خطأ يا معالي الوزيرة وسوء تقدير..!

مربع نص:  
صـــالح خريســـات
خطأ يا معالي الوزيرة وسوء تقدير..!

صالح خريسات

هذه صفحة مؤلمة، أفتحها الآن، لمناسبة كتاب مقتضبٍ وصلني من السيدة نانسي باكير، وزيرة تطوير القطاع العام، وزيرة السياحة بالوكالة، وزيرة الثقافة "سابقا"، رقمه 33/15/5945 تاريخه 15/7/2009م. تعتذر فيه معالي الوزيرة، نيابة عن وزارة السياحة، عن تلبية طلبنا بشراء نسخة واحدة من كتاب، المسرات والأحزان "في التراث الشعبي الأردني"، بقيمة سبعة دنانير، لعدم توفر المخصصات اللازمة لهذه الغاية. ولا أذيع سراً، بأن كتباً رسميةً مشابهةً، وصلتني من الوزارات والمؤسسات الحكومية، والبلديات، والمكتبات العامة،كما أن أحدا من الشخصيات الوطنية والاجتماعية والسياسية ،لم يتجاوب معنا ،لا في هذا الكتاب ولا في غيره ،من الكتب ذات الصلة بالوطن وهمومه ،في الوقت الذي نشهد فيه اهتماماً واسعاً بالمهرجانات الفنية، وثقافة التسلية،ووسائل الترفيه،وتنفق عليها الحكومة بسخاء. وفي الوقت الذي نشهد فيه تنافس الرجال ،على إقامة الولائم الكبيرة ،والحفلات في الفنادق ،والنوادي الليلية ،ولا نجد في أوعيتهم إلا النفاق والأمجاد الكاذبة .ثم ندعي المعرفة ،ونجلس على الأرائك متكئين، نشرح للشعوب الأخرى تجربتنا الثقافية ، ونعلمهم أسباب التقدم ..!

وبدوري أطرح هذا الموضوع للمناقشة، على اعتبار أن الثقافة، هي الركيزة الأولى في عوامل التنمية والتطوير.بيد أن حظها في بلادنا، كحظ ذلك الرجل الفقير، الذي تحدثت عنه الأساطير الإغريقية، حين سأل ربه غضبانا،لماذا أنا فقير ؟ فأراد الله أن يسعده، فجعله يفقد حماره،.. ثم يجده!فعلم مقدار حظه من الحياة،..

انه لو قيل لنا بان وزارة السياحة وحدها، من بين الوزارات،ليس لديها مخصصات لشراء نسخة من كتاب وطني،يصلح أن يكون مادة ثمينة للسياحة، كان الأمر طبيعيا، ونصدقه بسهولة.لكن إذا قيل لنا بان كل الوزارات والمؤسسات الحكومية،والبلديات، ومراكز البحث العلمي،ليس لديها مخصصات لشراء نسخة من كتاب وطني، فهذا أمر لا نصدقه.

 إن وزارة السياحة تنفق مئات الألوف، على البروشورات،والمواد الدعائية هابطة المستوى، ولا نجد فيها جملة مفيدة. ويكاد المرء يشعر بالأسف، حين لا يجد في الوزارة مادة علمية تؤرخ للتراث الشعبي الوطني،إذ كان من المفترض أن تكلف الوزارة عددا من الباحثين، لمثل هذا المطلب الضروري في خدمة السياحة، ولكن يبدو أن مفهوم السياحة وعلومها،لم تتجاوز لدى المعنيين في وزارة السياحة ، حدود صور البتراء التي هي ليست من صنعنا نحن،وجميع الصور السياحية ، التي توزعها الوزارة ، لا فضل لنا فيها ، ولا دور، بل إننا نقتات على فضلات الأموات ،وأطلالهم .ولو أن أحدا ادعى بان هذا الوطن ،ليس للأردنيين ،لكانت وزارة السياحة أول شاهد إثبات في هذا الادعاء،بما تقدمه من نشرات سياحية ، فهو للعرب الأنباط ،وهو للرومانيين ،وهو للأمويين ،..فماذا بقي لنا من أسباب هذه الدولة ؟ إنني هنا اقترح عقد دورات لهم، أو إرسالهم في بعوث إلى الدول الواعية في مفاهيم السياحة،كعلم مستقل له شأنه في دعم الاقتصاد الوطني. إن من المغالطات المقصودة ، والتزوير المصطنع، في الفكر والسياسة،أن لا يكون الوزير مختصا في شؤون وزارته.إننا لا ندري كيف ترسخ هذا المفهوم المضلل،في أذهاننا ، وقبلنا بفكرة أن الوزير منصب سياسي فقط، وليس بالضرورة أن يفهم في شؤون وزارته.لماذا هو وزير؟! كيف يمثل الدولة ؟!كيف يشارك في المؤتمرات ؟كيف يتخذ قراراته ؟ومن يمليها عليه؟.

