الجبهة الفلسطينية الداخلية قبل النكبة عام 1948
من الانقسام والتشرذم إلى الهزيمة
محسن الخزندار
ساد الجمود الجبهة الفلسطينية في العامين 1940-1941 وذلك بسبب الإجراءات التعسفية والأوامر القسرية التي مارستها حكومة الانتداب البريطاني على الشعب الفلسطيني على أثر نشوب الحرب العالمية الثانية وأصيب الفلسطينيين بخيبة أمل كبيرة بعدما غاب العرب وزعمائهم عن الساحة عملياً وعندما زج الإنجليز بالوطنيين الفلسطينيين في السجون.
لم يكن سكوت الفلسطينيين هذا طبيعياً وكان لابد لهم أن يتحرروا من ذلك الجمود فيبعثوا الحركة الوطنية من جديد وكان الإنجليز يدركون أن الشعور الشعبي العربي عامة يتأثر إلى حد بعيد بشعور الفلسطينيين ووجهة نظرهم ولم يكن اطمئنان الإنجليز إلى شعور الشعوب العربية مثلما اطمئنانهم إلى حكومات معظم الدول العربية ورؤسائها الذين ساروا في ركاب الحلفاء آنذاك.
لمس الإنجليز في مطلع عام 1942م تململ الفلسطينيين من الأوضاع القائمة وتحفزهم لاستئناف نشاطهم السياسي وجهودهم القومية حيث شكا الكثير منهم من موقف وممارسات حكومة الانتداب واتهموها بعدم السماح لهم بالعمل السياسي كما أعلنوا عن تذمرهم من إمعانها في مواصلة السياسة الاستعمارية المجحفة بهم وبوطنهم.
واجه الانجليز أمران خطيران كان عليهم اختيار أحدهما وهما: إما السماح للفلسطينيين باستئناف جهودهم وإما الاستمرار في منعهم من ذلك وفي الحالة الأولى: كان الانجليز يخشون أن تقوم في فلسطين حركة وطنية قوية يكون لها صداها في أوساط الشعوب العربية وفي الحالة الثانية: كان الإنجليز يخشون استمرارهم في منع الفلسطينيين من العمل السياسي أن ينفجر شعورهم فتنتج عنه عواقب ليست في مصلحة السياسة الانجليزية لذلك اتبع الإنجليز طريقاً وسطاً خلاصته السماح للفلسطينيين بالعمل السياسي على أن تكون الحركة الجديدة معتدلة لا تتولاها العناصر الوطنية المعروفة بالصلابة.
أدرك الانجليز حاجتهم الماسة لقيام شعور ايجابي في الأوساط الفلسطينية نحو برنامجهم الجديد فمن غير المعقول قيام حركة وطنية لا يدعمها الشعب ويرضى عنها لذلك سعوا لحمل الفلسطينيين على:
1-تغيير خطتهم المعروفة في المقاومة والنضال التي اقتنعوا تماماً بصحتها بعد اختبارات طويلة وتجارب كثيرة.
2-الالتجاء نحو التعاون مع الانجليز.
3-الاعتماد على رؤساء البلديات والزعماء والشباب المثقفين والالتفاف حولهم([1]).
بذلت الحكومة الإنجليزية جهوداً واسعة لإقناع الفلسطينيين بأنها لن تقدم على أي عمل من شأنه الإضرار بمصالحهم وكررت إعلان تمسكها بالكتاب الأبيض لعام 1939م وتصميمها على تنفيذ السياسة التي رسمتها وشرّعت قانوناً لانتقال الأراضي بناءً على ما ورد في الكتاب الأبيض.
قاومت الهجرة اليهودية السرية ونقلت إلى قبرص من كانت تقبض عليهم من المهاجرين وتعتقلهم فيها وأصدر أقطاب الحكومة الإنجليزية عدداً من التصريحات والبيانات يؤكدون فيها حسن نواياهم نحو العرب وتمكنت الحكومة البريطانية من خلال تلك الأعمال والأقوال من إقناع عدداً من الفلسطينيين بمزايا التعاون مع الانجليز وفوائد العدول عن سياسة المقاومة المسلحة والنضال الصريح التي سار عليها الشعب الفلسطيني منذ عام 1935م وشجعتهم على الإقدام على تجربة جديدة بالإضافة إلى وسائل إغراء متعددة لجأت إليها بريطانيا لحمل الفلسطينيين على تغيير وجهة نظرهم.
بات المناخ السياسي ملائماً لتحقيق الخطة الإنجليزية وبعد هذه المقدمات اتصلت الحكومة بعدد من الزعماء ورؤساء البلديات والشبان وغيرهم في فلسطين للقيام بالحركة الوطنية الجديدة وتولى قيادتها وشجعتهم بمختلف الوسائل والأساليب ليحظوا بثقة الشعب وألغت التعهد بعدم العمل بالسياسة الذي كان قد وافق عليه عدد من الساسة عندما سمح لهم بالعودة إلى فلسطين عام 1941م وتعاونت معهم وصار المندوب السامي يدعوهم إلى قصره للتشاور وإبداء الرأي ولحفلات الطعام والشاي ورخصت لهم إنشاء النوادي والجمعيات وإصدار الصحف والمجلات وعقد الاجتماعات العامة.
عمل هؤلاء الأشخاص على إيجاد حركة وطنية بزعامتهم الجديدة وأسهم أنصار الانجليز المعروفون في خارج فلسطين بجهود كثيرة لتحقيق تلك الفكرة وتدخلوا مراراً لتأليف لجنة أو هيئة تدعي تمثيل الفلسطينيين وحاول الانجليز مع هؤلاء المتعاونين إقصاء العناصر الوطنية المؤمنة في الحركة الوطنية وأمعنوا في اضطهادها والإضرار بمصالح أفرادها والدعاية ضدهم واتهامهم بالسلبية والتطرف.
تكاتفوا على إقناع الفلسطينيين بالتخلي عن زعمائهم الموثوق بهم وأوردوا حججاً للإقناع ومنها أن هؤلاء الزعماء لن يعودوا إلى فلسطين وأنه لا يمكن للحكومة الإنجليزية أن تتعاون معهم وأن قضية فلسطين لا تُحل بالمقاومة والكفاح بل بالتعاون مع الانجليز وبالدعاية للقضية في الأوساط الأمريكية والبريطانية وما إلى ذلك من أقوال وادعاءات ولكن تلك الجهود لم تسفر عن نتيجة لصالح الإنجليز إذ أن الأشخاص المكلفين بالعمل والمرشحين لتولي الزعامة الجديدة في فلسطين لم ينجحوا في اكتساب ثقة الشعب الفلسطيني الذي أدرك حقيقة الأهداف والنوايا الكامنة وراء تلك المساعي فأعرض الإنجليز عنها وعن أصحابها وصاحب هذا الأمر تطور الشعور الوطني في نفوس الفلسطينيين تطوراً خطيراً وتجددت نقمتهم على الحكومة البريطانية وأعوانها عندما لمس المخدوعين من أبناء الشعب الفلسطيني حقائق الأمور.
إضافة إلى ذلك لم تكن حكومة الانتداب جادة في تنفيذ قانون انتقال الأراضي الذي سبق أن شرعته حيث استمر استيلاء اليهود على الأراضي العربية ولم تتخذ الحكومة أي إجراء ضد تحايلهم على نصوصه وأدركوا أن العوامل الحقيقية التي حملت الحكومة على مقاومة الهجرة اليهودية السرية لم تكن رغبتها في المحافظة على كيان العرب بل لخوفها من أن يتسرب إلى فلسطين عن طريق تلك الهجرة السرية الشيوعيون ورجال الطابور الخامس خدمة لأعدائهم في أوروبا وفي الوقت نفسه رأى الفلسطينيون استرخاء الحكومة البريطانية أمام الإرهاب اليهودي الذي أخذ يصل إلى الحد الذي تطاولوا على الإنجليز أنفسهم كما علموا بقيام حركة يهودية واسعة النطاق للتسلح بمعرفة الانجليز ومساعدتهم بينما ظلت أنظمة الطوارئ والقوانين الاستثنائية تطبق ضد الفلسطينيين([2]) فقط ولم ير الشعب الفلسطيني من الحكومة الإنجليزية أي عمل يدل على تغيير في سياستها الاستعمارية.
