المنظور الإسلامي للبيئة
( الخامس من يونيو ) اليوم العالمي للبيئة
محمد رحماني
تعددت طرق الفهم من مراد البيئة بسبب تعدد طرق الدراسة والبحث والتحليل ، ولعل ذلك من مميزات المصطلح الدسم عن غيره من تلكم المصطلحات التي لا تقوى على لفت الانتباه إليها ووضع الإشكاليات حولها ، فقد عُولج موضوع البيئة من المنظور الاجتماعي فأعطى فيه وعولج من المنظور الاقتصادي والسياسي وحتى النفسي فكان ثريا فيما ينتجه من معطيات ويبرزه من تجليات .
ولعل الأمر لم يقف عند هذا الحد ، فقد عولج هذا الموضوع من وجهة عامة غير وجهة التخصص والتجزيء فدرس من وجهة نظر إسلامية ومن وجهة غير إسلامية ، وذلك دليل على وجود اختلاف بين المنظور الغربي للبيئة والمنظور الإسلامي لها ، إذ صلاح البيئة أو فسادها إنما هو مرهون بالإنسان نفسه ، فإن صلح صلحت معه بيئته وإن طغى وفجر وفسد فسدت معه بيئته ، فيكون هنالك فرق بين إنسان أسلم لجامه للإسلام فكان الإسلام له موجها ومرشدا فيستحيل أن يكون الإنسان هنا مفسدا فتستحيل بذلك فساد بيئته معه ، وبين إنسان أسلم أمره للدنيا ونزواتها وشهواتها فأصبح عقله منقادا لما يرجوه في التطور و الازدهار من تحقيق نشوة زائفة ، فلا شك في فساد هذا وفساد بيئته معه ، وقد وجد فيهم وما أكثرهم من ينادي بمشروع كبير أطلق عليه اسم "قهر الطبيعة" واضعا بذلك نفسه عدوا ومدمرا ومسيطرا على البيئة التي يحي وسطها ويبذل جهده من أجل استنزافها حتى ولو أدى ذلك إلى عموم القحط والجفاف والأوبئة والظواهر الطبيعية الغريبة من اتساع طبقة الأوزون والانحباس الحراري وزيادة مستوى البحار ونقصان الماء العذب وفيضان تسونامي وتدفق أنابيب المياه العادمة ومخلفات المصانع ومحطات توليد الطاقة التي تصب في مياه الأنهار والبحيرات والبحار والمحيطات ، ويكفي في ذلك أن يدا غربية نجسة هي من ألقت بالقنبلة النووية على نكزاكي وهيروشيما والقنابل العنقودية والفسفورية على أهل غزة المساكين من العجزة والأطفال فأتلفوا العمران والإنسان ولم يكن للمسلم دخل في تسرب الغاز من مفاعل تشير نوبل في الاتحاد السوفياتي الذي أودى بحياة الإنسان والحيوان ولا في تضعضع هيكل ديمونة الإسرائيلي الذي يهدد الشرق الأوسط بأكمله ، ببساطة إن صاحب هذا العمل والمنهج يستحيل أن يكون صديقا للطبيعة ومحافظا على البيئة فكفاكم أيها الغربيون كذبا علينا فأنتم أصحاب الخراب في هذه الحياة لا نحن .