إن بعض المسؤولين،من أولي الحظ العظيم، ليس عندهم ما يقولونه،كما أنهم يفهمون وظيفتهم على أنها مجرد ظهور وسط الأضواء، وبدلا من القيام بواجباتهم، يفضلون العمل كموظفي استقبال، ويتلذذون بما تذيعه عنهم وسائل الإعلام، استقبل،عقد، شارك،..وهذا بالنسبة إليهم كافيا لإثبات جدارتهم في العمل الوظيفي ، والناس بالمظاهر ينخدعون . ولشد ما يغيظنا،أن نحاول هؤلاء بالأسباب والبراهين،ونعاني الآلام في إقناعهم،بان لهم في حياتنا دور مختلف،هو غير الدور الذي يمارسونه أمام الكاميرات، وفي المواقف الاجتماعية الزائفة،ثم يتضح لنا آخر الأمر أنهم لا يريدون سماع أصواتنا، وانه ينبغي لنا أن نتصل برغباتهم لا بعقولهم، ومن هنا كان المنطق عديم الفائدة، لأنه يستحيل عليك أن تقنع أحدا لا يريد أن يقتنع، فلكي تقنع إنسانا يجب أن تلجأ إلى مصلحته الشخصية، والى رغباته.  إنني اذكر حادثة طريفة عجيبة،أرجو أن يتسع المجال لذكرها،فقد وضع الدكتور سحبان خليفات كتابا حجمه صغيرا، لا يتجاوز سبعين صفحة،عنوانه الديمقراطية في الأردن، وهو في الأصل محاضرة ألقيت في احد المراكز الثقافية، وكان سعر الكتاب زهيدا "750"فلسا،و لم نجد وسيلة لتصريفه، واعتذرت الوزارات والمؤسسات ومديريات التربية عن اقتنائه. وفجأة تولى وزارة التربية والتعليم، وزيرا جديدا ،وبدون سابق إنذار قامت الوزارة بشراء جميع نسخ الكتب المتوافرة في دور النشر، التي تحمل العنوان نفسه،وحضر موظف كبير من وزارة التربية والتعليم، أصبح فيما بعد أمينا عاما للوزارة،واشترى جميع النسخ الموجودة، وقد غالينا بسعرها، فدفع ضعف السعر المقرر من الوزارة،وقد حسبنا أن الوزارة جادة في ترسيخ مفاهيم الديمقراطية في النشء الجديد ، ثم علمنا فيما بعد،أن الوزير الجديد ، كان قد وضع كتابا بالعنوان نفسه ، ويريد أن يسوقه لدى مديريات التربية التابعة لوزارته،وهذا ما حصل ، فقد ألزمت جميع المديريات بشرا كتاب معالي الوزير ، بسعر مرتفع، وحسب عدد المدارس الثانوية والإعدادية التابعة لها، وكانت سيارات مديريات التربية، تقوم بتامين الكتب، وتحصيل الشيكات،وتوصيلها إلى وزارة التربية والتعليم الموقرة،..وتم التصرف بالكتب التي تحمل العنوان نفسه ،.يا حسرة على الفقير!.

إن الوزير موظف،له ميوله الخاصة .أما الاحتفاء بالرجال وتكريمهم، فيكون للمبدعين منهم ،الذين يخرجون على القاعدة العامة، ويأتون بأعمال خارقة، ويطيقون ما لا يطيقه الناس. إن الذي يجب أن يكرم ليس الوزير المؤدب ،الذي لا يخطئ، لأنه لا يعمل، أو لأنه يخشى على أناقته أمام المدراء الآخرين، وكبار المراجعين، وليس الموظف الذي يؤدي عمله كالآلة دونما رغبة منه في التجديد والتطور، وليس الموظف الذي كان يحمل شهادة متواضعة في التعليم ، ثم استطاع بمساعدة بعض المتنفذين في إدارته، أن يكمل تعليمه ويحصل على درجة الدكتوراة ، ليتولى منصباً رفيعاً في مؤسسات الدولة، إذ يكفي أن نسأله كيف استطاع أن يحضر جميع محاضراته، على مدار أربع سنوات، وكيف استطاع أن يقرأ ، ويكتب أبحاثه، وفي الوقت نفسه يكون موظفاً مخلصاً، أليست هذه منتهى الأنانية، عندما تترقى على حساب وظيفتك، ثم تطالب بمساواتك مع الآخرين ؟إن هذا المرض الذي نسامح به أنفسنا ،يجب أن ينتهي من حياتنا ،..

