متى تحظى لغتنا الحديثة بنحو حديث ؟!

بروفسور سليمان جبران

بروفسور سليمان جبران *

[email protected]

يتمثّل تطوّر لغتنا الحديثة في مجالين أساسيين: الأوّل هو استحداث ألفاظ ومصطلحات جديدة، بالابتكار والاشتقاق والنحت والتعريب، وبذلك انضافت إلى لغتنا العربية آلاف الألفاظ والتراكيب والتعابير الجديدة، بعضها واضح نعرفه، وبعضها يتردّد على ألسنتنا وأقلامنا ، حتى المحافظين منّا، دونما إدراك لأصله الأجنبي في أحيان كثيرة.

المجال الثاني هو التطوّر والتجديد في مبنى الجملة، أو في النحو ذاته، وهو تطوّر لا تلحظه العين دائما، لأنّ القارئ يمرّ بهذه الأساليب الجديدة فيألفها حتى يظنّها من الأساليب الكلاسيكية التي يجيزها النحو والنحاة.  ثمّ إنّ إصرار رجال  اللغة والقائمين على المؤسّسات التعليمية، على تفسير كلّ التجديدات المبنوية بأحكام النحو الكلاسيكي، بالمنطق حينا وبالقسر أحيانا، قد يوهم القرّاء، والمثقّفين أحيانا، أنّ لغتنا المعاصرة ما زالت محكومة بنحو سيبويه والكسائي، لاتشذّ عنه أو تخرج عليه. وإلا فما معنى محاولات " النحاة " الجدد فرض القوالب النحوية الكلاسيكية على كلّ المباني الحديثة، المستقاة في معظمها من اللغات الأجنبية واللغات المحكية، وبالعنت والقسر غالبا؟ لا أظنّنا نغالي إذا قلنا إنّ نحو لغتنا الحديثة قد تغيّر وتطوّر بحيث باتت الحاجّة ماسّة إلى وضع نحو حديث للغتنا الحديثة، تماما كما وضع أجدادنا نحوا للغتهم التي تداولوها في تلك الأيّام. هل يُعقل أن يحكم لغتنا اليوم نحو وضعوه قبل اثني عشر قرنا وأكثر، هل في اللغات المعاصرة كلّها لغة تعاني ما تعاني لغتنا حين تُفرض عليها، في عصرنا هذا،  أحكام العصور الوسطى وأعرافها؟

واضح أنّ نحو اللغة المعاصرة يتأثر في تطوّره، كما ألمحنا، بعاملين حاسمين: العامل الأوّل هو الترجمة من اللغات الأخرى، ولا أظنّ اللغة العربية عرفت عهدا ازدهرت فيه الترجمة من اللغات الأخرى ، كما ونوعا ، كما نشهد في هذه الأيّام. وكم من مترجم يتبنى خلال عمله المضني مبنى الجملة الأجنبية، واعيا أو دون وعي،  فيلاقي هذا المبنى الجديد قبولا لدى القراء والكتّاب، ولا يلبث أن يشيع على الأقلام والألسنة، فيكتسب بذلك رواجه السريع  وشرعيته . العامل الثاني طبعا هو لغتنا المحكيّة، اللغة الطبيعية في حديثنا وتفكيرنا أيضا. ففي عصرنا هذا لم يعد المبدعون يتهيّبون " حماة الفصاحة " في  نقل الأبنية المحكية إلى اللغة  المعيارية، شعرا ونثرا، لتشيع هذه الأبنية دونما حرج، وتغدو جزءأ لا يتجزّأ من لغتنا الحديثة.

