معان في عيد العمال
جمال سعد حسن ماضي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه , أما بعد ...
1 – العمل أساس تقدم الأمة
لماذا لا يتذكر العالم العمال إلا بعد انقضاء كل عام ؟ هؤلاء الكادحون الشرفاء المنسيون , الذين أولاهم الإسلام كل رعاية وعناية , وأعلى من قيمة العمل , في مواقف أوضح من الشمس , لا لبس فيها ولا غموض , فعلى قدر عمل الإنسان يكون جزاؤه , يقول تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) )) سورة النحل
والعمل أساس تقدم الأمة , ومهارة إتقانه هي مقياس حضارتها , والوفاء بآدائه هو غاية الإصلاح الاجتماعي , يقول أكمل العاملين صلي الله عليه وسلم : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) رواه البيهقي .
فالأنبياء الذين هم أفضل خلق الله ، قد عملوا جميعاً , فلا يجوز للمسلم ترك العمل باسم التفرغ للعبادة , فأقل العمل خير من أن يسأل الناس , يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لأن يأخذ أحدكم حبله , ثم يغدو إلى الجبل فيتحطب , فيبيع فيأكل ويتصدق , خير له من أن يسأل الناس)
وحض الإسلام على العمل , وجعل الإنتاج عبادة , بل جهاداً في سبيل الله : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) التوبة 105 , وأكد على حماية حقوق العمال , وإعطاء كل عامل على قدر ما يستحق من مهارة وإتقان , يقول تعالي : ( ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ) الأحقاف 19 , ويقول تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعي وإن سعيه سوف يرى ثم يجزيه الجزاء الأوفى ) النجم : 39 / 41 .
2 - الإسلام رفع شأن العمل والعمال
لقد رفع الإسلام من شأن العمل ، حيث جعله بمنزلة العبادة ، التي يتعبد بها المسلم ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ، وإذا كان الرزق من عند الله ، فليس معنى هذا أن يتكاسل الإنسان ويترك العمل ، لأن الله سبحانه وتعالى ، حثنا على العمل ، لتعمير الأرض وكسب الرزق ، وأمرنا بأن ننطلق سعياً للحصول عليه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) سورة الملك الآية 15 .
إن الإسلام يحارب التواكل , ولا يريد أن يكون المؤمن ضعيفاً أو محتاجاً أو متقاعساً ، حتي لا يقع فريسة المهانة أو الذلة أو التخلف , يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري .
فالإسلام لا يعرف البطالة ، وقد توجت العمل شرفاً دعوة الإسلام إليه , يقول صلي الله عليه وسلم : (من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له) رواه الطبراني .
فمنذ أول وهلة من بزوغ الإسلام , وقد وضع شروطاً للعمل , من إتقانه على المستوى الفني والعملي , ومن عدم الغش لأنه يلحق الضرر بالأفراد والمجتمع , ومن الوفاء بالعهود بلا كذب ولا خداع , يقول صلي الله عليه وسلم : ( اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب ) البخاري .
فمن حق العامل الأجر المناسب لقدراته ومواهبه , يقول تعالى : (ولا تبخسوا الناس أشيائهم) , أي لا تنقصوا أموالهم , كما يحذر الله من سوء العاقبة إذا لم يتناسب الأجر مع العمل كما في قوله تعالى : ((وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) )) سورة المطففين .
والإسلام يقرر سرعة دفع الأجر للعامل بعد الإنتهاء من عمله مباشرة لقول رسول الإسلام (أعطوا الأجير أجره , قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجة , ويروي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قال الله : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة , ومن كنت خصمه خصمته ، رجل أعطى بي ثم غدر, ورجل باع حرا فأكل ثمنه , ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) .
هذا الارتقاء والسمو عمل على تطور الحركة الصناعية والحرفية والعمالية , وبعد أن كان ينظر إليها نظرة ازدراء , هاهو خير من عمل صلي الله عليه وسلم يقلب هذه المفاهيم رأساً على عقب , ويذهب إلى أصحاب المهن , ويلبي دعواتهم , مخالفاً العادات البالية .
ومنذ ذلك الحين ارتفع شأن العمل والعمال والحرفيين على مدي العهود الإسلامية , فهذا عمر بن الخطاب الحاكم العادل , يقول : ( إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول : هل له حرفة ؟ , فإن قالوا : لا , سقط من عيني ) , وهذا ما علّمه النبي صلي الله عليه وسلم للأمة في قوله : ( طلب الكسب فريضة على كل مسلم , كما طلب العلم فريضة ) .
كما سمحت الدولة في عهودها الإسلامية بإقامة الروابط العمالية التي تكفل لهم الحماية , وأطلق عليهم : ( أصحاب المهن ) , وأطلق عمر عبارته الشهيرة : ( ويل لديان الأرض من ديان السماء ) , ومن ثم انخرطوا في العمل الشعبي , ومارسوا كامل حرياتهم .
3 – العمال والعدالة الإجتماعية
ثم أتي حين من الدهر على البشرية , سرى فيها الانحطاط السياسي , والارتفاع في الأسعار , وقلة الأجور , واحتكار المواد الغذائية , فانتشر الفساد والنهب واللصوصية , فانتبهت الأمة إلى إسلامها , فقدمت للبشرية المعذبة في كل مكان , نظرية اجتماعية متكاملة , هي التي تحقق لها العدالة الاجتماعية , وتحمي العمل وترفع من شأن العمال .