 إن الذي يجب أن يكرم، وتدعمه الحكومة ،وتحترمه، هو الشخص الذي يعيش من إبداعاته، ولا يتقاضى أجراً من الدولة، كالفلاح في حقله، أو المزارع في مزرعته، أو الفنان في فنه، أو الشاعر في شعره، أو كالكاتب، أو الأديب، أو الصحفي، أو الرياضي، أو العالم في مختبره، أو الطبيب في عيادته،.. إن تاريخ العالم الحديث يظهر لنا أن النهضة العلمية، والصناعية، والمخترعات، والمكتشفات، كان أساسها فئة من الرجال العباقرة، الذين جاهروا برفض كل أشكال الفكر الجاهز، وتمردوا على العادات والتقاليد البالية، وأدخلوا قيماً جديدة ،ساهمت في تطور المجتمع وترقية الحياة، وتحملوا في سبيل ذلك شتى أنواع العذاب، فمنهم من أحرقت كتبه، ومنهم من أحرق حياً، ومنهم من أدخل السجن أو تم نفيه، لكن أياً منهم لم ينهزم ، أو يتراجع خطوة إلى الوراء، فحق لهم أن يكرموا وأن نفسح لهم في حياتنا.

 كنا نجد إلى حدود الخمسينات، رجال ثقافة وفكر من نمط الشخصية الكبيرة،ذات التأثير الواسع على الجماهير، والنخب المثقفة، أما الآن، فإن ما نجده وسط فكري فقط، تلتقي فيه عدة روافد، وتسيطر عليه فئة مهمشة، من طرف الساسة، والجماهير، ولا تكاد تخرج من قمقمها ،أو تنهض عن مقعدها، خوفاً من أن يكتشف أمرها، فتتبدل أوراقها، فهي لا تعمل الآن، ولكنها تتصدى للوسواس الخناس، الذي تثيره أعمال المبدعين، ولا تكاد تثابر على البحث المتخصص، لأنه ليس عندها من جديد أو مفيد، وتقبل أن تظهر في الوسط العلمي المتقدم، بمظهر المدرس الصغير، مقابل أن تبقى في موقعها المسؤول، ولطالما أصرت هذه الفئات، أن تصحب معها بعض المبدعين، ليؤدوا عنها دورها في المشاركات العالمية، حين توجه الدعوات إلى المؤسسات العلمية.

لقد فهمنا من أساليب تطور الأمم والشعوب،انه لا يهم كثيرا أن تمتلك الدولة عددا كبيرا من الوزارات، التي ستكون ببساطة، وسائل استنزاف لاقتصاد الدولة.إن الحكومة إذا وضعت الوزير المناسب في المكان المناسب، فلسنا بحاجة إلى مجلس للنواب.من المهم للغاية بالنسبة إلى المسؤولين في الدولة، أن يدركوا أن تطور شعوبهم وتقدمهم، يعتمد بقدر اكبر على إبداع أفرادهم وفكرهم الخلاق.إن الوزراء والمسؤولين، لا يرون إلا السلطة والانتفاع بها،فإذا خسروا مقاعدهم، انقلبوا إلى صفوف المعارضة،وأوغلوا في نقد الحكومة القائمة،..وببساطة،فان هؤلاء، يستمتعون للغاية بوجودهم في دائرة الضوء، إلى الحد الذي يمنعهم من السماح لغيرهم بدخول هذه الدائرة.