ولعلنا نقتصر في هذه الدراسة على المنظور الإسلامي للبيئة لما التصق بالإنسان المسلم من آراء وتصورات خاطئة توحي بأن الإنسان المسلم جاء ليدمر لا ليبني ، ولا أدل على ذلك من واقعه المعيش ، فأنّى وُجِدَ المسلم إلا ووجدت شوارعه مكدسة بالأزبال والأوساخ ومستشفياته بالأوبئة والأمراض وأرضه بالقحط والجفاف وجسمه بالجراثيم والباكتيريا وحيثما وجد ظل شجرة في أرض إسلامية إلا ونازعتك فيها الروائح الكريهة ولا ماءا راكدا إلا وقد قُضِيت الحاجة عنده ولا جاريا إلا وقد رميت الجيفة فيه ، إلى غير ذلك مما يوحيه الواقع المعيش لحياة المسلم في عصرنا المعاش ، وما يتهم به الإسلام من أنه دين جاء ليقضي على البيئة ويستنزف خيراتها ويفرض عليها جبروته بالسيف والقتل حتى أصبح الإنسان الغربي يفرض علينا قوانينه التي تحول بيننا وبين تدمير البيئة بفهمه الخاطئ المزعوم فما بين قانون حماية الطبيعة وحماية الغابة وقانون الراحة البيولوجية للأسماك وقانون الصيد البري والبحري والجوي وغيرها من القوانين التي تفرض على المسلم بوجه خاص ، ولا يكون رد فعل المسلم فيها إلا التصفيق والانبهار والتبعية والإعجاب بما بلغه الغرب من احترام للطبيعة من دبلوماسينا المساكين أثناء توقيع الاتفاقيات مع كل من هب ودب زاعما في ذلك أنه يعلمنا كيف نحافظ على البيئة ، فلا يوجد أكثر من هذا سخرية بالإنسان المسلم الذي جاء دينه بالأساس لحماية الأرض من الطغيان والفساد المؤذن بخراب العمران ، والأعجب من ذلك أن مثل هذه الاتفاقيات أو الشركات كما يحلو للبعض أن يسميها تقام على أرض المسلمين ويوقع عليها أناس مسلمون فلا يوجد أبلغ من هذا سبا وشتما للإنسان المسلم ، ولست بذلك معارضا لما يوقع من اتفاقيات في مثل تلك الأمور ولكني ناقم على عقليتنا المتخلفة التي جعلتنا مائدة ممتازة لكل من أراد أن يتناول عليها ما يحلوا له من طعام ، أمَا كان على المسلم أن يكون سبّاقا في ذلك حتى يلهث الغربي وراء المسلم يبغي منه توقيعا على شراكة يستفيد بها من الخبرة الإسلامية في نظافة الطرق والمؤسسات والمنازل ، ألم يعقد أول مؤتمر إسلامي حول البيئة بمكة المكرمة سنة 630 ميلادية تحت الرئاسة الفعلية لرسول الله r والذي تضمن بيانه العام [ أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد بها شجرة ] وفي صيغة أخرى للبيان [ لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه ](1) بينما كان أول مؤتمر أوروبي حول البيئة سنة 1972 بمدينة استوكهلم تحت إشراف الأمم المتحدة ، فيا لبعد ما بين الزمنين ، ألم يكن أول من أوصى بالبيئة بعد رسول الله r أبو بكر حينما جاء قراره طبقا لما استفاده من المؤتمر النبوي حول البيئة حينما أوصى أحد قياد الجيش بقوله [ ولا تقتلوا كبيرا هرما ولا امرأة ولا وليدا ولا تخربوا عمرانا ولا تقطعوا شجرة إلا لنفع ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه ولا تغدر ولا تمثل ولا تجبن ](2) بينما أوصى المستشرق المجنون عليه لعنة الله إلى يوم الدين "كيمون" في كتابه "باثولوجيا الإسلام" أعداء الإسلام قائلا [ إن من الواجب إبادة خمس المسلمين والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة وتدمير الكعبة ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر ](3) فكم من فرق بين من له في دينه أجر عند سقي الشجر وبناء الحجر ومن له في نفسه عزة عند قطع الشجر وتدمير الحجر ، وكان "بن غوريون" يوصي جيشه قائلا [ لا تتركوا صبيا ولا شيخا ولا امرأة ولا كلبا ولا طيرا ولا شجرا ولا هواءا ولا ماءا إلا وقد تركتم فيه أثركم ] .
فلعلنا نوفق إن شاء الله في تصحيح هذا الزعم ورد كيد المفتري إليه .
لقد كان لعلمائنا الزند الطَلِقُ(4) والخطوة الأولى في دراسة علم البيئة بمفهومه العام دراسة تخصصية منهجية ، فقد تناوله ابن خلدون في "المقدمة" وابن سينا في "القانون" وابن النفيس في "الموجز" وغيرهم كثير ، والعجب من مثقفينا وقد أخذتهم الحضارة الغربية فصقلت عقولهم ينسبون لها كل شيء وكأن الأمة الإسلامية لم تترك لهم تراثا ولا علما ولا فكرا مع أن خزائن المخطوطات في الأوسكريال وواشنطن وتركيا ودمشق وغيرها مليئة بأمهات المخطوطات التي تعتبر شاهدا ودليلا على علم المسلم أثناء جهل غيره .
