قصتي مع تراث باكثير (5)
قصتي مع تراث باكثير (5)
علي أحمد باكثير |
الدكتور محمد أبو بكر حميد |
·تشجيع الشيخ بلخير:
كان خاطر السفر إلى القاهرة يلح عليّ منذ سنوات طويلة لأني رأيت أنه لا يمكن الوقوف على ما تبقى من تراث باكثير بدونه، ولكن ظروفاً كثيرة حالت دون ذلك كان أهمها سفري للدراسة بالولايات المتحدة لعدة سنوات.
ولم تتهيأ الفرصة إلا في يوليو 1990م، وقد دفعني إلى تنفيذ هذه الفكرة -بعد أن خطرت على بالي فكرة التأجيل- الكثير من محبي أدب باكثير والمهتمين بتراثه كان في مقدمتهم الصديقان الكريمان الدكتور عمر عبد الله بامحسون والأستاذ أحمد محمد عباد، ولا أنسى محادثات معالي الشيخ عبد الله بالخير ـ وهو في جدة وأنا في الرياض ـ يقول لي:
" إن تراث باكثير يدعوك لإخراجه للنور وهذا حق للأديب العربي عليك وأمانة في عنقك فما دمت تستطيع وتقدر فلا تضيعها ".
ولم يطمئن شاعرنا الكبير حتى رآني مسافراً مؤملاً أن أعود لأطمئنه على تراث رفيق درب الشباب في الحجاز.
·الأمل يتحقق:
لقد ظل تراث باكثير أمانة منذ وفاته قبل أكثر من عشرين عاماً في عنق زوج ربيبته الأستاذ عمر عثمان العمودي بالقاهرة، فمن المعروف أن باكثير لم ينجب من زوجه المصرية وإنما اتخذ من ابنة لها ابنة له عاش لها كأب واختار لها زوجاً حضرمياً من أندونيسيا وهو الأستاذ العمودي، وهكذا لم يبق لباكثير وتراثه في القاهرة بعد موت زوجه إلا الأستاذ العمودي وزوجته يحرسان تراثه وينتظران أيدياً أمينة تتسلمه وتخرجه للناس وللحياة، كنت أسأل الله أن يوفقني في تحقيق هذا الأمل الكبير الذي ينتظره الكثير من الدارسين والباحثين والمهتمين بالأدب الإسلامي في العالم العربي وهو أن يخرج ما كتبه باكثير في آخر أيامه وما تركه مخطوطاً على مكتبه وقد أدركه الموت فجأة وهو يخطط لكتابة مسرحية عن فتح القسطنطينية.
وفي العاشر من يوليو كان الأستاذ أحمد عباد يستقبلني في مطار القاهرة وهو يقول:
" لابد من مصر وإن طال السفر !".
كنت مقدراً عشرة أيام أو أسبوعين للقاهرة ولكنني حين وصلت وجدت أن برنامجاً طويلاً يحب أن أسير عليه.
وقال لي أحد الأصدقاء: أنت لا تستطيع أن تنجز أكثر من عمل واحد في اليوم الواحد في مصر وعليك أن تعتبر ذلك إنجازاً كبيراً إذا فعلت .
وحدث ذلك بالفعل فكانت الأيام مطاطة وتحولت العشرة الأيام إلى أربعين يوماً انقضى فيها العمل على ثلاث شُعب :
الأولى: الاتصال بالأستاذ عمر العمودي والحديث معه حول تراث باكثير.
والثانية: الالتقاء بمن بقي من رفاق عمر باكثير من أدباء مصر.
والثالثة: محاولة وضع فكرة إنشاء متحف أو جمعية أدبية باسم باكثير.
مأساة أرملة باكثير:
وبدأت اتصالي بالأستاذ العمودي الذي رحب بي منذ أول محادثة هاتفية، وزرته في نفس الليلة بصحبة الأستاذ أحمد عباد الذي كان خير عون خلال إقامتي في بالقاهرة التي يعرفها منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. وكان لقاءً رائعاً وطويلاً مع الأستاذ العمودي والسيدة زوجه وحديث الذكريات عن أبيهم وأستاذهم المرحوم علي أحمد باكثير.
وروى لي الرجل قصة جهاده في سبيل المحافظة على تراث أستاذه العظيم، وقال لي:إنه ظل محافظاً على مكتبة باكثير ومحتويات شقته كما هي منذ وفاته في نوفمبر 1969م وذلك خلال السنوات التي عاشتها السيدة أرملة باكثير وحتى وفاتها سنة 1979م، وكان أمله أن تهتم الجهات الرسمية وتتحول شقة باكثير في يوم من الأيام إلى متحف له.