إن المرء ليستغرب أحيانا، هذا الموقف غير المسئول وغير المبرر، الذي يجابه به حملة مشاعل الإصلاح والتنوير في بلادنا،وكان الحكومات التي تأتي هدفها منع التطور ورفض أسبابه،حتى بدا واضحا صعوبة اختراق المتاريس التي أقامها أصحاب النظريات الإنشائية.لماذا تمارس الحكومات دور اللامبالاة بالمثقفين،وتحقر شأنهم ؟لماذا لا نجد كاتبا يعيش من قلمه؟ من المسؤول عن الوضع المتردي للشأن الثقافي ؟انظروا إلى محطتي الإذاعة والتلفزيون كيف فقدتا جمهورهما، فلا يكاد يحفل بهما احد من الجمهور ؟ ما الذي يجعل الناس يتحلقون حول محطات الجزيرة، والعربية، وال بي بي سي، على الرغم من إن المذيعين، والمخرجين، والكتاب، أردنيون ؟لماذا يظهر إبداعهم في تلك المحطات،ولا يجدون لهم مكانا بين ظهرانينا ؟! انظروا إلى مستوى ما يكتب على ظهر الصحف ؟مئات الاطنان من الورق يذهب هدرا كل يوم،ولا نجد فيها فكرا مضادا لأي من الإمراض الاجتماعية،التطرف،البذخ،التخلف،..؟ إن هذه القوى المحظوظة،التي يتم اختيارها في السلطة، وفقا لمعايير غير مفهومة،تؤثر على الإخلال بتوازن الدعائم الأساسية،التي يقوم عليها الإصلاح والتطوير.هذا الكلام ينسحب على الشأن التوعوي، والفكري والمعرفي،ويندرج تحت غطائه أساليب الإدارة، وطرائق التفكير.انظر إلى المسئولين والمتنفذين في وسائل الإعلام، في الإذاعة،والتلفزيون، وغيرها من مؤسسات الدولة .إن هؤلاء لا يملكون أدوات الفكر والمعرفة، ولكنهم ينفردون بقراراتهم،ويمارسون السلطة بطريقة سلبية،تمنع كل أسباب التطور، ولا يجد النقد إليهم سبيلا. من وضعهم في مواقعهم ؟! وما هي حيثيات اختيارهم ؟!كيف يعملون ؟من الرقيب عليهم ؟ما الذي قدموه على مدار ربع قرن من الزمان ؟! إن كل شي في الحياة يتطور ويتقدم بتقدم الإنسان.وان كل خطوة إلى الإمام قوة،وكل خطوة إلى الوراء ضعف.إن كثيرا من الناس ليست حياتهم إلا يوما واحدا متكررا، برنامجهم في الحياة، أكل وشرب ونوم، أمسهم كيومهم،ويومهم كغدهم.ما الذي يطورهم ؟!هؤلاء إن عمروا مئة عام،فماذا يفيدون الأمة ؟ّ!أما المفكر فقد يوفق في يومه إلى فكرة تسعد الناس أحقابا،أو إلى عمل يسعد ألافا.إن الذي اخترع الأسبرين وخفف آلام الملاين من البشر، لم يكن وزيرا، بل كان كاتبا مفكرا،ومثل ذلك كان غاليلي، وابن سينا، والرازي،..

إن حياة الإنسان، حياة تطورية حركية، تنمو نحو التقدم والرقي، ولمثل ذلك أوجدت الحكومات وزارة خاصة تعنى بشؤون التطوير، إذ إن الفرق بين الإنسان البدائي والإنسان المتحضر، إنما يكمن في أسلوبه في الحياة، وفي منهجه في التفكير، أي أن هذا الفرق إنما يتمثل في تطور عقليته، وليس في سياحته، وأمة لا تقرأ، أمة لا ترقى، وكما يظهر في التوقيع، فإن الوزيرة باكير، معنية بتطوير القطاع العام، فكيف يكون ذلك ممكناً، بعيداً عن الاهتمام بالعقل والمعرفة وطرائق التفكير!

