ عليم يمكن من خزائن الأرض ويأخذ الأمر بقوابله.
فالزمان زمن أزمة اقتصادية متفاقمة وتركة العهد البائد أورثتنا خزينة فارغة، وديونا كاوية ترجمت عنها فضيحة 26 مليار التي عادت يومها حديث العام والخاص بعد أن فجرها واحد من آل البيت السياسي لم يستطع أن يكتم أسراره ، وتناولت الجرائد الخبر يومها بطريقة ملأت الدنيا وشغلت الناس.
قيل يومها توصيفا إن تلك العشر العجاف هي العشرية السوداء التي لن تتكرر، وإذا بنا ندخل ما هو أسوأ منها إنها عشرية حمراء وكل ذلك كان نتيجة سياسات غير مسؤولة لم يكن لهذا الشاب ناقة فيها ولا جمل لا في السوداء ولا الحمراء ، وربما استشعر أنه مطالب بتجريب كل الألوان لعل أحدهما يضبط معه فيكون فألا حسنا عليه ولكن أنى له العمر الذي يستوعب كل الألوان ؟ !، إذا كان لونان فقط ( أحمر وأسود ) استهلكا منه عشرين سنة والحبل على الجرار، وإذا كان يطلب منه أن يصبر ويحتمل فأنى له بالعمر المتجدد الذي ينتظره حتى يجرب لعبة الألوان العشر كلها ، والتي لم يجن منها بحكم تجربته غير إهدار العمر في دهاليز من الانتظار القاتل الرتيب ؟ .
إن العمر ليس عمولات تدخر في صندوق للتوفير ويسحب منها كلما دعت الحاجة، وقضت الضرورة وإنما العمر هو زمن: دقائق وساعات ، وأشهر وأعوام متعة الأنس بها، ولذة العيش فيها مرحلة الشاب وزهرته، فإذا ولت هاته المرحلة وأصبحت في ضميمة الماضي فعلى الدنيا السلام. وإذا ما مت ظمآنا فلا نزل القطر .
إن حالة الحراق مع من يحكمه يفترض أن يكون الحاكم فيها بمنزلة الوالد الحاني الحريص على مستقبل أبنائه يجوع ليشبعوا، ويكدح ليسعدوا، ويقتصد لهم القرش الأبيض لينفعهم في اليوم الأسود ، ويقدم لهم السبت ليجدوا الأحد...
إن دعوى البنوة الحانية قضية برهانية وليست مفرقعة كلامية تطلق على عواهنها دون أن يكون لهما مضمون في واقع الشباب، وأين جناب حكامنا من قول القائل :
وإنـما أولادنا بـيـنـنا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هَبّت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض
ولننظر لإسرائيل التي نثل في خاصرتنا العربية الانثيالات تلو الانثيالات كيف أنها تفرج أن عشرين أسيرة فلسطينية في مقابل شريط مصور عن وضعية جنديها الأسير، وكيف رضيت بالوساطة المصرية ثم الألمانية واستغرق منها كل ذلك الوقت الطويل مع حركة تعتبرها في أدبياتها، وأدبيات دول القرار الدولي أنها { إرهابية }، وربما رضيت بأكثر من ذلك من أجل فرد إسرائيلي واحد، ولها مع لبنان وغير لبنان سوابق من هذا القبيل...... ولا حول ولا قوة إلا بالله.
& إن تطويع الشاب لأجل أن يطبع علاقته مع ثقافة الأزمة، وسنين المسغبة لتكون هي القاعدة هي حيلة ما يمكن أن تنطلي على الجميع، فلكل قاعدة شواذها، فالناس يقرأون ويسمعون، ويشاهدون في عالم أصبحت المعلومة فيه في المتناول وبالمجان، وإن وضعا كالذي يعيشه الشاب الجزائري، ورغبته في أن يناله بعض نعماء بلده بعد سنوات الشدة والانتظار أشبه حالا بوضع رب البيت العائل الذي مر بضائقة وأشاع ذلك بين أهله وبنيه وجاع الجميع، وربطوا على البطون تجلدا لسنوات المرمدة، ومع الوقت تبدلت حال الأب وتضاعف أجره، وفتح الله عليه من بحبوحة الدنيا بما لم يكن في باله، ولم يخطط له، ولم يبذل له الجهد والعرق، وإنما هو يدين في ذلك للطف الأقدار وجميل صنيعها به.