لم يعد في وسع الشعب الفلسطيني السكوت إذ جاهر بسخطه ونقمته وتنادى أهل الرأي وأصحاب الحمية من أبنائه لبحث الأوضاع وبعث الحركة الوطنية من جديد وطالبوا الحكومة بالقضاء على الإرهاب اليهودي والسماح بتسلح العرب للدفاع عن أنفسهم كما رفعوا العرائض للمندوب السامي يطالبون فيها بالسماح للزعماء الغائبين والمبعدين بالعودة إلى فلسطين ولم يكن في استطاعة الحكومة أن تتغاضى عن شعور الفلسطينيين ويقظتهم وتهمل رغباتهم بالكلية نظراً للحالة الدولية الدقيقة وخشية من تأثرها في حالة قيام حركة مقاومة في فلسطين فخففت من تطبيق أنظمة الطوارئ والقوانين الاستثنائية على العرب وأطلقت لهم حرية العمل وتأليف الأحزاب السياسية وعقد المؤتمرات وأفرجت عن أفواج من المسجونين والمعتقلين وسمحت لعدد قليل من الزعماء الوطنيين المعتدلين بالعودة إلى فلسطين.
تنفس الفلسطينيون الصعداء وشعروا بأن الفرصة أصبحت سانحة لبعث الحركة الوطنية وتجديد النشاط السياسي.
كان الوضع العام في فلسطين عام 1943م مواتياً للتنظيم والإعداد وساد الفلسطينيين شعور وطني جارف وتملكت نفوسهم حماسة عظيمة وكانت الأموال موجودة بوفرة بين أيديهم وكان السلاح يعرض للبيع بكثرة وبأسعار رخيصة للغاية بسبب وجود الجنود البريطانيين ومعسكراتهم الكثيرة في فلسطين واتساع حركة نقل الأسلحة والعتاد عبر فلسطين إلى المستعمرات الإنجليزية يضاف إلى ذلك وجود عدد كبير في فلسطين من الشبان الذين تخرجوا من المعاهد العلمية العليا والمدارس الثانوية والمهنية حتى كادت فلسطين تضاهي سائر الأقطار العربية في عدد المثقفين والمتعلمين من أبنائها وفي الوقت نفسه كان مستوى المعيشة قد ارتفع بين أفراد الشعب عامة واتسعت أعمال الفلسطينيين التجارية والمالية والزراعية والاقتصادية وغمرت البلاد نهضة اجتماعية وثقافية كانت ذات أثر إيجابي ملموس في أوساط الشعب.
أعرضت الحكومة الإنجليزية ثانية عام 1944 عن تلبية طلب الفلسطينيين السماح لزعمائهم المعروفين بالعودة إلى البلاد دون أن تذكر أسباباً لذلك الرفض نظراً لخطورة الوضع الذي كانت تجتازه فلسطين وقضيتها حينئذ ولاهتمام الفلسطينيين بالمصلحة العامة.
اتجهت أنظار الشعب الفلسطيني إلى قيادة بديلة من الفعاليات المقيمة داخل فلسطين وبصورة خاصة إلى طبقة الشباب المتعلمين لبعث الحركة الوطنية وتنظيم النضال القومي والسياسي بعد أن يئسوا من عودة القيادة المبعدة في الخارج والواقع أن أنظار الشعب اتجهت بصورة خاصة إلى هؤلاء الشبان المعروفين بالطبقة المثقفة.
لقد علق الشعب الفلسطيني آماله عليهم وعلى الذين كثيراً ما تحدثوا في المحافل والمجتمعات عن استعدادهم للبذل والتضحية في سبيل الوطن وأعربوا عن رغبتهم في العمل في الميدان القومي وكتبوا في الصحف والمجلات عن فوائد تنظيم الحركة الوطنية تنظيماً حديثاً يكون فيها العلم والتخصص والكفاية السبيل لتولي القيادة والزعامة وحين كان هؤلاء الشبان يرددون على الملأ الاتهامات والادعاءات التي وجهت ضد عدد من زعماء ورجالات الحركة الوطنية السابقين
تركت تلك الاتهامات لسوء الحظ أثراً سلبياً كبيراً في نفوس الشعب فقد اتهم رجال الحركة الوطنية عامة أنهم بنوا الحركة على الاعتبارات الحزبية والعائلية والطائفية وأنها أوصلتهم إلى مراكز الزعامة ولذلك فإن المصلحة العليا للوطن هي العدول عن تلك السياسة سواء كانت الاتهامات كاذبة أم صادقة.
ما قاله هؤلاء الشباب وجد هوى في نفوس الكثير من الفلسطينيين وكان الناس يتوقعون من هؤلاء الشباب خدمة القضية الوطنية والإسهام في الدفاع عن البلاد ولكنهم كانوا يبتعدون عن ذلك منتحلين الأعذار الكاذبة ومنها أن زعماء الحركة وقادتها كانوا متطرفين وسلبيين وأنهم يحتكرون العمل الوطني ويبعدون عناصر الشباب المثقفة وحملة الآراء الحديثة والأفكار الحرة عن الميدان السياسي ويمنعونهم من المساهمة في العمل الوطني أو يصبحوا فيه خشباً مسندة وآلات طيعة في أيدي الزعامة علماً بأن الميدان الوطني كان خالياً حينئذ من هؤلاء الزعماء والقادة المتهمين بالتطرف والسلبية وباحتكار العمل ومنع الشباب من المساهمة في الخدمة الوطنية العامة.
كان الحاج أمين الحسيني ومعظم إخوانه في أوروبا أو في السجون والمعتقلات فقد كانت الفرصة سانحة لهم لاقتحام الميدان وقيادة الحركة الوطنية وتوجيهها الوجهة التي يدعون أن فيها خيراً للبلاد وظن الشعب أنهم سينتهزون الفرصة الملائمة فيهبون للدفاع عن فلسطين ويحملون عبء القضية وبالتالي فقد علق عليهم أمالاً كبيرة لكن هؤلاء لم يكونوا عند حسن ظن الشعب بهم ولم ينفذوا ما نادوا به ودعوا إليه ولم يلجوا الميدان الوطني المفتوح أمامهم وأحجموا عن احتمال أية مسئولية وترددوا كثيراً في اتخاذ خطة معينة أو خطوة محددة ثم تجنبوا ركوب مركب البذل والتضحية الخشن الذي يتعرض له المخلصون دائماً وأثروا الدعة والسلامة والطمأنينة على التعرض للأخطار والصعاب والمتاعب التي يشقى بمثلها الوطنيون المناضلون.
هكذا بينما كان واجبهم دخول الميدان الذي كان شاغراً مفتوح الأبواب أمامهم تقاعسوا عن القيام بذلك الواجب ونكصوا على أعقابهم حتى قبل دخول المعركة بينما أخذوا يتنافسون في الحصول على وظائف في الحكومة ولاسيما في دوائر المراقبة المستحدثة خلال الحرب ويحصرون جهودهم في الاهتمام بمصالحهم والعناية بأمورهم الشخصية وشئونهم المحلية وراحوا ينتهزون ظروف الحرب القائمة لاكتناز الأموال وتحسين أوضاعهم الاقتصادية الخاصة وإنشاء البساتين البيارات والمنازل والعمارات بل حدث ما هو أمر وأدهى حيث أخذوا يتعاونون جهاراً مع الحكومة وقبلوا الاشتراك في لجانها ومجلسها الاقتصادي على أساس المساواة مع اليهود في المقاعد والصلاحيات.