إن الخالق سبحانه وتعالى، حين أراد أن يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويخرجهم من الجهل والظلام، أنزل عليهم كتاباً يذكرهم بما كان عليه أبائهم وأجدادهم، من سوء الفهم وقلة الدراية،على الرغم من أنهم كانوا يسيحون في البلاد، ولكنهم لم يتطوروا.بل إن الله حين أراد أن يعذب بني إسرائيل، جعلهم يسيحون في الصحراء أربعين سنة، وحين أراد إنقاذهم أنزل عليهم الصحف. فليس مقياس التطور،السياحة،أو ما تنفقه الشعوب من صابون وطوابع بريد، أو مسابح وفنادق فارهةٍ، بل لابد من عامل المعرفة والثقافة، وبقدر ما تكثر معلومات الشعوب، يكون حظهم من التطور والتقدم أوفر. إن الهمجي هو الذي لا يقرأ، ولا يفهم شيئاً، ولا يعنيه ما كان عليه الناس من قبل، وبحسب ما تذكره مصادر التاريخ والحضارة، فإن الفرق بين الشعوب المتطورة، وبين الشعوب المتأخرة، وهو مقدار ما تنفقه في سبيل النشاط العقلي، وتشجيع الثقافة الأدبية، والفنية، والعلمية، فالإنسان المتطور، هو الذي يرمي ببصره إلى المستقبل،ويتبصر الكتب،ويقرأ ما فيها، ليستفيد ويفيد، بينما يتميز الإنسان المتأخر، بأنه يعيش كل يوم بيومه، ويسرف في اللعب والتنزه، وقد عاب القرآن الكريم على الناس مثل هذه الحياة، ووصفهم بالحماقة،والجهل، بل هم كالأنعام أو أضل سبيلا، وذمت كتب الفكر والفلسفة، هذا التصرف الذي لا يليق بإنسان يسعى إلى تطوير نفسه.

إن التطور والرقي، بمفهومه الحديث، هو الفن والعلم والأدب والفكر وليس السياحة والمهرجانات الفنية. فالثقافة وحدها،هي العامل المتصرف في مقدار التطور والتقدم. إن مسافة التطور والتقدم، بين ابن الريف وابن المدينة، تظهر في مقدار ما يتوافر لكل منهم من فرص الثقافة والمعرفة، على الرغم من أن الريف هو ميدان السياحة، ويذهب إليه الناس في أوقات فراغهم. إننا لا نجد أمة من الأمم تطورت وتقدمت بفعل عوامل السياحة. إن الفكر ومعرفة الحق والجمال والفضيلة والعدل، يضاف إليها عامل الآداب والفن، هي معايير تطور الأمم. إننا نحمد الله أن قيض لنا شخصاً بحجم نابيلون، يغزو بلاد الشرق، ويجلب معه في حاشيته، رجال العلم والأدب والتاريخ وعلماء الآثار، فأنشئت بفضله أول مطبعة في بلاد الشرق، ثم جرى التطور بفعل البعوث إلى أوروبا، وبفعل الجامعات التي أنشئت في بيروت، كالجامعة الأمريكية، والجماعة اليسوعية، فهي وحدها ساعدت على بعث النشاط العقلي، وتطوير ابن الشرق، ولم يكن ذلك بفعل السياحة، لعدم توفر المخصصات اللازمة،.. إنه لابد من الاعتماد على المفكرين والمثقفين في بعث النشاط العقلي، لأن العمل على التطوير بدونهما تنحصر نتائجه في نطاق ضيق لا يحقق الآمال المرجوة. إنه لابد من فئة متهيئة بالعلم والتجربة. إن الغرب قد يحمل إلينا ألوان العقاقير الشافية لعلل الجسد، وغرائب الاختراعات، ولكنه لن يحمل إلينا دواء أو اختراعاً يشفي من الجهل، أو ما نشعر به في أنفسنا من العلل الفكرية،إن حياة الكتّاب والأدباء، بسوء تقدير ممن يتولون أمورهم، أصبحت كلها ركضاً واضطراباً وقلقاً وذعراً، فالأمم الراقية، تتسابق في ميادين دعم الفكر والثقافة والأدب والاختراع،وتتباهى بما لديها من فنون وآداب راقية ،وفكر حر، بينما انقلب الزمان في بلادنا على رؤوس هذا النفر من المفكرين، ليصبح ليلهم سعيراً، ونهارهم قمطريراً، ولا تجد في خزائن الدولة ما يساعدهم على الاستمرار في التفكير، والمشاركة في عملية التطوير، لأن هذه الفئة خرجت بزعمهم عن خط السير المقرر،أو أنها لا تجيد فن الاتيكيت، والمجاملات .إننا ما زلنا نقتات على فضلات الدولة الأموية والدولة العباسية، بما قدموه من تشجيع للفكر والأدب والفن،ومما يؤسف له إننا حين نريد محاجة الغرب ومفاخرتهم بما قدمناه للعلم والأدب والإنسانية،فإننا نلجأ إلى الفن المصري ،أو الأدب المصري،والأدب العراقي،والسوري ،واللبناني ،أو أننا نلجأ بلا خجل، إلى العصرين الأموي والعباسي،وقد ذهبت أموالهم، ومناصبهم، وقصورهم،وسياحتهم، وبقي ما لا يفنى أبدا، وهو الفكر والأدب ،والفن . لماذا لم يستقر لنا أدب خاص؟ لماذا لم يستقر لنا فن خاص؟ من المسؤول ؟ أين دور الوزراء ؟أين بصماتهم ؟ إن الشعوب إذا ما داهمتها المصائب والنكبات، فإنها لا تجد بداً من اللجوء إلى الكتّاب والأدباء، ليخففوا بعقاقيرهم السحرية عن الشعب وآلامه وجراحه، فينهض الشاعر، وكاتب القصة، والراوي، والفنان، والمفكر، بينما ينام الآخرون في سبات عميق،..