أولا : مفهوم البيئة :
مصطلح "البيئة" مصطلح عربي أصيل موغل في القدم ، جاء في تاج العروس للزبيدي [ وبوأتهم منزلا : إذا نزلت بهم إلى سند جبل أو قبل نهر ، والاسم البيئة بالكسر ..والبيئة بالكسر الحالة يقال أنه لحسن البيئة ](5) وجاء في لسان العرب [ والبيئة والباءة والمباءة : المنزل .. وباءت بيئة سوء على مثال بيعة أي بحال سوء ، وأنه لحسن البيئة ، وعمّ بعضهم به جميع الحال ](6) وجاء في شرح ديباجة القاموس [ والاسم البيئة بالكسر والمكان حله وأقام كأباء به وتبوأ والمباءة المنزل كالبيئة الحالة ](7) وجاء في المفردات [ وقوله ( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ) أي تقيم بهذه الحالة ](8) .
يظهر من خلال ما سبق أن مصطلح "البيئة" جاء على ثلاث معان :
- الأول : المنزل الذي ينزله الإنسان ويختاره لنفسه .
- الثاني : الحالة سواء بخير أو بشر .
- الثالث : الوضع العام للإنسان .
ولا شك أن الأصلح – في نظري البسيط – من ضمن ما سبق هو المعنى الثالث لأن حصر مفهوم البيئة في مظهر واحد هو مكمن الفرق بين المنظور الإسلامي والمنظور الأوروبي لموضوع البيئة بحيث أظهرت الدراسات الأوروبية مفهوم البيئة منحصرا في جوانب معدودة جلها يختص بالحالة الاقتصادية للإنسان ، بينما مفهوم البيئة في المنظور الإسلامي أشمل من ذلك وأعم ، يقول الأستاذ محمد رفعت رمضان [ والمقصود بالبيئة كل ما يحيط بالكائن من ظروف وعوامل تؤثر فيه ، فالكائن الحي لا يستطيع أن يعيش إلا إذا حصل على مقومات حياته من البيئة ، فما يحصل عليه الكائن الحي من غذاء وهواء ومسكن إلى غير ذلك فإنما هو جانب من البيئة يستخدمه بما عنده من صفات الحياة وخصائصها لكي يجعل هذه الحياة ممكنة لنفسه ونوعه وكلما كانت البيئة غنية بما فيها من هذه المقومات كلما أمن لهذا لكائن أن يستفيد مما يتاح له من الفرص كي يحي حياة تتناسب مع هذا الغنى في البيئة ](9) وفي تعريف آخر [ البيئة هي الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ويؤثر فيه ويتأثر به وتتمثل البيئة فيما يحيط بالإنسان من هواء وماء وتربة وضوء وشمس والمعادن في باطن الأرض والنبات والحيوان على سطحها وفي بحارها ومحيطاتها وأنهارها ](10) .
من ذلك فالبيئة أقسام :
-البيئة الطبيعية : وتشتمل على العامل الجغرافي والجيولوجي والمناخي .
-البيئة الحضارية : وتشتمل على العامل الديني والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي .
ويمكن تقسيمها كذلك إلى :
-البيئة الخارجية : وتشمل بذلك كل ما هو على سطح الكرة الأرضية من إنسان وحيوان ونبات وجماد وبحار وأنهار وهواء .
-البيئة الداخلية : وتشمل بذلك كل ما هو تحت سطح الكرة الأرضية من كائنات دقيقة وآبار وخزائن مائية أو بترولية أو غازية أو معدنية وغيرها مما تقوم به الحياة تحت وجه الأرض .
والمتفحص لهذه المعاني يدرك أن هناك ارتباطا وثيقا بين الأرض والبيئة فلا وجود للبيئة بغير أرض ولا وجود لأرض بغير بيئة .
ثانيا : نظرة الإسلام لعناصر البيئة :
- لإنسان : لقد نظر الإسلام إلى الإنسان نظرة فاحصة ودقيقة باعتباره هو الركن الأساس في صلاح الطبيعة وفسادها وهو المقصود بإعمار الأرض واستصلاحها والخلافة فيها ، يقول تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )(11) ويقول ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم )(12) ويقول ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها )(13) ، بل ما وُجِدت عناصر البيئة الأخرى إلا لخدمة الإنسان ، يقول تعالى ( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره )(14) ويقول ( وسخر لكم الشمس والقمر ذائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه )(15) ويقول ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة )(16) .المتدبر للآيات السابقة يعلم علم اليقين أن الله سبحانه جعل الأرض بما فيها من جبال وأنهار ودواب وجماد ونبات وماء والسماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وهواء خدمة للإنسان حتى يحقق مشروع الخلافة المناط به من قِبل الله .