أثبت هؤلاء أن الإدعاء شيء والعمل شيء آخر وأنهم يتقنون النقد والهدم ولا يحسنون البناء والتنظيم وأن المصلحة الخاصة الشخصية فحسب هي هدفهم لا خطة وطنية لهم ولا سياسة قومية يعملون على تنفيذها ولا برنامج عاماً يسعون إلى تحقيقه فاكتفوا بالجعجعة والتشدق والتصريحات والخطب وبانتقاد القيادة الوطنية السابقة المبعدة الممثلة بالحاج أمين الحسيني ورجالاته وكانت الصدارة في نظرهم لمن كان أكثر كلاماً وأضخم صوتاً وأشد انتقادا وتنديداً بغيرهم والواقع أن حوادث الجهاد والكفاح والحركة السياسية لم تسجل لهؤلاء الشبان خدمة واحدة لبلادهم فلا هم أسهموا في الحركة ولا أمدوها بالمال ولا حملوا سلاحاً ولا أيدوا جهاداً وكان همهم الوحيد خدمة أشخاصهم ومصالحهم أما الزعماء الآخرون من رؤساء البلديات والأحزاب والوجهاء الذين كانوا في فلسطين خلال تلك السنين فإنهم بدورهم خيبوا آمال الشعب أيضاً فهم لم يتقدموا للعمل الوطني الذي أسدى له بعضهم خدمات سابقة كبيرة ولم يبعثوا الحركة الوطنية من جديد ذلك أن الانسجام والتجانس بينهم كانا مفقودين بالإضافة إلى اختلافهم فيما بينهم على الأهداف والمطالب الوطنية والتزاحم على تولى زعامة الحركة الوطنية وقيادتها الشاغرة ثم أنهم لم يكونوا جادين أبداً في خدمة القضية والبذل في سبيلها وأثروا الاهتمام بشئونهم الخاصة والمالية والاقتصادية وفهم الكثيرون منهم أن الحركة الوطنية معناها الظهور والنفوذ وتعظيم الناس لهم أما الشعب الفلسطيني فقد صدمته خيبة الآمال التي علقها على هؤلاء الزعماء والشبان فسادت نفوس أبنائه روح النقمة والسخط عليهم.
اشتد تشاؤم الفلسطينيين لدى رؤيتهم الخصوم والأعداء يتعاونون للإجهاز عليهم دون أن يهتم الزعماء والشبان إلا بمصالحهم الشخصية ولم يشعروا بسياط الخطر الجاثم على صدر فلسطين والضربات الموجعة الأليمة التي كان يسددها الإنجليز والأمريكيون واليهود إلى صميم الكيان العربي الفلسطيني وهكذا أضاع الزعماء والشباب المثقفون فرصاً ثمينة سنحت لهم لبعث الحركة الوطنية وتنظيم الجهود السياسية وخدمة البلاد وأعداد الفلسطينيين وتنشيطهم وتقويتهم ومن هنا يحتملون قسطاً كبيراً من المسئولية فيما حل بفلسطين([3]).
بعث الحركة الوطنية: اشتد الإرهاب اليهودي واتسع بعد عام 1942م وتضافر الإنجليز والأمريكيون على الإسراع بتنفيذ السياسة الاستعمارية المبيتة ضد فلسطين فانتاب الفلسطينيين قلقاً عظيماً وشعروا بأنه قد غدا من الواجب استئناف النضال ومقاومة الأخطار المتجمعة ضد وطنهم وكيانهم بكل الوسائل وشتى الأساليب.
نظراً لأن الشعب الفلسطيني لم يجد من يبعث الحركة الوطنية ويقود جهاز المقاومة والنضال لاسيما بعد خيبة الآمال التي علقها على الزعماء والشبان فقد اجتاحت فلسطين من جديد موجة عارمة من الشعور بضرورة إطلاق حرية العمل للعناصر الوطنية في فلسطين التي كانت السلطة تضطهدها وطالبوا السماح بعودة الزعماء المشردين والمبعدين ورفع الفلسطينيون مرة أخرى العرائض والرسائل للمندوب السامي وأرسلوا البرقيات إلى الوزارة البريطانية والدول العربية وزعماء العالمين الشرقي والغربي وعقدوا اجتماعات شعبية كثيرة وتظاهروا في عدة مناسبات تأكيداً لمطالبهم وإعراباً عن تمسكهم بزعمائهم المشردين والمبعدين.
اتسعت الحركة الوطنية واتخذت شكلاً جدياً ومظهراً حماسياً ولم تجد الحكومة الإنجليزية سبيلاً إلاً تلبية بعض مطالب الشعب تجنباً لانفجاره فخففت قيودها الصارمة المفروضة على رجال الحزب العربي الفلسطيني وسمحت لمن كان منهم في الأقطار العربية بالعودة إلى فلسطين وأفرجت عن الكثير من المسجونين والمعتقلين وعدلت أنظمة الطوارئ والقوانين الاستثنائية تعديلاً جديداً.
لم تنقض بضعة أيام على عودة المبعدين والمشردين من رجال الحزب العربي إلى فلسطين حتى اتصلوا بإخوانهم في البلاد وعقدوا سلسلة اجتماعات للمشاورة ولبحث وضع الأسس اللازمة لبعث الحركة الوطنية واستئناف النشاط السياسي والنضال وقرروا الاتصال بزعماء الأحزاب والهيئات المختلفة لتأليف جبهة متحدة يقف وراءها أهل فلسطين صفاً واحداً مرصوصاً كما كان الحال عام 1936م.
أوجست الحكومة خيفة من انبعاث الحركة الوطنية وسيرها سيرتها الأولى وأن يتولى أمرها الوطنيون الأحرار الذين ما برحت تعمل على إبعادهم عن تولي زمامها غير أن مصلحتها تقضي بعدم مقاومة مساعي الوطنيين وجهودهم مباشرة بل بالسعي بوسائلها وطرقها لتوجيه الحركة الوطنية والفلسطينيين ذوي الوجهة الجديدة في الأساليب والوسائل وبذل الجهود لتولية شخص أو أشخاص ممن تثق هي بهم وتعتمد عليهم ويحسن الوطنيون الظن بهم لقيادة الحركة الوطنية.
قررت الحكومة البريطانية تنفيذ هذه الخطة الجديدة بالتعاون مع أنصارها من العرب في خارج فلسطين وداخلها واتصل زعماء الحزب العربي بالأحزاب الأخرى وببعض رؤساء البلديات وطبقة الشبان المثقفين وبحثوا معهم في أمر تجديد النشاط الوطني وتوحيد الجبهة الداخلية وتأليف لجنة تنطق باسم البلاد لكن مساعي الحزب لم يكتب لها النجاح لأسباب كثيرة سيأتي ذكرها لاحقاً وعاود الحزب المحاولة في شهر فبراير/1944م مع الأحزاب وطبقة المثقفين ولكن دون جدوى.
إزاء ذلك كله واعتماداً على ما لمسه الحزب من تأييد أكثرية الشعب له ونظراً لسرعة تطور الأحوال والأوضاع السياسية واشتداد الإرهاب اليهودي في البلاد وقيام الدعوة لتشكيل الجامعة العربية قرر الحزب استئناف النشاط السياسي باسمه تاركاً الباب مفتوحاً أمام سائر الأحزاب والفئات للتعاون معه واجتمع زعماء الحزب في 8/إبريل/1944م في القدس وقرروا إعادة تشكيل لجان الحزب ودوائره وفروعه ومباشرة العمل الوطني على أساس الميثاق القومي.
أعلن زعماء الحزب تأييدهم لزعماء البلاد وانتخب الحزب مكتباً مركزياً لتوجيه الحركة الوطنية يتألف من: توفيق صالح الحسيني وكيلاً للحزب وأميل الغوري سكرتيراً وفريد العنبتاوي ورفيق التميمي ويوسف صهيون وموسى الصوراني وكامل الدجاني ومشيل عازر وإبراهيم سعد الحسيني ومحمد الجعبري وعبد الله السارة ومحمد رفيق الحسيني ورشاد الخطيب وباشر الحزب أعماله بقوة ونشاط وأخذ في تنظيم الشباب وأعاد تشكيل فرق الفتوة التي حلتها الحكومة عام 1937م وألف فرقاً كشفية ورياضية جديدة وشكل لجاناً لمقاومة بيع الأراضي ومقاطعة المنتجات اليهودية.