إن احترام الكتّاب والأدباء، وضع أوروبا في مكان الذروة من القوة والمال ونفوذ السلطان، بينما ظلت شعوبنا تعيش حالة أشبه ما تكون بالعصور الوسطى، بسبب التخلف والجهل، وبذلك أصبحت آراء الكتّاب والمفكرين موضع السخرية والنزر. وقد دفعهم تخلفهم الثقافي في كثير من الأحيان إلى التورط في محاربة الفكر والمعرفة وعوامل النهضة. إننا لن نسلك السبيل القويم إلى التطور والتقدم، إلا إذا تغيرت نظرتنا إلى الحياة إن السماء التي تعلو فوقنا، هي السماء نفسها التي تعلو فوق العالم الغربي، والشمس التي تشرق علينا، هي نفسها التي تشرق عليهم، وكذلك الليل والنهار والكواكب والنجوم وتقلبات الطقس، فما الذي يجعلهم يتطورون ويسيرون إلى الأمام، بينما تتخلف شعوبنا وتسير إلى الخلف؟ من خدعهم ؟!من أعمى بصرهم ؟! ما هي الأسباب التي تمنعهم من التقدم إلى الأمام ؟!.

و إن أول جوانب التقصير، طلعت علينا، في أعقاب انتشار موضة الألقاب العليمة،وصدقتها الحكومات ،وهي لا تدري مغزاها،.. ففي كل يوم نفاجئ بطريقة أخرى لمنح درجة الدكتوراة، تارة بالسفر مدة أسبوعين، وتارة أخرى بالمراسلة بالبريد، ثم بالتعلم عن بعد. لقد حاول هؤلاء استثمار شهاداتهم، فأخذوا مكان المفكرين وكبار الكتّاب والأدباء، الذين انسحبوا بدورهم من ميادين العلم والمعرفة، احتراماَ لثقافتهم، وكانت هذه الواقعة، نذير شؤم بما سيحل بالفكر والأدب، إذ انخدعت بهم الحكومات المتعاقبة، فلم يحملوا معهم إلا المشكلات المعقدة. كنت أستمع إلى برنامج إذاعي ،فكانت الإشارة..الإعداد الدكتور ,.. التقديم الدكتور ,..الموسيقى الدكتور ...الإخراج الدكتور ،..وبقي أن نقول ، المستمع الدكتور الجمهور،..

 والتقصير الآخر، جاء من الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية والفكرية، التي لم تتوافر أسبابها الحقيقة، ولم يجد الكتّاب والأدباء ما يساعدهم على الاستمرار في الإبداع. فالحكومة حتى هذا التاريخ، لم تشعر بحاجة إلى التوسع والامتداد المعرفي، ولم تهيئ لهذا الأمر أسبابه، ولم تعد له العدة الكفيلة بتحقيقه. إن الكتّاب والمفكرين في بلادنا، ليسوا قاصرين، وهم شغفون بالدقة العلمية، ويتحرك فيهم الفضول العلمي، وتجيش فيهم حب المغامرة. لكن هذه الروح لا تجد ترحيبا من الحكومة، أو من القائمين على الشأن الثقافي، والمعرفي، والتطوري. فالمشكلات وجوانب التقصير، لم تكن قط وليدة الصدفة، فقط عرف الكتّاب ألواناً منها،وهي مستمرة في بضعة أجيال،..