لقد تخبطت البشرية وهي تجتهد في نظريات , كلها كانت تدور حول فكرة العدالة الاجتماعية , من توفيق الأجر مقابل العمل , أو الصراع الطبقي , أو التلفيق بين الأمرين , فلا هي أعطت صورة واضحة عن العدالة الاجتماعية , ولا قدمت بسهولة أساليب تحقيقها.
بل أصبحت في الواقع من أكثر النظم الاجتماعية ظلماً وإجحافاً بحقوق العمال المادية والمعنوية , وإن حوت بنود الاتفاقيات - التي أطلقتها أمريكا منذ أكثر من نصف قرن - كلمات براقة ظلت حبيسة هذه الاتفاقيات , من : نشر السلام والأمن , وتشجيع وتعزيز الديمقراطية , ومنع أسباب المشكلات المحتملة , وتوفير فرص العمل , واستئصال الفقر الشديد , وأخيراً احترام شخصية وسيادة واستقلال الدول !!.
فما أحوجنا أن نقدم للبشرية هذا النظام الاجتماعي , وهذا هو دورنا العملي : الذي يعتمد أولاً على الارتقاء بالفرد , ثم مراعاة التفاوت الفطري من أجل التعاون والتكامل لتحقيق العدالة المنشودة , ومن ثم تترسخ هذه المبادئ : التفاضل في الأجور قائم على بذل الجهد , والثروة الاجتماعية يعاد توزيعها , والزكاة وكافة صور التكافل توزع على الفقراء والمحتاجين وبقية المصارف المشروعة .
ومن هنا كان التذكير لأصحاب القرار على مستوي أمتنا , بأن خير وسيلة لرفاهية شعوبنا في تطبيق هذا النظام , القائم على دعامتين :
أولاً : أن تحسن الدول توزيع الثروات , بحيث لا يتنعم بها البعض , ويحرم آخرون .
ثانياً : أن يحسن الأفراد استخدامهم للثروات بحيث لا يستخدمونها فيما يضرهم , أو يترتب عليها إشباع حاجات ضارة .
ومن هنا كان التحذير من الانصياع لأي نظام غير هذا النظام , الذي نراه اليوم في هذه الفوضي التي تهدر الحقوق العائلية , و ترسّخ سياسة التجويع والفناء للدول الصغيرة , وتكرس ارتفاع الغني وزيادة الفقر والجهل والمرض للدول الضعيفة , فكانت النتائج الحتمية من جراء ذلك , انتشار بؤر الفساد وأوكار الانحلال بصورة عارمة .
فلماذا نترك هذا الكنز وهو بين أيدينا ؟ وعلام هذا التخبط ومعنا النور ؟
ففي هذا النظام كل الخير والبركة , وفيه التنمية العلمية والصحية والمالية , بل إنه يمسح دمعة المعذبين في الأرض , ويرسم الابتسامة الغائبة على وجه كل مكروب حزين , فهو لا يهمل محروماً أو محتاجاً أو مقعداً أو عاطلاً أومريضاً أو متعلماً .
4– واجباتنا لإنجاح حقوق العمال
ولا نجاح لنا في ذلك إلا إذا تحلى الجميع بالعمل ضمن الإطار الإسلامي , في مواجهة المشكلات الاقتصادية , من القيم والمبادئ على هدي الإسلام :
- فإن كان العمل في الإسلام واجباً على الفرد , فمن واجب الدولة أن
توفر فرص العمل لكل من يرغب فيه .
- وإن كان الإتقان واجباً على الفرد , فواجب الدولة التوزيع العادل للدخل والثروة .
- وإن كان العمل هو الدعامة الأساسية للإنتاج , فواجب الدولة تنمية الموارد البشرية التي ترفع قيمة العمل وترعاه .
- وإن كان العامل هو الثروة الحقيقية , فواجب الدولة رفع الظلم عن الكادحين ورفع الأجور وتكافؤ الفرص والعناية الصحية .
- وإن كان العامل ينتسب إلى الطبقة الكادحة , فمن واجب الدولة توفير الأمان الغذائي له ولأفراد أسرته , ففي الحديث : ( إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد ) رواه أبو داود.
لقد آن لنا أن نفهم رسالة العمال في كل عام , وهم يصرخون من الظلم , ويتأوهون من الفساد , ويلفتون الأنظار لقضاياهم ؟ , ولذا أدعو المفكرين والكتاب والإعلاميين والعلماء , أن يهتموا بالعمال ومطالبهم العادلة , من حقهم : في الأجور , وفي الرعاية الصحية , وفي الاستمرار عند المرض أو العجز أو الشيخوخة , وفي المحافطة على كرامتهم , وفي ممارستهم لشعائر دينهم , وفي تقاضيهم , وفي التعبير عن شكواهم في حرية .
ففي ظل غياب الحقوق , وأنظمة لا تربطها بالعمل إلا سياسة القمع والاستبداد , ونظام اجتماعي يجعل أكل العيش ومورد الرزق منحة تتكرم بها السلطة على العمال , وفي ظل انحسار الحريات وانتشار البطالة , يصبح العمل حلماً نهائياً لدي العمال , فيتحدد مصيرهم بلقمة العيش وليس الفكر , وهذا ما تأمله الأنطمة لتضع العمال أمام أقسي اختبار , وكأنها تقول لهم : إما الخبز وإما الحرية !! .
وأدعو الله أن يزيل الغمة عن أمتنا , ويفرج كرب المكروبين , ويحقق أمل الكادحين في حياة كريمة هانئة .