وفاء صديق

وفاء صديق

عدنان عون

[email protected]

عجبا لفعل الاقدار، ما أكثر صروف الدهر، وأكثر تقلباته ! عجبا لدنيا لا يدوم لها حال، فكثيرا ما تقلب للإنسان ظهر المجن. وسبحان الله بيده الأمر كله  : يغير ولا يتغير،  يعطي و يمنع ، يخفض و يرفع، يغني و يفقر ، يذل ويعز .

وصاحبنا الحسن بن محمد المهلبي ،رجل تقلبت به الأيام ، فتركته الأقدار زمنا طويلا يتلوى على مثل الجمر ، فقرا و جوعا و حاجة ، حتى لقد تمنى الموت فأعياه  شراء أو صدقة ، و نفث ما في صدره ذات يوم في مسمع صاحبه و رفيق زهده وفقره أبي عبد الله الصوفي وقال له :

ألا موت يباع فأشتريه                            فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن نفس حر                          تصدق بالوفاءعلى أخيه

 ثم ضحكت له الأقدار ، وأقبلت عليه الدنيا ، وفتحت له من ابواب العز و المجد و الكرامة ، ما جعله مقصد القاصدين ، ومحط رحال المحتاجين. و ما كان يدور بخلده أن الذي أبكاه سيضحكه ، وأن الذي منعه سيعطيه ،وما هي إلا أن شاء الله ،فإذا الحسن بن محمد المهلبي وزيرا في بلاط معز الدولة ابن بويه ، يتبوأ عنده مكانة عالية ، ومنزلة رفيعة ، يقصده القاصدون ، وبتطلب وده و صداقته العارفون .

ويسمع صاحبه و رفيق فقره أبو عبد الله الصوفي ، ما وصلت اليه حاله من العزة و الرفعة و المكانة ، فيمضي الى بابه ، ويرفع إليه مع حاجبه رقعة كتب فيها :

ألا قل للوزير فدته نفسي                                 مقالة مذكر ما قد نسيه

أتذكر إذ تقول لضنك عيش                              ألا موت يباع فأشتريه

 ويقرأ الوزير المهلبي الرقعة ، فإذا هو أمام ماض يمر بكل آلامه و أحزانه، أليست ساعة الحزن بأضعاف سرور من ساعات الفرح ؟ لقد عادت به الذكرى إلى هاتيك الأيام التي تجرع فيها المر و الشقاء ألوانا .. و تذكر صاحبه الذي واساه و صبر معه، وهل ينسى الاحرار من ألفهم أيام محنتهم؟

و نهض الوزير مسرعا الى صاحبه ، فأدخله و أجلسه مجالس الأنس ، و ذاكره بما مضى من أيامه ، وتحركت في نفس الوزير مروءته ، وهزته أريحيته ، فإذا به يجود على رفيقه بما أعطاه الله ، و يخلع عليه من خلع الوفاء و الكرم ما يجعلك تكبر فعل الأحرار و الكرام . ثم تقدم الى صاحبه قائلا : اقبل هذا مني و لا تتخلف عن حاجة تعرض لك . وقبل أن يودعه أنشده قائلا :

رق الزمان لفاقتي                            ورثى لطول تحرقي

و أنالني ما أرتجي                            و أجار  مما أتقي

فلأغفرن له الكثير                             من الذنوب السبق

إلا  جنايته التي                                 فعل المشيب بمفرقي

يا لروعة الأحرار ، ما أكبر نفوسهم ، و ما أعظم صداقاتهم ، وما أوفى مروءتهم . فإلى أخلاق الأحرار ، و فاء و مروءة ، وإلى التشبه بالكرام قولا و عملا ، فأجمل ما في الدنيا ذكريات طيبة، و صداقات مخلصة ، و مروءات و فية ، و أخلاق عظيمة تبقى للإنسان ذكرا خالدا.