قبل ربع قرن من هذا الزمان، كانت ضواحي المدن الكبرى، مجالاً لنشاط عارمٍ تجلى بأعمال الفكر والأدب والفن، التي أخذت تزداد أكثر فأكثر، مع ظهور مبدعين من أجيالٍ جديدة، كانت لهم مواقف مختلفة من قضايا الفكر والسياسة، وكان من بينهم الشعراء، الذين حاولوا أن يتلمسوا طريقهم وسط فلسفة قبول الشعر، أو رفضه. لم يشعر هؤلاء بأية مشكلة تدفعهم إلى التوقف عن محاولاتهم في الإبداع، إذ لم يكن يتوافر لديهم أي اختيار بين إمكانياتٍ عارضةٍ متنوعة، فوجدوا أنفسهم خاضعين لاجتذاب الفكر والأدب وسحره. وأمام حاجة الجماهير للمعرفة، وسبل تحليل الوقائع، راح المفكرون والكتّاب يتلمسون ضالتهم في الثقافة الغربية، كما أن حاجتهم للمعلومات اضطرتهم للعناية بنشر الكتب الموضوعية،ذات الصلة بالفكر المعاصر، كما حاولوا ترجمة روائع الأدب الأجنبي، ولاسيما للمشاهير منهم. ثم إن حرج الوضع المعرفي المتواضع، أرغم بعضهم على السفر لاقتناء بعض الموسوعات، كما أرغم فريق آخر على تأمين الكتب بأسعار مرتفعة. ويجب أن لا نغفل عن ذكر أسباب أخرى شجعت على هذا الاندفاع الفكري والأدبي، وهي تشجيع كبار رجالات الدولة، والشخصيات السياسية، واحترامهم لهذه النخبة المثقفة. فهذا التشجيع والتكريم، كان يعوض عليهم بعض ما كانت عليه أوضاعهم، من خسة الرزق، وضنانة العطاء، إذا ما قيس ذلك بكثير من الموظفين في الدولة، وبخاصة من يجلسون في الصفوف الأولى من مقاعد الوظيفة، لذا راودت أذهان هؤلاء القوم أحلام السفر بحثاً عن الرزق. بالإضافة إلى هذا كله، نظم أنصار الفكر والأدب، الوضع المعرفي في البلاد. وبدون خطة واضحة سابقة، راحوا يهيئون، على شيء من التنظيم، الأجهزة اللازمة لمساعدتهم على الإبداع، وفي الوقت ذاته أخذوا يقومون بسفرات ثقافية إلى البلاد التي احتوت بذور المعرفة في تربتها ورعتها. وقد كان لهذا النشاط المعرفي، وقع كبير على التقدم الثقافي، كما ظهر في السنين اللاحقة.

لقد كانت عمان مركز هاماً للحركة الفكرية والثقافية، قبل أن تتحول إلى مركز تجاري، استثماري،سياحي، ترفيهي، أكثر منه ثقافي. وفي لحظة مقارنة، نكتشف بأننا لن نستطيع الآن تحقيق أي تقدم معرفي، إلا بفضل التطورات العلمية والتقدم التقني، الذي يساعد على النهوض به وتحقيقه، على أكمل وجه عوامل فكرية، وظروفاً اقتصادية مؤاتية للغاية. وما نخشاه الآن، أن يكون النشاط الفكري والعلمي، معزولاً أو غريبا عن اهتمامات الحكومة، بدليل ما توصلنا إليه من الكتب الرسمية، وكتاب معالي الوزيرة بخاصة. بينما يؤشر تاريخ الأمم المتقدمة، بأنهم استفادوا كثيراً من المفكرين والكتّاب، في بعث نهضتهم. كثيرون هم في بلادنا الذين يجمعون بين الخبرة والتجربة والعلم، ولكن ينقصهم التشجيع المعنوي، والتمويل اللازم للاستمرار في أداء رسالتهم، وكثيرون هم الذين يرغبون في طلب العلم وجمعه، ولكن تنقصهم الفرصة. وكثيرون من هم بمقدورهم القيام بالبحث العلمي، ولكن تنقصهم المعلومات الضرورية لغايات البحث، وينقصهم المال اللازم.

كيف يكون اجتياز تلك الصعوبات أمراً ممكناً؟ كيف نطمأن إلى الفكر والمعرفة، وقد تعهدها أشخاص لا خبرة لهم، ولا تجربة،ولا مغامرة،في الواقع الثقافي؟! متى يأخذ القوس باريها؟!.. إننا نحتاج إلى بعث جديد!