-الأرض : لقد اهتم القرآن الكريم بالأرض اهتماما بالغا بصفتها هي مجال عمل الإنسان وسجل إنتاجه سواء كان عملا بإصلاح أو بإفساد ، يقول تعالى ( إني جاعل في الأرض )(17) ويقول ( أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها )(18) ويقول ( خلائف الأرض )(19) ويقول ( ويستخلفكم في الأرض )(20) وقد ورد ذكر الأرض في القرآن الكريم حوالي (461) مرة ويكفي هذا فخرا للأرض وإشادة بها وأن الإنسان وهو أكرم المخلوقات منها خلق وإليها يعود ومنها يخرج مرة أخرى وقد قيل "إن الإنسان خلق من تراب وأكبر همه في التراب ولا يملأ فمه إلا التراب" وقد كانت الأرض في خدمة الإسلام فكان الإسلام بدوره في خدمتها ، فقد ساعدت رسول الله r في غزوة بدر فأشار إلى ذلك رب العزة سبحانه بقوله ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى )(21) وأمسكت حبات رملها وصخرها للصحابة الكرام (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ)(22) وأخفت رسول الله وصاحبه يوم الهجرة في بطون صخورها ( إذ هما في الغار )(23) وغاصت بقدمي خيل سراقة لما أراد رسول الله r بشر وكانت تطوى لرسول الله r وتسهل له المسير حتى قيل "إن الأرض كانت تخشع لرسول الله r فكأنه ينزل من صبب" وكانت حاضرة معه في غزوة الخندق ويوم رمى بحباتها على الكفار ( وما رميت إذ رميت )(24) وكانت تسلم عليه بأحجارها وشجرها وتحن إليه بجذوعها ومائها وثمارها وتميل عليه بأغصان شجرها إن استظل بها ، لقد كانت بحق في خدمة الإسلام فكان الإسلام في خدمتها فنهى عن الفساد فيها ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها )(25) ( ولا تمش في الأرض مرحا )(26) ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض )(27) ( أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا )(28) ( ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون )(29) (ولا تعثوا في الأرض مفسدين )(30) ( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين )(31) ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )(32).
وجعل سبحانه من صفات عباد الرحمن أنهم ( يمشون على الأرض هونا )(33) وأنهم ( لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا )(34) وقد فطن إخوة يوسف لهذا فسارعوا لتنزيه أنفسهم منه فقالوا ( ما جئنا لنفسد في الأرض )(35) وعلموا أن ذلك من صفات بني إسرائيل ( لتفسدن في الأرض مرتين )(36) ومن صفات قوم عاد ( فأما عاد فاستكبروا في الأرض )(37).
من هنا حرص المسلمون الأوائل على أن ينهضوا ببيئتهم على خير وجه يمكن أن يحققوا به حمل الأمانة الموكلة إليهم فكان المهاجرون والأنصار يزرعون ويغرسون ويحرثون ويثمرون لعلمهم الأكيد أن رزقهم في السماء ( وفي السماء رزقكم )(38) ومعاشهم في الأرض ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش )(39) فكانوا لصلاح الطبيعة ( البيئة ) بحب الأرض ( الوطن ) فحبهم لأرضهم دفعهم لصلاح طبيعتها ، قال ابن الزبير [ ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم ] وقال أحد حكماء العرب [ عمّر الله البلدان بحب الأوطان ] ، وقد حفلت السنة النبوية بما يشير إلى أن صلاح البيئة هو مراد الشارع من الإنسان ، حتى إن رسول الله r ما كان يخرج في أمثلته عن ذلك فقد قال « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا »(40) وصح عنه قوله « من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين»(41) والفساد في الأرض ظلم ، ويقول أيضا « ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طائر أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة »(42) .
واهتمام الإسلام بعنصر الأرض هو في نفس الوقت اهتمام بما تتضمنه هذه الأرض من عناصر بيئية أخرى فيها ، إذ مجموع تلك العناصر لا يخرج عن عنصر الأرض الذي بوجوده يقوم وبزواله يزول ، من تلكم العناصر :
- الماء : وقد اهتم به الشارع اهتمام بالغا وجعله أصل الحياة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )(43) (والله خلق كل دابة من ماء )(44) ( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا )(45) واهتم بأركانه أيمّا اهتمام وجعل صلاحه وفساده بما يدور حوله أركانه من صلاح وفساد وقوّم به أمور العبادات فإذا تغير أحد أركانه الثلاثة ( اللون ، الطعم ، الرائحة ) لم تصح به العبادة وخرج عن صلاحه .