أرسل الحزب الوفود إلى الأقطار الشرقية والغربية للدعاية للقضية وعقد سلسلة اجتماعات شعبية دورية في فلسطين دعا فيها الأمة إلى البذل والتضحية وتجولت الوفود في المدن والقرى والعشائر تدعو الناس إلى توحيد الجهود وجمع الكلمة في مواجهة الأخطار العظيمة الجاثمة على صدر فلسطين وتدعو إلى التسلح والاستعداد وشكل الحزب لجنة خاصة للعناية بالمسجونين والمعتقلين من الثوار ومساعدة عائلاتهم واللجوء إلى القضاء للإفراج عنهم ونجح الحزب في أعماله في ظل الظروف السائدة وأعاد النشاط للحركة الوطنية والتفت جماهير الشعب الفلسطيني حوله وأظهر الشعب الحماس للقضية والاستعداد للبذل والتضحية والإقبال على التسلح مما أثار على الفلسطينيين حفيظة الانجليز والأمريكيين واليهود الذين كانوا يعتقدون أن كبت شعور الفلسطينيين خمسة أعوام كان كفيلاً بالقضاء على حركة المقاومة والنضال فشنت الصحف الاستعمارية واليهودية حملة على حركة الحزب والحركة الوطنية.
هدد زعماء اليهود بالويل والثبور وعظائم الأمور ولجئوا إلى الحكومتين البريطانية والأمريكية يحرضونهما على رجال الحركة الوطنية ويشكون إليهما الموجة اللا سامية الجديدة التي اجتاحت فلسطين بتأييد الحاج أمين الحسيني وإخوانه.
طلب زعماء اليهود من الحكومة البريطانية الضرب بيد من حديد على الفلسطينيين أما الحكومة البريطانية فقد راعها بعث الحركة الوطنية بهذا الشكل القومي وهالها تمسك الفلسطينيين بحقوقهم ومطالبهم وصلابتهم الوطنية فعمدت متعاونة مع أنصارها المعروفين إلى عرقلة الحركة الوطنية ومقاومتها فعادت إلى اضطهاد الوطنيين وزجت بعدد من أعضاء الحزب العربي في غياهب السجون واعتقلت آخرين وفرضت على غيرهم الإقامة الجبرية في المدن والقرى النائية والبعيدة عن العاصمة حيث كان مركز الحركة ورفضت السلطات الإنجليزية أن ترخص للحزب العربي إصدار صحيفة أو مجلة تنطق بلسان الحركة الوطنية ولكن الحزب استمر في جهوده رغم رفض السلطات ولم يكن الحزب ليرضى رغم تمتعه بثقة الأكثرية الساخطة من الفلسطينيين أن يظل سائر الزعماء والأحزاب والشبان بمنأى عن الحركة الوطنية وحرص على جمع الصفوف ووحدة الكلمة وإظهار البلاد بمظهر الوحدة الكاملة.
سعى الحزب للمرة الثالثة في شهري نوفمبر وديسمبر1944م إلى تشكيل لجنة عليا تمثل الشعب تمثيلاً صحيحاً وتنطق باسمه وأجرى مع هؤلاء الزعماء والشبان مباحثات استمرت وقتاً غير قصير ولكنهم لم يلبوا نداء الواجب وظلوا في جمودهم وفي معارضتهم لجهود الحزب ثم اتصل الحزب العربي بصورة خاصة بطبقة الشبان وعقد اجتماعاً مشتركاً مع عدد منهم لبحث مسألة الإسهام في العمل والتعاون معهم وعرض عليهم أن يضم بعضهم كأحمد الشقيري ومن يختارون إلى مكتب الحزب المركزي لان وجودهم في المكتب المركزي يمكنهم من ترويج آرائهم وإعلان وجهات نظرهم وتمتعهم بمركز القيادة في الحركة الوطنية ولكنهم رفضوا ذلك العرض وأعلنوا أنهم يفضلون أن يظلوا خارج الحزب وتعهدوا بتأييده في جهوده وانكشف فيما بعد بعض الأسباب الحقيقية التي كانت وراء ذلك الموقف السلبي إزاء ذلك كله استمر الحزب في احتمال عبء الحركة الوطنية والمسئولية وحده حتى خريف عام 1945م([4]).
الاختلاف الداخلي ومقاومة الحركة الوطنية: باستعراض الحركة الوطنية خلال الحرب العالمية الثانية تبين أن الاختلاف الداخلي في فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية قد أساء إلى سُمعة الفلسطينيين بين إخوانهم العرب وأضر بقضيتهم حيث أضاعوا فرصاً ثمينة كان من الممكن استغلالها لمصلحة الوطن والشعب وإعداده للنضال الذي كان لا غنى عنه.
الأحزاب الفلسطينية([5]): على أثر تجديد الحزب العربي الفلسطيني لنشاطه السياسي في فلسطين دب الحماس والغيرة في نفوس رجال الأحزاب الأخرى فجددوا نشاطهم الحزبي واستعادوا لأحزابهم كيانها ولو في المظهر فحسب بالنسبة لبعضها وعلى هذا غدا في فلسطين في عام 1944م ستة أحزاب:
1- الحزب العربي الفلسطيني المعروف بحزب المفتي.
2- حزب الدفاع الوطني المعروف بحزب المعارضين بزعامة راغب النشاشيبي.
3- حزب الإصلاح بزعامة الدكتور حسن الخالدي.
4- لجنة مؤتمر الشباب بزعامة محمد يعقوب الغصين.
5- حزب الاستقلال بزعامة عوني عبد الهادي.
6- حزب الكتلة الوطنية بزعامة عبد اللطيف صلاح.
وقد رُتبت أسماء هذه الأحزاب حسب نفوذها وقوتها في الأوساط الشعبية فقد كان الحزب العربي الفلسطيني باعتراف الحكومة والعرب والأحزاب أنفسها هو حزب الأكثرية الساحقة ويليه حزب الدفاع الوطني وكان أقوى أحزاب الأقلية وتأتى بعدها بقية الأحزاب وبالإضافة إلى تلك الأحزاب قامت في البلاد أيضاً هيئات ومنظمات ولجان أخرى اتخذت لنفسها مع الوقت صفة الأحزاب وشكلها وكان منها:
1- جمعية العمال العربية.
2- عصبة التحرر الوطني.
3- مؤتمر العمال.
4- لجنة صندوق الأمة.
5- المكاتب العربية.
وقد رُتبت أسماؤها أيضاً على أساس نفوذها في البلاد وقوتها في الأوساط الشعبية وعندما استأنف الحزب العربي الفلسطيني نشاطه السياسي اتصل بالأحزاب السياسية وطبقة الشبان الذين كانوا يسمون أنفسهم بالطبقة المثقفة لتشكيل جبهة موحدة تنطق باسم البلاد وتمثل جميع أحزابها وتياراتها فجرت عدة مباحثات ومفاوضات بين الحزب ورجال الأحزاب الأخرى ولكنها لم تؤد إلى نتيجة فلم تشكل لجنة عليا ولم تتوحد الجبهة الداخلية وظل الخلاف الحزبي هو الطاغي ودون مستوى الأخطار ورغم خطورة الأوضاع والأحوال التي كانت تهدد العرب لكن الأحزاب اتفقت على عقد اجتماعات دورية يحضرها ممثل عن كل حزب للنظر في الحوادث الطارئة لكن العرب الفلسطينيين لم يكتفوا بأنهم لم يتفقوا على تأليف جبهة موحدة فحسب بل راح بعض زعمائهم وشبابهم يقاومون جهود الحزب العربي والحركة الوطنية الأمر الذي زاد في الأضرار بقضية البلاد ومصالح العرب أما أسباب عدم الاتفاق على تشكيل لجنة عليا للبلاد ومقاومة الحركة الوطنية والحزب العربي فكثيرة نلخصها فيما يلي:
1- الاختلاف في الأساليب: كان هناك اختلاف في الرأي حول كيفية توجيه الحركة الوطنية وطرق المقاومة فقد كان من رأى الحزب العربي أن العمل العسكري هو السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد والمحافظ عليها ضد ما يهددها من مخاطر وأن التجارب والاختبارات الكثيرة التي مرت بالبلاد وقضيتها منذ الاحتلال البريطاني كانت أكثر من كافية لإقناع العرب بعدم جدوى أية سياسة أخرى تتبع فأتهم الحزب العربي وزعماؤه وقيادته بالتطرف والسلبية([6]) وكان حزب الإصلاح أقرب الأحزاب جميعاً إلى رأي الحزب العربي أما حزب الدفاع فقد كان من رأي رجاله أن الإيجابية في التعاون مع الانجليز هو أحسن السبل للتخفيف من حدة الخطر الاستعماري اليهودي وأما الأحزاب الثلاثة الأخرى فقد كانت ترتئي إتباع طريق وسط.
