لأنَّ الأمرَ بيدِ الله

د. عبد الحكيم الأحمد

د. عبد الحكيم الأحمد

تمر الأمة الإسلامية في هذه الأيام بإحدى النكبات التي تكررت عليها عبر تاريخها الطويل . لبعدها عن أسباب قوتها وعزها ، وهجرها لكتاب ربها ، وسُنة نبيها صلى الله عليه وسلم . ولكثرة الخبث الذي ملأ نفوس بعض أبنائها ، وتعدد الاتجاهات لديهم ، وطغيان المفاسد واستشراء حالات الفسوق والفجور ، واهتمام عامة الأمة بالأدنى من اللهو والزيف ، وقيام أحزاب وملل حملت معاول الهدم لأساس بنيان الأمة المرصوص ، مستهدفة الإسلام ... الإسلام الذي اختصها به من العالمين ، فكانت هجمة عمياء عجفاء حاقدة ، أباحت كلَّ ماحرم الله ، وعادت بكِبر ووقاحة  كلَّ قيم النهوض والصلاح التي لن تقوى الأمة إلا بها . وجاؤوا بالتجارة البائسة إلى أسواق البلاد والعباد ، فالأغاني والمجون ، والرياضة التي انقلبت إلى عرض أجساد النساء ، والاختلاط المشين ، وتقديم النساء إلى محافل الرجال بدعوى المساواة الباهتة ، والتضليل المعوج ، والرضا بهذا الذل والهوان ، والقبول بالعدوان والحصار ، واستمراء حالات القتل والتدمير لأبناء الأمة في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وباكستان وغير من مواطن المسلمين . والأنكى من ذلك كله مصالحة معظم حكام العالم الإسلامي مع حالة الوهن التي أماتت العزائم ، بل ثبت أن بعضهم يعين العدو على أبناء شعبه من أجل منصب حقير زائل .

هذه البيئة غير النظيفة لاتستحق المدد والعون من الله ، فعاقبها المولى عزَّ وجلَّ بأن هجرها ، ومنع عنها الخيرَ الذي يستحقه المؤمنون به ، وإن المسؤولين عن فساد هذه البيئة فقدوا صلتهم بالله ، سواء أكانوا من علماء السوء ، أو من الحكام الذين لايعرفون للصلاة من أحكام ، أو من النخب ذات الغرور الكاذب ... فهؤلاء وأمثالهم بايعوا شياطين الإنس والجن على قتل روح الجهاد والعزة في الأمة ، وعلى السمع والطاعة في كلِّ مايقضي على دين الله الحق ، وهؤلاء هم المنفذون لرغبات الأعداء من الماسونيين ، الذين يقودون الحملة الصليبية الصهيونية الجديدة على أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم . رأيتُ مرة أحد الحكام في أحد مساجد المسلمين بعد أن اضطر لصلاة العيد ــ كعمل بروتوكولي ــ وقد وضع يده اليسرى فوق اليمنى ، ثم أعاد وضع يمناه فوق يسراه ، وراح يعدَِّل من وقفته لأنه يجب أن يتجه مع المصلين نحو بيت الله الحرام . أجل ... غابت الروح التي وهبتْها النبوة لأولي الأمر من الحكام ، كان الحاكم أو الوالي إذا رفع يديه إلى الله لم ترجع خائبتين ، وإنما كانت البشائر بالفتح والخير ، تؤكد استجابة الدعاء . وكم يذكر التاريخ من هذه القصص ، ولكن أين مَن يعتبر ؟! كان أهل مصر يقدمون في كل عام قربانا لنهر النيل حتى يجري ، وكانوا يعمدون إلى جارية بكر ، ويرضون أهلها بالمال ، لتكون البرئية طعمة لأفواه الأمواج ، فلما فتح المسلمون أرض الكنانة ، أخبره أهلُها بما يفعلون ، فأنكر ذلك عليهم ، وأرسل إلى الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك ، فأرسل إليه الخليفة كتابا ، وأمره أن يلقيه في نهر النيل . ففتح الوالي عمرو بن العاص رضي الله عنه البطاقة ، فإذا فيها : ( من عند عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر ... أما بعد : فإن كنتَ تجري من قِبلِك فلا تجرِ . وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك ، فنسأل الله أن يجريك ) فأمسك عمرو رضي الله عنه بالبطاقة فألقاها في النهر ، فأصبح يوم السبت وقد أجرى اللهُ النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة ــ بإذن الله ــ وقطع الله تلك السنة عن أهل مصر ، وسلَّم الله بناتها إلى يوم الناس هذا . ذلك لأن الأمر بيد الله ، يفعل مايشاء ويحكم مايريد . وهو وحده القادر على تبديل سنن الكون . وبأمر الله كان كلُّ شيء ، وبأمره وقدرته سيكون كلُّ شيء . وإنما القول في الذين أدبروا عن مواطن الإجابة ، وغيَّبوا أنفسهم وشعوبهم في ظلمات الحرمان والشقاء ، وكان الأجدر بهم أن تتدفق أعينُهم بالدموع ، وتتأجج صدرورهم بنار الألم على ماحلَّ بشعوبهم  ، وكان الأجدر بهم أن يقوموا في جوف الليل يستغيثون بالله لينصرهم ، ويكتب على أيديهم خير الدنيا والآخرة لشعوبهم ، لا أن يزجوا بشباب الأمة الصالحين الأبطال في غياهب السجون والمعتقلات ، تماما كما يفعل الصهاينة والصليبيون ــ لعنهم الله ــ ولا أن يقتلوهم بدم بارد ، ولا يقبلوا حصار أبناء الأمة في العراق أو فلسطين أو في أي بلد آخر ... ولكن كما جاء في الأثر : ( إذا لم تستح فاصنع ماشئتَ ) .