وقد ورد ذكر الماء في كتاب الله ما يقارب ( 63 ) مرة وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى حرص الإسلام على المحافظة عليه وتوجيه النصوص لتلك الغاية السامية فنهى عن أن يبول الإنسان في الماء او يتغوط فيه سواء كان جاريا أو راكدا ، فعن جابر أن رسول الله r نهى أن يبال في الماء الراكد(46) ونهى عن التنفس في الإناء « إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء »(47) وقد نهى رسول الله عن الإسراف في استعمال الماء ولو كان الإنسان يزاول أمرا تعبديا فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله r مر بسعد وهو يتوضأ فقال « ما هذا السرف » فقال أفي الوضوء إسراف ،قال « نعم وإن كنت على نهر جار »(48) وقد بوب أبو داود في سننه بقوله [ باب ما جاء في كراهية الإسراف في الوضوء بالماء ] والبيهقي بقوله [ باب النهي عن الإسراف في الوضوء ] لذلك فالمحافظة على الماء ضرورة إسلامية ملحة .
- الهواء : يعتبر الهواء من أشرف عناصر البيئة وذلك لكونه مرتبطا بأشرف أعضاء الجسد وهو القلب ، وقد عرفه القدماء بأنه "جسم رقيق متى تموج من المشرق إلى المغرب سمي ريح الصبا وهي الريح التي نصر بها الرسول r حيث قال « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور »(49) والعرب تحب الصبا لرقتها ولأنها تجيء بالسحاب والمطر" .
وقد أولاه الإسلام عناية بالغة وجعله أمرا لابد منه في استقرار الحياة وجريانها ومساعدا رئيسيا في اكتمال التزاوج والتكامل في الطبيعة يقول تعالى ( وأرسلنا الرياح لواقح )(50) وقد جعل الله سبحانه الهواء النقي من ميزات الجنة فهواؤها ليس بحار ولا ببارد وإنما وسط بين الصفتين قال تعالى ( متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا )(51) أي لا يرون فيها حرا كحر الشمس ولا بردا كالزمهرير قال ابن كثير [ أي ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم بل هو مزاج واحد دائم سرمدي لا يبغون عنها حولا ](52) وقد روي عن النبي r قوله « إن هواء الجنة سجسج لا حر ولا برد »(53) والسجسج الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وقد ورد عن النبي r أنه كان يكره أن يبول الرجل في الهواء(54) . وقد كان لعلمائنا السبق في دراسة علم الريافة والتأليف فيه وهو علم يتضمن كيفية استخراج الهواء الفاسد من الآبار حتى يتجنب التلوث الذي يمكن أن يلحق الهواء ويؤدي بالتالي إلى موت الإنسان ونهايته ، وقد ورد في كتاب "الفلاحة" لابن وحشية كيفية اختبار هواء البئر لمعرفة ما إذا كان صالحا أو فاسدا وكيفية استخراج الهواء الفاسد منه ، فقال [ على الذي يهبط إلى البئر التي يتصاعد منها بخار ردئ أن يشعل شمعة قبل أن يهبط ويدليها في البئر فإن انطفأت فعليه أن يعمد إلى سراج فيشعله ويدليه وليكن بدون زيت بل بشحم فإن انطفأ فالبئر ردئ ويجب الإقفال والإهمال ، ولإخراج الهواء الفاسد من البئر يجب أن يقام بأعمال منها :
1 – مراوح كبيرة من الخوص أو غصون من النخل تحرك بقوة داخل البئر .
2 – كتل من الصوف تدلى وترفع ليخرج منها بخار البئر .
3 – صب ماء في البئر دفعة واحدة والترويح بالمراوح فإن ذلك يحرك ويخرج .
4 – تنزل إلى البئر حزمات من القصب مربوط بحبال يمسك بكل حزمة رجل ثم يأخذون في التحرك إلى أعلى فأسفل .
5 – تنزل مجمرة فتصعد وتهبط وعليها خيار مجفف وقرع وبطيخ . ](55) .
كل هذا العمل من علمائنا المسلمين لكي يحفظوا خاصية الهواء ، حتى أن بعضا منهم من كان يقول أن تلوث الهواء علامة من علامات الساعة وما تلوث الهواء في زمن قوم إلا كان ندير سوء لهم وفسرها بقوله تعالى ( يوم تاتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم )(56) وقد أورد فيه ابن قتيبة قولان [ الأول : أنه في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ، الثاني : أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان ](57) كل هذا الحذر في وقتهم رحمهم الله أما لو أدرك ابن قتيبة وابن وحشية زماننا لكانوا اعتزلوا الحياة خوفا من قيام الساعة فهي لن تقوم إلا على شرار الناس ، فإن الدخان المتصاعد فقط من السجائر التي يدخنها الناس كفيل بأن يقضي على قدر كبير من الأكسجين النقي فما بالك بعوادم السيارات والمصانع والمحطات والقطارات .