وبدلاً من أن تعطي الدولة الأستاذ العمودي فرصة لخدمة موروث باكثير الأدبي شغلته بالمطالبة بحقوق أسرة الأديب الراحل، فلقد عاش باكثير حياته كلها قانعاً براتبه الذي لا يكاد يسد حاجته. لا يركض خلف مال يجنيه من كتبه مكتفياً بانتشارها وذيوعها، منصرفاً عما يتهالك عليه الناس في دنياهم إلى جو روحي خالص لنفسه، يشعر دائماً بالاطمئنان إلى المستقبل، فلم يشعر يوماً أنه فقير أمام صاحب مال، مؤمناً بأن غناه في نفسه وعلمه وأدبه، ولم تكن عائلة باكثير الوحيدة التي عانت بعد وفاة رجلها العظيم، وإنما هذا شأن معظم المبدعين في عالمنا العربي بعد رحيلهم.
وهكذا عانت أرملة باكثير الأمرين من الإجراءات المكتبية، وعانى الأستاذ العمودي والسيدة زوجه(ربيبة المرحوم باكثير) من الوقوف أمام الموظفين وكتابة الرسائل والالتماسات للمسؤولين من أجل الحصول على معاش استثنائي لأرملة باكثير التي لا عائل لها غيره، ورغم أن عدداً من زملاء باكثير وأدباء عصره كانوا يستطيعون فعل شيء له بعد وفاته بعد أن خذلوه في حياته إلا أنهم لم يفعلوا وتخلوا عنه حياً وميتاً، وهذا يذكرني بشهادة أدلى بها الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله ـ رحمه الله ـ في مقاله الذي سبقت الإشارة إليه حين قال:
" لقد كان (باكثير) عربياً دخل مصر الكريمة لكنه لم يشعر بأواصر الصداقة التي عقدها بينه وبين المشهورين من كتاب جيلنا ـ عفا الله عنهم ـ لم يكن يشعر أنها قادرة على أن تعطيه كل ما يريد.. ثم رأيته كثيراً وهو يتحدث عن العودة إلى وطنه ".
·وفاء حاتم وقرار السادات:
وبعد لأي وجهاد طويل لجأ الأستاذ العمودي إلى الدكتور عبد القادر حاتم ـ وزير الإعلام المصري حينئذ ـ فوجده وفياً لا يزال يحفظ الود ويحمل التقدير للأديب الراحل، واستطاع الدكتور حاتم أن يستصدر قراراً من رئاسة الجمهورية برقم 233 لعام 1971م لصالح أرامل الأدباء والفنانين تستفيد منه أرملة باكثير بمعاش شهري قدره 75 جنيهاً مصريا ً، و لكن خطأ
تعبيريا ًيحدث في صياغة هذا القرار يؤدي إلى تعقيد الأمور وحرمانها من نصف المبلغ المقرر لها، فبدلاً من أن يكون المعاش لأرملة المرحوم باكثير جاء النص باسم ورثة المرحوم باكثير، وذهبت السيدة الفاضلة التي خدمت أديب العربية الكبير قرابة أربعين عاماً وهيأت له المناخ الملائم للإبداع والمسكن الهادئ والسلام الدائم طوال عمره.. ذهبت هذه السيدة الفاضلة ضحية هذا اللبس وظلت تعاني من عدة أمراض حتى إن عملية جراحية كانت تحتاجها لم تتم بسهولة ويسر برغم صدور قرار بعلاجها! وقد أطلعني الأستاذ العمودي على رسائل موجهة باسمها إلى الرئيس الراحل أنور السادات الذي كانت تربطه بباكثير صداقة منذ أول أيام الثورة وإلى السيدة جيهان السادات وإعلى الأستاذ المرحوم يوسف السباعي وزير الثقافة آنذاك، وربما حسنت النوايا ولكن لم تهيئ لها الظروف سبل التحقيق من خلال التعقيد الإداري والمكتبي الذي ابتليت به الدوائر الحكومية في معظم البلاد العربية، وهكذا توفيت السيدة (هاجر) حرم الأديب الراحل بعد تسع سنوات من وفاة باكثير.. توفيت وهي لم تكف عن نداء اسم " الأستاذ " وظلت ترى حياتها عبثاً فارغاً من بعده، وتركت حطام الدنيا وانتظرت يوم اللحاق به حتى حققه الله لها فتركت دنيانا مثل زوجها باكثير غير آسفة على شيء فيها ولكن كان في نفسها أسى وحسرة على ضياع المعروف وقلة الوفاء في الناس.