·   عودة الضمير على ما بعده

·   مضافان أو أكثر لمضاف إليه واحد

·   كلَّ عام وأنتم بخير

·   ذات وكافّة  للتوكيد المعنوي

·   الكاف في غير التشبيه

·   الجملة الاستفهامية مضافا إليه

 أدوات الاستفهام ، سواء كانت حرفا أو اسما، لها حقّ الصدارة، بأسلوب النحاة، فلا ترد  إلا في أوّل الجملة. لذا فإنّ الجملة الاستفهامية لا تشكّل عادة جزءا من جملة كبيرة فيكون لها محلّ

ـ  كان من المهمّ معرفة كيف تمّ تلقّي نظريته في مصر.

ـ  ... تجعل مسألة هل نحن إزاء لغة واحدة أم إزاء لغات متباينة، مسألة ذات مغزى.

ـ  من الصعب أن نتوصّل إلى فهم مسألة ما هي الوقائع التي يستند إليها هذا الخوف.

ـ  ... لفحص هل يلائم النصّ أهداف القراءة، وهل يستحقّ الاستمرار في قراءته.

·             بعضهم البعض

   ـ  يساعد التلاميذ بعضُهم بعضا، كما في الآية القرآبية : " ... وآتيناهم كتابا فهم على بيّنة منه

   بل إنْ يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا" ( فاطر 35/ 40) . في هذه الحالة تعتبربعض

   الأولى بدلا، والثانية مفعولا به، وهو مبنى جائز وشائع طبعا، سواء كان المبدل منه اسما

   ـ  التلاميذ يساعد بعضُهم بعضا، كما في الآية القرآنية : "... ورفعنا بعضهم فوق بعض

  درجات ليتّخذ بعضُهم بعضا سخريّا " ( الزخرف 43/ 32) . وهذا المبنى أبسط في تركيبه من سابقه، فهو من فعل وفاعل ومفعول به طبعا. 

  ـ  يساعد التلاميذ بعضهم البعض / التلاميذ يساعدون بعضهم البعض . في هذين المبنيين تأثير  واضح لنحو اللغة المحكية، لذا من الطبيعي أن لا نجدهما في النصوص الكلاسيكية ، وعليه  فلا "تخريج" أو إعراب لهما أيضا، بل إن " الغيورين " يعتبرون ذلك خطأ  فاحشا لا بدّ من "تصويبه "، رغم شيوعه في الصحافة، وفي الأدب أيضا !

·   أفعل التفضيل، هل تظلّ المطابقة فيه مطلقة ؟

 لعلّ الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل كان أوّل من أجاز لنفسه، حين كان  محرّرا لصحيفة الأهرام قبل سنوات طويلة، أن يتجاهل الحكم المذكور. فكم من مرّة سمعناه وقرأناه يردّد تركيب " الدولتان الأعظم " ، أي الولايات المتّحدة والاتّحاد السوﭭييتي، يوم كانت العلاقات بين هاتين الدولتين شغل العالم الشاغل. قد يكون هيكل تأثّر بالصياغة في اللغات الأجنبية وقد يكون استثقل " الدولتان العظميان " ، لكنّه بذلك أوّل من شرعن هذه الصياغة، ربّما، فلم تعد تنفر الأذن منها، وغدت اليوم صياغة يمرّ عليها "الغيورون" في صمت، دونما اعتراض أو احتجاج. لا يستطيع كلّ الكتّاب، ولا الأذن تستسيغ كل الأمثلة " الغريبة" المذكورة أعلاه في سبيل المطابقة. من واجبنا إذن القبول ببقاء أفعل التفضيل على حالة واحدة لا تتغيّر، مفرد مذكّر، باستثناء ألفاظ معدودة تداولتها لغتنا الحديثة. وسواء شرعنّا هذه الصياغة أو استنكرناها ، فالصحفيون والكتّاب لن يعودوا إلى أحكامنا كلّما جلسوا إلى الكتابة، والحياة كفيلة بشرعنة كلّ ما تراه هي معقولا وسائغا! 