2- الاختلاف في المبادئ والأهداف: كان من أسباب عدم قيام جبهة موحدة بين الأحزاب هو الاختلاف على المبادئ والأهداف فقد كان الحزب العربي يرى أن يكون الميثاق القومي لفلسطين هو الدستور الأساسي للجنة الجديدة وأن يكون الاستقلال وإنهاء الانتداب هو الهدف الذي يجب أن تهدف الحركة الوطنية إلى تحقيقه وأن الارتباط بالكتاب الأبيض أو غيره من العهود والبيانات يشكل اعترافاً بالأمر الواقع ويفسح المجال للحكومة لتواصل سياسة اللف والمواربة والالتواء يضاف إلى ذلك أن الحكومة نفسها لم تكن تحترم الكتاب الأبيض لعام 1939م ولا غيره من كتبها وخططها السياسية التي أعلنتها أما حزب الدفاع ومعظم الأحزاب الأخرى فقد كانت ترى أن يكون الكتاب الأبيض لعام 1939م هو الهدف الذي يجب أن تعمل اللجنة الجديدة على تحقيقه([7]).
3- الاختلاف على تشكيل اللجنة: اختلف الحزب العربي مع سائر الأحزاب فيما عدا حزب مؤتمر الشباب على كيفية تشكيل لجنة القيادة الجديدة فقد كان الحزب العربي يطالب بأن تكون له نسبة في عضوية اللجنة تتناسب مع قوته ومركز في البلاد بينما كان الآخرون يرون أن تشكل اللجنة على أساس المساواة في عدد ممثلي كل حزب فيها ولم يكن الحزب العربي يتمسك بمسألة النسبية العددية في تمثيله في اللجنة الجديدة لأنه حزب الأكثرية فحسب بل لخشيته على سلامة القضية الفلسطينية وخوفه من أن تستولي على الحركة الوطنية أيادٍ ضعيفة مستسلمة لا يؤمن أصحابها في مقاومة الانجليز والاستعمار وكانت بعض الأحزاب والجماعات ترشح لعضوية اللجنة بعض العناصر والشخصيات التي كان الوطنيون يتهمونها بالسمسرة على أراضٍ لليهود والعمل على خدمة الاستعمار وهذا أمر لا يمكن للوطنيين أن يرضوا به مطلقاً بالإضافة إلى أن رجال الأحزاب الأخرى أرادوا أن يكون لهم الرأي الأول في ممثلي الحزب العربي في اللجنة الجديدة([8]).
4- المبعدون والمعتقلون: كان عامل الوفاء والولاء والحرص على سلامة القضية الوطنية يحمل رجال الحزب العربي على المطالبة بإصرار بضرورة عودة زعماء البلاد إليها سواء منهم من كان مبعداً أم مشرداً أم معتقلاً وطلبوا أن تكون هذه المسالة من أهداف اللجنة الجديدة ولكن الأحزاب والجماعات الأخرى فيما عدا حزب الإصلاح ومؤتمر الشباب لم تر هذا الرأي وقد طمع رجالها في تولي مراكز الزعامة.
5- عدم الجدية في العمل: كان من الأسباب الأساسية التي باعدت بين رجال الأحزاب وحالت دون قيام تعاون وثيق في تشكيل لجنة تمثل البلاد هو الاختلاف في وجهة النظر والعقيدة والمزاج والتفكير بين رجال الأحزاب والجماعات فقد كان رجال الحزب العربي والدكتور حسن الخالدي يتسمون بالتصميم والجدية والإيمان في العمل والخدمة ويغلبون المصلحة الوطنية العليا على مصالحهم الخاصة.
لكن رجال الأحزاب الأخرى كانت مصالحهم ومكاسبهم لها الأولوية وما يقومون به من عمل في السياسة هو شيء من الترف ووسيلة لتحقيق هذه المكاسب عن طريق حكومة الانتداب ومن الأمثلة على ذلك نذكر أن زعيم حزب الاستقلال في فلسطين كان دائماً في طليعة الوطنيين العاملين ولكنه ارتكب عدة أخطاء لم تكن متناسبة مع ما عرف عنه من وطنية بل دلت على عدم الجدية في العمل والاستهتار بالمسئولية فقد اختلف مع المجلس الإسلامي وكان وكيلاً له في قضاياه وقضايا الوقف ثم انتهت تلك الوكالة فراح يشكل حزباً سياسياً ليناوئه وعندما لجأ اليهود إلى القضاء لإخراج عرب وادي الحوارث من أراضيهم بعد أن باعها أصحابها من غير الفلسطينيين آل التيان لليهود لم ير عوني عبد الهادي بأساً من الظهور أمام المحكمة وكيلاً عن الخواجا أرييل اليهودي أحد خصوم العرب في تلك القضية.
لم ير عوني عبد الهادي بأساً من عقد اجتماع في بيته بتاريخ 27/يوليو/1942م حضره يهوذا ماجناس رئيس الجامعة العبرية بالقدس وهو من كبار زعماء اليهود كما حضره غيره منهم للتحدث في شؤون سياسية ومن قبيل عدم الجدية في الخدمة الوطنية والتأثُّر بالمصلحة الشخصية وعدم قبول الذين عرفوا بالطبقة المثقفة الانخراط في الحركة الوطنية جدياً وتفضيلهم البقاء على الهامش انتهازاً للفرص واكتفوا بالخطب والتظاهر في المجتمعات لعل ذلك السبيل يوصلهم إلى تحقيق بعض أغراضهم وظلت التصريحات والخطب والبيانات والتهديدات طريقة بعض هؤلاء حتى بعد تسلمهم مراكز رسمية.
كان من شأن عدم اتفاق الكلمة بين زعماء الأحزاب ورجالها أن حصل خلاف بين الأحزاب أدى إلى مقاومة بعض الأحزاب للحركة الوطنية والحزب العربي الذي كان يتولى قيادتها.
أوعزت الحكومة إلى عدد من أنصارها المعروفين في داخل فلسطين وخارجها بالدس على رجال الحركة الوطنية والعمل على تشويه سمعتهم في الأوساط العربية في فلسطين وسائر الأقطار العربية ذلك أن تشويه سمعة العاملين ورجال الحركة الوطنية الفلسطينيين يؤدي إلى تبرم الشعوب العربية بالفلسطينيين فيخبو حماسها في تأييدهم ويدخل الشك إلى نفوس أبنائها في سلامة الحركة الوطنية وأهدافها ونظراً لأن من طبيعة الشعوب أن تخاف الحكومة وتحترم رغباتها واتجاهاتها ويلتف حول من تؤيدهم من الرجال والجماعات فقد أخذت الحكومة البريطانية في فلسطين تخص بعض الزعماء والجماعات بعطفها وتدعوهم إلى حفلاتها واجتماعاتها وتشاورهم في المسائل العامة وتقضي لهم حاجاتهم وحاجات من يؤيدهم.
بينما راحت تضيق على الوطنيين وتعرقل مصالحهم وتحول دون قضاء حاجة من كان يؤيدهم وكذلك لجأت الحكومة عن طريق قلم المطبوعات التابع لها والذي كان يسيطر على ورق الصحف والطباعة إلى تشجيع بعض الصحف العربية في فلسطين وخارجها على التعرض للحركة الوطنية ورجالها وشن حملات بذيئة ضدهم مقابل مبالغ معينة وكميات سخية من ورق الصحف والطباعة كان يغدقها عليهم مستر تويدى ومن بعده مستر هولم ومستر فيرنس وغيرهم من مديري قلم المطبوعات والمشرفين على الدعاية البريطانية ومحطة الشرق الأدنى مثل السيد نور الدين مرزاك وشمس الدين مرزاك الذين اعتنقا الإسلام.