إنَّ الشعوب الإسلامية اليوم تنتظر من حكامها تقديم مناهج العزة بدل المذلة ، وتنتظر الإعداد الصحيح في مكاتب التجنيد والجهاد والاستشهاد ، لا في افتتاح الحانات ، واعتماد إقامة الحفلات التي يندى لها الجبين . وإن الله ليزع بالسلطان مالايزع بالقرآن ، وإلى متى سيستحوذ الشيطان على أوليائه ، وينسيهم ذكر الله ، وحقَّ شعوبهم عليهم !! وإلى متى تبقى قلوبهم خاوية ، خالية من حلاوة التوحيد والإيمان وقوة اليقين بالله !!  لقد نصر الله الأمة بالرعب مسيرة شهر ، حين كان الحاكم والمحكوم يدينان لله وحده ،  ويومها لم يتجرَّاْ عدوٌّ على النيل من حرمات المسلمين أو يعتدي على أراضيهم وأموالهم وديارهم كما نرى في هذه الأيام !! ولكنها الأهواء التي هوت بهم إلى حضيض المعادلة الإبليسية ، فعبدوا أوثان القرن الحادي والعشرين ... من غناء وسفور وفجور وعَلمانية ، ولعلها أعمت القلوب أكثر مما أعمت أوثان الجاهلية الأولى قلوب المشركين . ذكر ابن اسحق أنه كان لخولان بأرضهم صنم يقال له ( عم أنس ) يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله ــ فيما يزعمون ــ فما دخل في حق ( عم أنس ) من حق الله الذي قسموه له تركوه له ، وما دخل في حق الله من حق ( عم أنس ) ردوه عليه ، وفيهم أنزل الله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ... ) وقال : وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يُقال له ( سعد ) وهو صخرة بفلاة من أرضهم ، فأقبل رجل منهم بإبلٍ له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته فيما يزعم . فلما رأته الإبلُ ، وكانت مرعية لاتركب ، وكان الصنم يُهراق عليه الدم ، فنفرت الإبل في كل وجه ، وغضب صاحبُها أشدَّ الغضب ، وأخذ حجرا فرمى الصنم به ، ثم قال : لابارك الله فيك ، نفرت عليَّ إبلي ، ثم خرج في طلبها ، فلما اجتمعت له قال

أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا
وهل سعدُ إلا صخرةٌ بتنوفةٍ

 

فشتتنا سعدٌ فلا نحنُ من سعدِ
من الأرض لايدعو لغيٍّ ولا رشدِ

          فمتى تترك الأمة ( عم أنس) ؟ ومتى ترجم الصنم ( سعدا ) ؟ ومتى يؤمن حكامها وأبناؤُها أن النصر والخير منه سبحانه ، وليس من أمريكا ولا من أوروبا الشرقية أو الغربية ، ولا هو بتجنيد الكاسيات العاريات ، ولا تعميم شيكات الإفساد على جيوب الفتيان والفتيات . إنَّ الإيمان الحق إذا ما تمكَّن من القلوب ، فإنه يجعل أصحابها ربَّانيين فدائيين استشهاديين لايخافون في الله لومة لائم ، وعندئذ يخشاهم الأعداء مهما كانت قوة الأعداء غاشمة ظالمة ، ويصدق هنا أيضا قول القائل :

وكنا قديما لانقرُّ ظُلامةً

 

إذا ما ثنوا صعرَ الخدود نقيمُها

وقول الآخر :

وكنا إذا الجبَّارُ صعَّر خدَّه                   أقمنا له من ميله فتقوَّما
تلك هي ميادين القوة والعزة ، فالقوة تُهاب وتُحترم وخصوصا إذا كانت لدى عاقل حكيم ، وهي التجارة الرابحة في عالم الوحوش اليوم ، الذين جعلوا الأرض غابة لأنيابهم وأظافرهم ، وكأن قول القائل : ( إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب ) بات صحيحا في زمن الذئاب ، بل ربما بات قول الآخر صحيحا أيضا :

تأمل فغير الشر لايدفع الشرا

 

فلا تك بالأحلام ويحك مغترا

  ولعل الأمة الإسلامية تصلح ما أفسد المجرمون العتاة ، وتعود القيم إلى العالم الإنساني الذي يطمع الأفاكون أن يخرجوه من إنسانيته وفطرته الطاهرة ، فيعود عالما يطيع ربَّه ، ويعصي شيطانه ، فطاعة الله عز وجل تجارة رابحة ، وتأتي أرباحها من دون بضاعة ، وبتجارة الإيمان مع الله يصطلح المجتمع ، وتُفتح أبواب السماء ، وتنزل الرحمات ، ويستقيم أمر الراعي والرعية . وبغير هذه التجارة تعمى القلوب وتزيغ الأبصار ، ويقوى الفصام بين الأمة ومولاها ، وعندئذ تتقطع أواصر وأسباب الخلاص من الواقع المرير الذي تقتات منه الأمة صباح مساء .

  أما آن للأمة أن تعيد الخيل الضامرة ، وصليل السيوف ، لتكون روحا جديدة لما بين يديها من سلاح !! أما آن للأمة أن تعد العدة لصفحة المجد الجديدة ــ بإذن الله ــ من خلال مسح غبار الوهن والذل عما ران على صفحة المجد القديمة ذودًا عن حمى الإيمان والإسلام . قال عزَّ وجلَّ : ( وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ... ) 60/ الأنفال .