·   حتى في سياقات حديثة 

إذا كان الفرّاء مات وفي قلبه شيء من حتى ، فلغتنا الحديتة أضافت إلى حتى استعمالات لا يعرفها الفرّاء ورفاقه في العصور الوسطى. رغم ما نالته حتى من سمعة سيئة، عند النحاة والتلاميذ، إلا أنها على الغالب من نوعين:

1)  حتى الجارّة، بمعنى إلى، والاسم بعدها يرد محرورا، بلغة النحاة، فنقول: انتظرتُ حتى نهايةِ الدرس، أو المثال المألوف لدى النحاة: أكلتُ السمكة حتى رأسِها. وهي حتى نفسها طبعا التي يرد بعدها المضارع منصوبا بأن مضمرة، مثل: لا تأكل حتى تجوعَ ( إلى أن تجوعَ).

2)  حتى العاطفة، بمعنى وأيضا، نحو: فرّ الجميع حتى القائدُ ( وأيضا القائد )، أو أكلتُ السمكةَ حتى رأسَها. لكنّ اللغة الحديثة، كما ذكرنا ، أضافت استعمالات جديدة إلى حتى لا يجوز فيها اعتبارها جارّة، ويصعب القول إنها عاطفة لعدم ورود معطوف عليه قبلها. إنها  صياغات جديدة تأثّرت فيما يبدو بنحو لغتنا المحكيّة أو بالأساليب الأجنبية. للتمثيل لا للحصر:

·   هو الآخر، هي الأخرى

·   صياغات "انفعل" جديدة في لغتنا المعاصرة 

كلّ من يتأمل لغتنا الحديثة يلاحظ بوضوح تزايد الوزن انفعل ومشتقاته في صياغات جديدة لم تعرفها لغتنا الكلاسيكية. هناك أفعال كثيرة في المصادر القديمة، من الثلاثي المجرّد بوجه خاصّ، لا يُشتقّ منها وزن انفعل، وإنما تبنى للمجهول بدلا من هذا الوزن. فنحن مثلا نقول كُتِبَ ولا نقول انكتب ، رغم أنه "مطاوع " كَتَبَ، أو" المجهول" منه في دلالته لا شكله.

 إلا أن لغتنا الحديثة، في منحاها التبسيطي، تميل إلى انفعل بالذات لسببين: الأوّل أن هذا الفعل لا يحتاج إلى تشكيل، كما في المبنيّ للمجهول، ولذا فإن استخدامه أسهل وأوضح طبعا، خصوصا في النصوص غير المشكولة. السبب الثاني هو أن لغتنا المحكية في جميع لهجاتها لا تعرف صيغة المبنيّ للمجهول عادة، تماما كما في العبرية التي يقوم فيها وزن نِفْعال، الموازي لوزن انفعل العربي،بديلا للمجهول دائما. وبتأثير المحكية أخذت "تتسلّل" إلى اللغة المعيارية أفعال كثيرة بوزن انفعل لم تعرفها اللغة الكلاسيكية، أو هي "خروج" عن الأبنية الكلاسيكية في نظر المتشددين. هكذا بدأت تتخلّل لغتنا المعاصرة أفعال مثل: انبنى، انقاس، انغلق، انجرح، انطرح، انضاف، انسمع، انضرب، انقتل، انداس، انخلط ... بعضها شاع حتى ألفته الآذان، وبعضها ما زالت الآذان تنكره، لكن لا أحد يستطيع إلغاءه. في هذا السياق، لا بدّ أيضا، كما نردّد دائما، من تأليف قاموس معاصر شامل "يشرعن" مثل هذه الاشتقاقات الجديدة، وآلاف الألفاظ والمصطلحات المبتكرة والمعرّبة، ليثري بذلك لغتنا العربية ويوحّدها في هذه الحقبة الحرجة من تاريخها.        

              

 *   بروفسور سليمان جبران – ناقد وباحث ادبي معروف ، أشغل منصب استاذ الادب العربي الحديث في جامعة تل أبيب ، وكان رئيسا لقسم اللغة العربية وأدابها في الجامعة بين ( 1998 – 2002 )