أضف إلى ذلك أن الحكومة أطلقت الحرية لتلك الصحف في الكتابة ضد الوطنيين كما تشاء بينما شددت رقابتها على بعض الصحف التي أبت أن تكون عميلة للاستعمار ومنعت رجال الحركة الوطنية من إصدار صحف تنطق باسمهم وكذلك قامت الصحافة اليهودية والأجنبية بحملة دعائية بتوجيه من حكومة الانتداب ضد الحركة الوطنية والتعرض للوطنيين وقام أدوين صمويل اليهودي الانجليزي مدير عام محطة الإذاعة الفلسطينية الحكومية بتسخير تلك المحطة للطعن في الوطنيين والحملة عليهم وإفساح المجال لخصوم الحركة من بعض العرب للخطابة وإلقاء الأحاديث من تلك المحطة.
في الوقت نفسه قاد بعض العرب من الممتهنين مهنة التجسس والخدمة في قلم المخابرات البريطاني حرباً شعواء على الحركة الوطنية ورجالها يضاف إلى ذلك الوسائل والأساليب الأخرى التي اشتهر بها الاستعمار البريطاني في مقاومته للحركات الوطنية في البلاد التي ابتليت بشروره ومساوئه أما الفئات والجماعات الأخرى غير الأحزاب السياسية فإن بعضها أسدى خدمات جليلة للحركة الوطنية بينما شن بعضها الآخر حرباً عليها وأساء إلى المصلحة الوطنية العامة إساءة بالغة سواء بقصد أم بغير قصد.
أما منظمات العمال فقد انقسمت إلى جبهتين: جبهة عُرفت باليمينية وتمثلت في جمعية العمال العربية بحيفا وفروعها في مختلف أنحاء فلسطين وعملت الجبهة على تنظيم العمال العرب والدفاع عن مصالحهم وكيانهم وحقوقهم مع الشركات التي عملوا بها وخاصة شركة بترول العراق التي كان لها مصانع كبيرة للتكرير في حيفا أما بالنسبة لدائرة الأشغال العامة التابعة للحكومة فلم يكن لجمعية العمال أثر ملموس في التوجيه العام بها واعتبر زعماؤها من الذين كانوا يؤيدون التعاون مع الانجليز وأن الدعاية في الأوساط الغربية لقضية فلسطين من الوسائل المفيدة إن لم تكن الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى نتيجة.
أما جبهة العمال الثانية فقد عرفت بالجبهة اليسارية وكان لها منظمتان: عصبة العمل الوطني ومؤتمر العمال ومع أن هذه الجبهة عنيت كثيراً بشئون العمال وخدمتهم والدفاع عن حقوقهم إلا أن اهتمامها بالناحية السياسية كان أكبر وأكثر بروزاً ومما هو جدير بالذكر أن الحكومة التي أخذت في أيامها الأخيرة تنظر بعين العطف إلى جمعية العمال العربية كانت تنظر إلى الجبهة الأخرى اليسارية نظرة شك وريبة وكثيراً ما تعرض زعماؤها لبطش الحكومة واضطهادها ولم تكف الحكومة الإنجليزية عن مطاردتهم حتى تحالفت مع روسيا ضد ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية وكانت هذه الجبهة العمالية اليسارية تقاوم في الحقيقة جميع الأحزاب السياسية وتتهمها بالرجعية وبإتباع الأساليب القديمة في المقاومة ولكنها كانت تلتقي مع الحزب العربي في جهوده ودعوته لمقاومة الاستعمار مباشرة ومعارضته معارضة واضحة ومما لا يستطيع أحد أن ينكره على هذه الجبهة العمالية ما تركته من أثر في جماهير الشعب بإذكاء روح الحماس وتشجيع مبدأ مقاومة الاستعمار وفكرتها باعتباره العدو الأول للبلاد وقضيتها وكانت عصبة التحرر الوطني نشيطة جداً في بث دعايتها عن طريق النشرات والاجتماعات والصحيفة الأسبوعية التي كانت تصدرها. ([9])
موسى العلمي والمكاتب العربية والمشروع الإنشائي: لابد أن نشير إلى أمرين أولهما موقف العراق الرسمي وأنصار الانجليز من العرب في فلسطين وخارجها من الحركة الوطنية الفلسطينية وزعمائها وثانيهما المساعي التي قرر الانجليز القيام بها لتوجيه الحركة الوطنية وجهة التعاون معهم ومع الغرب.
نشير هنا إلى المؤامرة التي بيتها الإنجليز منذ 1937م ضد الحركة الوطنية وزعامتها تلك المؤامرة التي ظلوا يعملون على تحقيقها منذ وضعوها فعلى أثر الحرب العراقية البريطانية في شهر مايو/1941م اشتركت الحكومة العراقية مع الانجليز في اعتبار زعماء الحركة الفلسطينية وعلى رأسهم الحاج أمين الحسيني خصوماً ألداء للاستعمار الإنجليزي وأنصاره و يجب إضعافهم وتقليص نفوذهم والاستعاضة عنهم في قيادة الحركة الوطنية بأشخاص آخرين موالين للإنجليز لتوجيه الحركة الوطنية من حركة مقاومة الإنجليز إلى حركة تعاون مع الانجليز وحلفائهم وإقناع شعوب العرب بأن الدعاية في أمريكا وبريطانيا هي الوسيلة الوحيدة المجدية لحل القضية وتعاونت الحكومة في العراق على تنفيذ تلك السياسة وتحقيق خطتها فوقفوا بطبيعة الحال في وجه الحركة الوطنية القائمة وأخذوا يسعون لإيجاد عناصر يولونها زعامة الحركة لتحقيق أهدافهم المرسومة.
كان موسى العلمي من شباب فلسطين المثقفين ثقافة عالية معروفاً بوطنيته ومتمسكاً بحقوق البلاد وحين كان موظفاً في دائرة العدلية في حكومة فلسطين أسدى للوطنيين الثوار خدمات جليلة اعترف له بها الوطنيون وزعماؤهم ثم استقال من خدمة الحكومة فقربه الزعماء وأخذوا يعتمدون عليه وعندما عقد مؤتمر لندن عام 1939م انتخب عضواً في الوفد الفلسطيني وكان من أكثر المشاركين من أعضاء الوفد الفلسطيني تمسكاً بالمطالب القومية وممثلاً لوجهة النظر الوطنية الصحيحة وعندما صدر الكتاب الأبيض لعام 1939م كان العلمي في مقدمة المعارضين للسياسة التي اشتمل عليها وفي طليعة المنادين بضرورة رفضه وقد انتقل موسى العلمي مع زعماء البلاد إلى العراق وأقام فيه وكان على صلة حسنة في بادئ الأمر برجال الحركة الوطنية ثم وقع بعض الفتور في العلاقات بينهم وبينه ولم تعرف بعد أسباب ذلك الفتور وقد لا تُعرف حتى يُعلنها الزعماء والمعنيون أنفسهم وكيف وقِع موسى العلمي الاتفاق المشهور مع الكولونيل نيوكمب الذي كشف أمره بنفسه في اجتماعات اللجنة التحضيرية للجامعة العربية.
على أثر انتهاء الحرب العراقية البريطانية انتقل موسى العلمي إلى لبنان وبعد مدة من إقامته في بيروت عاد إلى فلسطين وافتتح مكتباً للمحاماة في القدس ونظراً لما كان معروفاً عنه من وطنية ومن علاقة قوية بزعامة الحركة الوطنية التف حوله بعد عودته إلى فلسطين عدد من المخلصين وجعلوه مرجعاً لهم في المسائل العامة والوطنية وعندما قرر الوطنيون استئناف العمل السياسي راجعوا موسى العلمي مراراً لتولي قيادة الحركة فكان يعتذر عن ذلك ثم كلفه رجال الحزب العربي أن يعيد تشكيل الحزب ويتولى زعامته فاعتذر أيضاً وكلفه الوطنيون أن يعمل على تشكيل لجنة عليا للبلاد تنطق باسم الشعب ووعدوه بكل تأييد له فاعتذر أيضاً ثم قرر اعتزال العمل السياسي والاهتمام بشئونه الخاصة فحسب.