وأخيرا فلا يتبادر إلى ذهن أي أحد من أصحاب الألباب أن الإسلام بما خفل به من أوامر وتوجيهات وتوصيات وشرائع لم يسمح بأي صورة من الصور أن تبقى الأرض خربة يهلك فيها الحرث والنسل وعمل المسلم دليل على مقدار قربه من الدين وبعده عنه ، فإن كانت شوارعه مكدسة بالأزبال والأوساخ ومستشفياته بالأوبئة والأمراض فذلك راجع إلى تخليه عن دينه وعدم التزامه بأوامر ربه ورسوله وعليه في ذلك كامل المسؤلية إن عمل خير وأصلح في الأرض جزي خيرا في الدنيا والآخرة وإن عمل شرا وأفسد في الأرض أخذ بعقاب في الدنيا والآخرة ولن يحمل الإسلام إثم فاطمة إن أظهرت ظفيرتها.
*كاتب مغربي
الهوامش :
1 – الرحيق المختوم
2 – البيهقي : 18614 .
3 – كتاب دمروا الإسلام أبيدوا أهله تأليف محمد جلال العالم تحقيق امحمد رحماني.
4 – قول يطلق على السبق في الفعل .
5 – تاج العروس لمحمد مرتضى الزبيدي المجلد الأول .
6 – لسان العرب لأبن منظور المجلد الأول .
7 – شرح ديباجة القاموس لنصر الهوريني ص : 09 .
8 – المفردات للراغب الأصفهاني ص : 70 .
9 – أصول التربية وعلم النفس لمحمد رفعت رمضان ص:108 .
10 – علوم البيئة لمحمد صابر سليم 1/03 .
11 – سورة البقرة الآية :30 .
12 – سورة الأنعام الآية : 165 .
13 – سورة هود الآية : 61 .
14 – سورة النحل الآية 12 .
15 – سورة إبراهيم الآيات : 33 – 34 .
16 – سورة الحجر من 05 – إلى 08 .
17 – سورة البقرة الآية : 30 .
18 – سورة هود : 61 .
19 – سورة الأنعام الآية : 165 .
20 – سورة الأعراف الآية : 129 .
21 – سورة الأنفال الآية : 42 .
22 – سورة الأنفال الآية : 11 .
23 – سورة التوبة الآية : 40 .
24 – سورة الأنفال الآية : 17 .
25 – سورة الأعراف الآية 56 .
26 – سورة الإسراء الآية 37 .
27 – سورة المائدة الآية 33 .
28 – سورة المائدة الآية 32 .
29 – سورة البقرة الآية 27 .
30 – سورة البقرة الآية 60 .
31 – سورة المائدة الآية 64 .
32 – سورة الأعراف الآية : 146 .
33 – سورة الفرقان الآية 63 .
34 – سورة القصص الآية :83 .
35 – سورة يوسف الآية : 73 .
36 – سورة الإسراء الآية : 04 .
37 – سورة فصلت الآية : 15 .
38 – سورة الذاريات الآية : 22 .
39 – سورة الأعراف الآية : 10 .
40 – أخرجه البخاري حديث 79 .
41 – أخرجه مسلم حديث 4217 .
42 – أخرجه البخاري حديث 2320 .
43 – سورة الأنبياء الآية :30 .
44 – سورة النور الآية 45 .
45 – سورة الفرقان الآية 54 .
46 – أخرجه مسلم حديث 681 .
47 – أخرجه البخاري حديث 153 .
48 – أخرجه ابن ماجه حديث 460 .
49 – أخرجه البخاري حديث 1035.
50 – سورة الحجر الآية 22 .
51 – سورة الإنسان الآية 13 .
52 – تفسير ابن كثير 8/220 .
53 – ذكره القرطبي في تفسيره ولم يخرجه أصحاب السنن .
54 – أخرجه البيهقي حديث 483 وفي إسناده متروك وقال أبو محمد هو موضوع .
55 – العقل العلمي في الإسلام لعلي شلق ص : 222 .
56 – سورة الدخان الآية 10 – 11 .
57 – فتح البيان لصديق حسن خان 8/446