تساءل الأهل والولدان وتهامسوا فيما بينهم ضمن محيط الدار تساؤلا مبررا يا أبانا ما دام الله قد أفاء عليك من النعماء، وأفاض عليك من الأرزاق فما بالك حريص على نعيش عيشة الفقراء، وتحيى أنت حياة السعداء ونكتوي بنار الحرمان في أي شرعة أو مذهب أُفتيت بذاك ؟ كنا نفهم ذلك أيام البأس، والشدة وسني يوسف ولم نعد نفهم اليوم من أمرك شيئا بعد أن تبدلت الحال غير الحال اللهم إلا أن تكون تزوجت زواجا ثانيا دون إطلاعنا على الأمر، فأصبح غيرنا قسيمنا في ميزانيتنا وفي خبزنا وثوبنا ودوائنا من غير أن ندري ، فقط نحب أن نعرف لأننا تحت سقف واحد، ولنا عليك حقوق .. نعرف فقط ليطمئن القلب، وندعو لك مباركين حياتك الجديدة، فنحن أبناء بررة بآبائنا وإن أنكرونا.
وسنورث هذا البر لأبنائنا وننشدهم مع البياتي : فقراء يا ولدي نموت، وقطارنا أبدا يفوت
à وجه آخر للحرقة ( الإفلاس )
قلت لصاحبي ما ظنك برجل أنفق من العمر عزيزه واصلا بياض النهار بسواده في سبيل
بناء بيت له ولعائلته تأمينا لغدها، وتضمينا لمستقبل أحفادها فدفع في إنجاز هذا المشروع فتيله وقطميره ، ولم يبخل بعرقه وجهده ، وكد يمينه لأجل إتمامه ، فأحاطه بالرعاية والحرص والمتابعة من يوم كان لصيقا بالأرض حتى صار يناطح عنان السماء، ولم يدخر الوسع في استجلاب الرخام من الطليان، واستشارة العارفين بهندسة البنيان، ليحصنه ضد الهزات والزلازل وعوادي الزمان مفيدا في ذلك من حكمة اليابان.
قال صاحبي : هذا سيد العارفين، كثر الله من أمثاله في الأمة حتى يطلق الله سراحها وتنطلق مع المنطلقين في عالم الحضارة والمدنية فتتصرف وفق المكانة والمنزلة اللائقة بنا.span>
قلت لصاحبي : ما ظنك بهذا الرجل الذي سميته سيد العارفين فبمجرد أن أنجز البناء وبلغ يوم التمام والكمال ، وصار فتنة للناظرين، وحديث العالمين، قام سيد العارفين هذا وسلم المفتاح لأول شخص أجنبي لقيه، ولم يكن هذا الشخص يمت له بصلة لا من جوار ولا قربى حتى نعتذر من جانبنا لسلوكه الغريب هذا.
قال صاحبي هذا شخص مفلس وغير عاقل ، اللهم إلا أن يكون سفيها، ونحن على الدوام نستعيذ بالله من إمرة السفهاء حتى لا ندخل في النهي الصريح للذكر الحكيم (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ ] (النساء : 5[.
حيحينها قلت لصاحبي عاجبا استعظمت الأمر وأخرجته مخرج التهاويل وهو حديث عن حجارة وطين ، وقد يستعاض عنها بغيرها ولا تتوقف الحياة، ولكن ما ظنك لو تعلق الأمر بعقول الأمة، وبالأرواح التي هي مصدر الحياة في جسمها فقال ما تقصد ؟ قلت : أعني ما يشاع ويحذر منه في اليوميات من هجرة العقول، ونزف الأدمغة .
ألا ترى معي أن هذه العقول العظيمة قد تركت مكانها للبطون الكبيرة، لتبيض وتصفر منذ زمن في خلائنا، فلم تعد تلك العقول المهجرة مثار حديثٍ اليوم من أحد، وربما أصبح الخوض فيها نوعا من استحضار لملفات منسية بعد أن اقتنع الجميع بأن لا محل لها من الإعراب في جملة الوطن العربي السعيد، وكان من الخير لها أن ترحل أو تواجه الانتحار العلمي خاصة بعد أن سلكت سبيلها في النزف والهجرة من ليست أدمغة في حجمها وعقولها ( وعفوا على هذا التعبير ). قال صاحبي : وما علاقة كل هذا بمثال صاحب الدار ؟
قلت : هاك تفصيل ما أجمل : أليس ذلك الدماغ المهجر كان صاحبه ذات يوم تلميذا صغيرا مقبلا على مقاعد الدرس في حيوية ونشاط ، محتفيا بالحياة ومحتفية به ينفق عليه والده غثه وثمينه، ويرعاه من يوم إرضاعه وإفطامه ويشمله بحنوه وإعطافه ويبذل لأجل تنشئته من جوده وماله يكد ويجد، ويسعى ويحفد لأنه يرى فيه مستقبله الآتي، وغده الآمل ، ومن وراء ذلك كله تقف دولة مجندة كل إمكاناتها البشرية والمادية، وعلى أجندتها المعلنة أن تصنع منه كادرا من كوادر مستقبل البلد، ولبنة بناء في غده، ورافعة عز لمجده، وملاذ أجياله فسعت لتوفير المربي له من الداخل واستجلابه إن عزّ من الخارج، وبنت له المدرسة وأعدت له الجامعة، وأمدته بالكتاب والقلم والدفتر... ، والطعام والكساء والدواء، ثم هي تبعث به لأجل الإفادة من علوم الآخرين خارج حدود البلد مع ما في ذلك من فراق الأهل والأوطان.