لم يكن يعرف المراقبون أي تفسير لموقف موسى العلمي واعتذاره المتواصل عن العمل ولم يكونوا قد علموا بعد عن اتفاقه مع نيوكمب ولكنهم أخذوا يلاحظون نشاطاً خاصاً يقوم به وأنه يكثر من اتصالاته واجتماعاته بالشباب المعروفين بالطبقة المثقفة بينما ظل يدعي صداقة الوطنيين عامة ورجال الحزب العربي خاصة وازداد نشاط موسى العلمي في عام 1942م ولكن اعتذاره المتكرر عن الإسهام في الحركة الوطنية وتولي قيادتها أخذت تثير تساؤل المراقبين واتجه نحو التواصل والتنسيق مع أفراد طبقة الشبان وبعد فترة من الزمن أخذ موسى العلمي في انتقاد الحركة الوطنية وزعمائها ودعا إلى وجوب التخلص من سياسة الماضي وإتباع سياسة جديدة والتعاون مع الإنجليز والأمريكيين وبث الدعاية في أوساطهم لكسب عطفهم على القضية الفلسطينية وإقناعهم بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني وبوجوب حل القضية حلاً عادلاً.
لاحظ الفلسطينيون أن موسى العلمي قد أعاد ترتيب أولوياته وآرائه السياسية واتجاهاته الوطنية وأسقط من اهتمامه كل ما يتعلق بالعمل المسلح ولا نستطيع أن نجزم بحقيقة العوامل والأسباب التي جعلت موسى العلمي يبدل وجهة نظره السياسية وسلوكه الوطني فقد يكون رأى أن مصلحة القضية تقتضي تغيير أساليب العمل وخطط المقاومة وقد يكون قد اقتنع مجتهداً بأن سياسة التعاون ووسائل الدعاية والإقلاع عن الجهاد قد تعطي نتائج أفضل للقضية الوطنية إلا أن ما قام به من تصرفات جعل الوطنيين في ريبة من أمره وخاصة بعد ما لمسوه من مقاومته غير العلنية أيضاً للحزب العربي الفلسطيني وبعد ما لاحظوه من أن السياسة التي يسير عليها ويدعو إليها لا تختلف عن السياسة التي كان الانجليز وأنصارهم يرغبون في أن يتبعها عرب فلسطين وفي أواخر عام 1942م.
بدأ موسى العلمي نشاطه السياسي الجديد يعاونه نفر من الشباب بمحاولة إقناع الفلسطينيين بتغيير أساليبهم في المقاومة والنضال والاستعاضة عنها بالدعاية للقضية الوطنية في الأوساط الأمريكية والانجليزية وبإتباع سياسة التعاون والتفاهم مع الانجليز والأمريكيين وأعلن موسى العلمي سياسته وخططه بإنشاء مكاتب للدعاية العربية في بريطانيا وأمريكا وغيرها من الدول الغربية وبالعمل على إنقاذ أراضي فلسطين العربية عن طريق مساعدة الفلاحين في الاحتفاظ بأراضيهم بإنشاء مشاريع إنشائية وشكل لجنتين واحدة باسم لجنة المكاتب العربية والثانية باسم لجنة المشروع الإنشائي لتحسين الأراضي وقد جاء المال المطلوب لتلك المشاريع من العراق حيث خصصت الحكومة العراقية مبالغ كبيره للمكاتب العربية والمشروع الإنشائي ووضعتها تحت تصرف موسى العلمي.
تجاوز مجموع ما قدمته الحكومة العراقية لموسى العلمي لمكاتب الدعاية والمشروع الإنشائي أكثر من مليون دينار وباشر العمل في مشاريعه وأخذ يدعو إلى تحقيق خططه وبرامجه ويروج لسياسته الجديدة في الحركة الوطنية وتوجيهها وأعلن أن السياسة التي أُتبعت في فلسطين في الماضي كانت فاشلة وأن الخير في تغيير الأساليب وتبديل الوسائل واعتبار التعاون مع الانجليز وحلفائهم هي الطرق الفاعلة لخدمة القضية واستطاع كسب عدد من رجال الحزب العربي للتعاون معه, في حين عارضه عدد من الأحزاب والهيئات إضافة إلى لجنة صندوق الأمة واعتبر مؤيدوه أن هذه المعارضة صادرة لاعتبارات شخصية وحزبية.
بعد فترة قصيرة من الزمن أخذ الوطنيون الذين أيدوا موسى العلمي يتراجعون عن مناصرته بعد أن اتضحت لهم أمور سياسته وبعد ما بلغهم عنه من انتقادات جارحة كان يوجهها في مجالسه الخاصة إلى زعماء البلاد المبعدين والمشردين ثم إلى رجال الحزب العربي وخاصة بعد تصميمهم على استئناف العمل الوطني هو الأمر الذي أدى إلى خلاف عميق بين موسى العلمي ومؤيديه الذي انشقوا عنه وشكل موسى العلمي لكل من المشروعين المكاتب العربية والمشروع الإنشائي لجنة مركزية من الفلسطينيين ضمتا عدداً من الشباب وبعض العناصر التي عُرفت بالميل نحو الانجليز ومقاومة الحركة الوطنية كذلك ضمت اللجنتان بعض رجال الحزب العربي الذين أيدوه وأنشأ موسى العلمي مكتباً مركزياً للدعاية في القدس ومكتبين آخرين في كل من واشنطن ولندن كما أنشأ مكتباً في القدس للعمل على تنفيذ المشروع الإنشائي ووضع برامج وخططاً لمكاتب الدعاية ظلت في بادئ الأمر سرية عن غير مديري المكاتب وكبار موظفيها كما ظلت التوجيهات والتعليمات التي كان يرسلها إلى تلك المكاتب سرية أيضاً.
استطاع بعض الوطنيين الحصول على تلك التعليمات والبرامج وأطلعوا إخوانهم وأصدقاءهم عليها ثم نشروها في بعض الصحف العربية في القدس ودمشق وبيروت فلما أطلع عليها الشعب ارتاب في سلامة مقاصد موسى العلمي والأهداف التي تكمن وراء مساعيه فقد جاء فيها ما يعتبر مناقضاً للمصلحة الوطنية العليا كعدم إذاعة الأنباء والتعليقات التي تسيء إلى الانجليز والأمريكيين والابتعاد عن كل دعاية تعتبر موجهة ضد اليهود وتجنب كل ما يؤدي إلى تشجيع أعمال الجهاد والقوة والحذر من إتباع أساليب أو طرق أخرى في الدعاية وغير ذلك من التعليمات بالإضافة إلى أن تلك البرامج والخطط والتعليمات لم تنص على هدف وطني أو غاية قومية ترمي الدعاية إلى تحقيقها وجعل الكتاب الأبيض لعام 1939م الهدف الأقصى للحركة الوطنية.
ازداد ارتياب الوطنيين في خطط موسى العلمي وأهدافه وسياسته عندما أخذ يملأ مراكز المكاتب والدوائر ببعض الأشخاص من الشباب الذين ثبت أن همهم الوحيد في الدنيا هو مصالحهم الشخصية وأغراضهم الخاصة وفي الوقت نفسه وبقصد تضليل الرأي العام ألحق موسى العلمي بمكاتبه بعض الشباب الذين كانوا يتمتعون بثقة الوطنيين ومن الذين عينهم موسى العلمي في المراكز الرئيسية في مكاتب الدعاية رجائي الحسيني لمكتب لندن ولكنه لم يلبث أن استقال وأحمد الشقيري لمكتب واشنطن ووديع ترزي وبرهان الدجاني وأكرم عبد الرحيم وغيرهم كما عين ادوارد عطية من موظفي الحكومة الانجليزية في السودان وسيسل حوراني وألبرت حوراني من مكتب الجنرال كلاتيون رئيس قلم مخابرات الجيش البريطاني في الشرق الأوسط الذي كان مقره في القاهرة كما وظف عدداً آخر ممن كان معلوماً عن وجود صلة بينهم وبين دوائر المخابرات الإنجليزية حتى اصطلح الوطنيون تسمية موظفي المكاتب العربية بتلاميذ كلايتون.
