قضاتنا إلى جامعة هارفارد
د. حمزة بن محمد السالم
إن من فضل الله تعالى ومنته على هذه البلاد تسديده ولاة أمورها وتوفيقهم في اختيار رجال من صفوة نخبة علماء البلاد، علما وورعا وحكمة ودهاء وزهدا، تعاقبوا على تولي مسؤوليات أعلى مناصب الدولة الإسلامية شرفا وأهمها شأنا، فصانوا القضاء الشرعي وحفظوه من مكر الماكرين وفخاخ أهل الحيل الذين شرقت حلوقهم بهذه الدولة الإسلامية المباركة. والقضاء الشرعي هو حامي حمى محارم الله، وحارس دستور هذه البلاد، وبعزه تعتز البلاد والعباد وهو رمز الدين وجامع ألوية البلاد تحت لواء الوطن الواحد.
واليوم هو زمن المتغيرات السريعة والمعقدة، ولكل زمان رجاله وقادته، والقعود اليوم عن اللحاق بهذه المتغيرات فضلا عن سبقها هو إيذان بسقوط المتخلف الجمود.
وما سأطرحه هنا ليس تقليلا من شأن رجال القانون فنحن - والله - بحاجة ماسة إليهم، فهم جنود الأمة الإسلامية وممثلو الوطن في ميادين كثيرة في الداخل والخارج، وهم للأسف ندرة نادرة والبلاد والعباد بحاجة إليهم. وهم أهل المال والفن والعلم في شتى فروعه والدنيا ببهجتها وخيراتها تفتح أبوابها على مصراعيها للعباقرة والمبدعين منهم، ومن أجل ذلك فالقضاء ليس مجالهم. فكرسي القضاء حكرٌ على من زهدوا في الدنيا وارتقوا على تنافس الناس عليها فاستحقوا أن يفصلوا بينهم في خصوماتهم ونزاعاتهم عليها.
إن القضاء الشرعي، إضافة إلى كونه رمزا للشريعة الإسلامية، فهو المحور الذي تدور حوله جميع الأنشطة السياسية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المدني الحديث. والتفاعل والتمازج بين هذه الأنشطة من جهة وحراكها المستمر في التقدم والتغير السريع من جهة أخرى سيشكلان تحديا مستقبليا حقيقيا حتميا لقضاتنا المبجلين الفضلاء في أن يلحقوا بالأمم من حولنا فضلا على أن يبنوا نموذجا قضائيا مثاليا تأتم به الأمم الأخرى، مما سيهدد استمرارية القضاء الشرعي في المنظور الاستراتيجي.
فعندما يتأخر قضاؤنا عن اللحاق بالمتغيرات الحديثة سيتسلل إليه بالطبيعة الحتمية، اختيارا لا جبرا، القانونيون الذين درسوا في جامعات العالم الأجنبية والذين لم يتحقق فيهم مبدأ التخلية قبل التحلية فيستخدمون طرق التفكير الغربي في تنزيل أحكام الشريعة على القوانين فينتج عنها غصن قد أعوج أصله فاعوج رأسه فتنتج عنه أحكام مؤسلمة لا هي ربانية فتصلح للعباد ولا هي أحكام وضعية تُعدل وتصمم وتغير لتوافق مصالح العباد.
لذا فالرأي الذي أطرحه هنا هو ضرورة ابتعاث مجموعة من القضاة ذوي الخبرة الذين شُهد لهم بالإخلاص والذكاء والعلم إلى الجامعات العظمى في شتى أنحاء العالم وخاصة أمريكا. فمثل هؤلاء سيتعلمون القوانين والأنظمة وسيدركون تمازجها فيما بينها وبين الثقافات العالمية وسيكتسبون طرقا أخرى مختلفة في التفكير ثم ينزلون ذلك كله على منازله التي تناسبه من شريعة المصطفى ـ عليه السلام (وليس العكس من تنزيل الشريعة على علم الغرب)، فمثلهم كمثل شجرة طبية أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. هذه المجموعات من القضاة سيعقد بهم الأمل في تشكيل قلب المحرك المطور لقضائنا الشرعي من جهة ومن جهة أخرى جبهة دفاع تذود دون اختراق الدارسين في الغرب الذين ذهبوا دون تأهيل عملي وعلمي سابق، فنجعل مثل شيخ الإسلام ابن تيمية نموذجا لقضاتنا، مؤمنا فيلسوفا تصدى للفلاسفة المسلمين.
في الولايات المتحدة يُكرم علم القانون فلا يُدرس على مستوى البكالوريوس، بل في الدراسات العليا. ففهم القانون يحتاج إلى عقول قد اكتمل نموها وأنفس قد تجاوزت طيشان المراهقة وزلات الصبا واختيار لدراسته قد خلى من المؤثرات الخارجية عن الشخص نفسه. والدارس هناك لا يتحصل على العلم فقط بل يكتسب (إن كان ذا قلب حي) ثقافة المرونة والتواضع والإبداع والإنصات للغير وجرأة اتخاذ القرارات.
إن بلادنا في طريقها إلى نهضة علمية وحضارية عظيمة وتأخر القضاء الشرعي عن اللحاق بها فضلا عن سبقها له نتائج غير محمودة لا دينا ولا دنيا. فإما أن يعرقل القضاء تقدم البلاد، وإما أن يُتخلى عن القضاء الشرعي في كثير من جوانب الحياة العملية ويقتصر عليه في الأحوال الشخصية وإما أن ننتهي بقضاء مؤسلم تُمسخ فيه أحكام الشريعة ومقاصدها. وبالعلم الشرعي والمعرفة الحديثة يُحفظ القضاء الشرعي لا بالتكتيم والفرض والإجبار. والحصيف من يعتبر ولا ينتظر وقوع الحدث فيقعد خائبا يلوم الزمن، وقد نهى الرحمن عن سب الدهر.