وهكذا ينفق على تعليمه من خزينة الأمة،ومن العام من مالها وجهدها ووقتها وعلى حساب قوتها وحاجتها ، وضرورياتها حتى إذا أثمر وأينع وحان أوان القطاف ورد الجميل عاد إلى وطنه فأغلقت دونه الأبواب وجوبه بكل عوامل الطرد ، فيقرر هذا الدماغ والعقل في لحظة يأس وإلقاء سلاح أن يغادر ويرحل في صمت بين يوم ليلة وكأن شيئا لم يكن وهو الذي تم تشكيل عقله العلمي طوال مراحل تترى بعمر جيل، ويمتد السيء من آثارها لأجيال، والتكلفة الحضارية لذلك باهضة الثمن على المدى القريب والبعيد.
فهنيئا للأغراب الآخرين بإسهاماته في نهضتهم، كيف ؟ وقد وجدوه جاهز التكوين، في أوج العطاء، ما أنفقوا في سبيل بنائه العلمي درهما ولا دينارا، وربما أخذ حكم اللقطة في الميزان الفقهي. وأجمل الله عزاء بلده المضيع لفرصه بفقده وفقد الرجال من أمثاله، وعوضهم عنه تخلفا وفقرا بما صار ضعفا فيهم، وقوة في غيرهم.
إن بلادا هاته حالها وتلك أوضاعها هي في وضع طائر مالك بن نبي الذي كان " يبيض بيضاته في عش غيره من الطيور " ، وتلك كما يقول مؤامرة استعمارية دقيقة أدق من عمل الشيطان ذلك أن الاستعمار " لا يسلب الشعب المستعمَر أشياءه فقط ، بل يستولي أيضا على نفسه، وهذا الاختلاس المزدوج هو ما يحاول أن يخفيه بكلمة جديدة [ السيادة المشتركة ] كما لو قال الطائر المختلس : العش المشترك " (3)span>.
معمع قناعتي أن الحرقة ليست حلا بقدر ما هي تصدير لمشكل إلى موقعية أخرى، وتأجيله بدافعية العجز عن مجابهته ، والاستعاضة عنه بالفرار منه بالجلد فرارا يصل لحد الأنانية والنرجسية المقيتة، التي تولد حياة حلزونية انكفائية لا تختلف عن حياة الصراصير التي يترك فيها الكل يواجه مصيره منفردا، ولا أحد يبالي بالآخر بأي واد هلك بخلاف ما يرى في مجتمعات النمل والنحل حيث تحول من ضعفها قوة، وعملها إلى تعاون، وجهدها إلى تضامن.
وفي الحديث الشريف " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، فمن كمالات الإيمان أن نعيش بآمال الجماعة، ونتأثر لآلامها، نفرح لأفراحها، ونقرح لأتراحها حتى يكون الآخر كما في الحديث الشريف هو أنفسنا فتكون قيمة المرء من قيمة جماعته، والعكس، ولا يكن همنا التفتيش عن حلول لأنفسنا ولا شأن لنا بالآخرين حتى نحصن أنفسنا من حياة الصراصير.
سئل " روجيه غارودي " الفيلسوف الفرنسي عن الإيمان عند المسلمين فقال : إنه التصدي.
وصدق الرجل في نظرته لأن الحياة حبلى بالمصاعب والمشكلات وكل منها يحوجنا إلى التصدي : التصدي لأصنام ضعفنا غائبيتنا، وأنانيتنا، وحبنا لذواتنا وأثرتنا حتى نتجاوز حظوظ النفس لتخلص للأفكار والمبادئ والقيم الإنسانية، وصدق مالك بن نبي حين قال : " عندما تغيب الفكرة يوجد الصنم ". فالإنسانية تكرم من أبنائها من أعطاها لا من سلبها، ومنحها لا من حرمها، ولو تحرك شبابنا القريب العهد بنا أيام الاحتلال بمثل هذه العقلية عقلية الحرقة نحو الشمال لما حررت الأوطان، ولما رحل استعمار، وإنما كان همهم التنافس في الترفع عن حظوظ النفس العاجلة لأجل مصلحة الجماعة فضحوا بأرواحهم الغالية، وبذلوا دمهم الزاكي في حماسة وشعور طافح بالرغبة في أن ينعم الأبناء والأحفاد بالحرية والكرامة الإنسانية ، ونزع لباس الخوف والإذلال فأعطوا ما افتقدوا، وأدوا ما عليهم أداء المخلصين المضحين وإن لم تتم المقاصد في هذا المفصل أو ذاك. ولكن المهم من هذا كله أن يؤدي الإنسان ما عليه ويبرئ ذمته أمام مولاه ابتداء ومن ثم أمته، وأمام نفسه إن لم يكن غير نفسه.
. يومية الخبر 15.سبتمبر 09. (1)