لم يقم المشروع الإنشائي بأي نشاط ملموس ثم لم يلبث أن انكشفت حقيقة أهدافه للشعب فازداد ارتياباً ومما تبينه الوطنيون أيضاً أن جهوداً كانت تبذل سراً لتشكيل حزب سياسي تسند زعامته إلى موسى العلمي لقيادة الحركة الوطنية وتوجيهها وتمكنت صحيفة الوحدة في القدس من معرفة برنامج الحزب الجديد وأسماء أعضائه المؤسسين ولما نشرت الصحيفة تلك المعلومات قابلها الرأي العام الفلسطيني بالامتعاض والاستياء وأدرك الأسباب التي كانت تحمل موسى العلمي والمتعاونين معه على الاعتذار عن عدم الإسهام في الحركة الوطنية.
من بين الأسماء التي وردت على لائحة أعضاء الحزب المؤسسين ونشرتها الجريدة خلوصي الخير وأنور الخطيب وأحمد الشقيري ورشاد الشوا وأنور النشاشيبي وصلاح العنبتاوي ويوسف هيكل إزاء ذلك كله اضطر الوطنيون إلى مقاومة موسى العلمي وسياسته علانية ووقع بسبب ذلك خلاف شديد الجبهة الداخلية قوبل بأشد استغراب ودهشة من أهل البلاد أن يتفق هؤلاء فيما بينهم على مقاومة الحزب العربي والحركة الوطنية رغم اختلافاتهم الخاصة الكثيرة ورغم عدم انسجامهم فيما بينهم وتباين وجهات نظرهم الوطنية([10]).
أحمد حلمي ولجنة صندوق الأمة: تأسست في فلسطين لجنة صندوق الأمة بقصد المحافظة على الأراضي الفلسطينية ومقاومة بيعها إلى اليهود وكان الفلسطينيون يتبرعون بالأموال لتلك اللجنة لشراء الأراضي المهددة أو إعطاء أصحابها قروضاً لاستغلالها تجنباً لبيعها إلى اليهود وقد تشكلت للصندوق هيئة إدارية من العناصر الوطنية المخلصة وتوقف عمل اللجنة بسبب قيام الحرب ولكن أحمد حلمي باشا أحد أعضائها الأوائل رأي إعادة تنظيم اللجنة واستئناف عملها وقد رحب الوطنيين بتلك الخطة لأن أحمد حلمي من المخلصين ومن أقرب الناس للحركة الوطنية وخدمتها وكان أحمد حلمي قد اعتزل الحياة الحزبية والعمل السياسي إلى حد بعيد وعكف على العناية ببنك الأمة الذي كان هو مديره العام ورئيس مجلس إدارته ثم اهتم بإحياء لجنة صندوق الأمة واستأنف نشاطه وجهوده السياسية العامة ولكن أحداً من المراقبين لم يكن يتوقع أن تجرف الخصومة والاختلافات الداخلية لجنة صندوق الأمة وأن ينزلق أحمد حلمي إلى حمأتها وجاءت النتائج على عكس ما ظن الوطنيون لقد كان أحمد حلمي من بين الوطنيين الذين ارتابوا في سياسة موسى العلمي وحذروا الكثيرين منها ورأوا أن المشروع الإنشائي بخططه وأساليبه لا يجدي في إنقاذ أراضي الوطن واقترح أن تدمج جهود صندوق الأمة وجهود المشروع الإنشائي في هيئة واحدة تعمل على إنقاذ الأراضي ولكن موسى العلمي لم يوافق على الاقتراح واستمر يعمل وحده ونظراً للضجة التي ثارت حول المكاتب العربية والمشروع الإنشائي اعتبر موسى العلمي أحمد حلمي من الأشخاص الذين يعارضون سياسته وأعماله ويقاومونها فأخذ يناهض لجنة صندوق الأمة فنشأ عن ذلك خصام عنيف بين المشروع الإنشائي وبين لجنة صندوق الأمة أو بالأحرى بين موسى العلمي وأحمد حلمي فلجأ كل فريق إلى جميع الوسائل والأساليب لتقوية جبهته وتعزيز وجهة نظره والواقع أن خطط موسى العلمي التي أقلقت الوطنيين أثارت أيضاً رجال الأحزاب الأخرى كما أثارت لجنة صندوق الأمة فاشتد الخلاف بين موسى العلمي ورجاله من ناحية وبين لجنة صندوق الأمة والأحزاب الأخرى من ناحية ثم تطور هذا الخلاف إلى صراع اتخذ مظهراً مالياً واقتصادياً فقد كان البنك العربي في فلسطين بإدارة عبد الحميد شومان أسدى أجل خدمة اقتصادية لفلسطين والعرب وبنك الأمة العربية بإدارة أحمد حلمي فاعتمد موسى العلمي البنك العربي عميلاً له ووضع في خزائنه المبالغ التي كانت تقدمها له حكومة العراق([11]) فأغضب ذلك بنك الأمة العربية الذي اعتمدته لجنة صندوق الأمة التي كانت مواردها ضئيلة ومحدودة فبذل أحمد حلمي وجماعة الأحزاب جهوداً مضنية لمقاومة موسى العملي ومشاريعه وشعر أحمد حلمي بضرورة تقوية لجنة صندوق الأمة بضم عناصر من الوجهاء والأثرياء والأعيان إليها لمجابهة تشكيلات موسى العلمي وفيما يتعلق بالمشروع الإنشائي عادت خطته عليه بالانتقاد المر من الوطنيين إذ كان من بين الذين ضمهم أحمد حلمي مندفعاً بروح المقاومة والخصومة إلى اللجنة عدد من الأشخاص المعروف عنهم بيع أراضيهم لليهود واقتراف جريمة السمسرة على أراضي البلاد والعمل في قلم الاستخبارات حتى أن لجنة صندوق الأمة عقدت اجتماعات عامة لإنقاذ الأراضي في بيوت هؤلاء السماسرة والباعة أنفسهم كما جرى في الخالصة والشيخ يونس وغيرهما وأخطأ أحمد حلمي خطأً بالغاً آخر في اندفاعه حيث وسع مجلس إدارة بنك الأمة الذي كان يرأسه فضم إليه رؤساء البلديات والأحزاب وعدداً من الشخصيات الذين قاوموا الحركة الوطنية والحزب العربي وتعاونوا مع الانجليز في سياستهم حتى أصبح مجلس إدارة بنك الأمة وكأنه مجلس إدارة للأحزاب الفلسطينية المعارضة للحركة الوطنية والحرب العربي.
استغرب الوطنيون ذلك الأمر استغراباً عظيماً واسترعى هذا الخلاف الشديد بين أحمد حلمي وموسى العلمي انتقاد الأمير عبد الله والمسئولين في العراق فسعوا لإزالته وحضر الأمير عبد الله بنفسه إلى القدس وجميع الرجلين لإزالة الخلاف بينهما ودعاهما إلى التفاهم والتعاون ولكن بدون جدوى وإزاء ما رآه الحزب العربي من مشاركة عضوية لجنة صندوق الأمة وإدارة بنك الأمة العربية على عدد من باعة الأراضي والسماسرة والمتهمين بالخيانة الوطنية والتعاون مع الانجليز فضلاً عن أخطاء أخرى نُسبت إلى لجنة صندوق الأمة اضطر الحزب العربي إلى إذاعة بيان على الشعب دعاه فيه إلى عدم تأييد لجنة صندوق الأمة وطلب إعادة تشكيلها من عناصر وطنية سليمة.
لبى الشعب نداء الحزب العربي وأعرض عن تأييد لجنة صندوق الأمة ما لم يعد أحمد حلمي تشكيلها ويخرج منها العناصر المشبوهة وبسبب موقف الحزب العربي وقع خلاف بين رجاله وبين أحمد حلمي زاد في لهيب الاختلافات الداخلية ولم يتورع فريق أحمد حلمي من الانهيار إلى درك الطائفية البغيض واتخاذها سلاحاً لمقاومة الحزب العربي متخذاً من انضواء معظم المسيحيين وزعمائهم الوطنيين تحت لواء الحزب العربي سلاحاً للإثارة وقد أضر الاختلاف الداخلي في فلسطين ضرراً بليغاً بالقضية الوطنية.
ولو أن موسى العلمي تعاون مع الوطنيين وأنفق قسماً من الأموال الطائلة التي كانت تحت تصرفه على الحركة الوطنية وتنظيمها وعلى إعداد الشباب وتسليحهم لأفاد البلاد كثيراً.