وجه الشبه بين باريس وغزة
وجه الشبه بين باريس وغزة
فيصل الشيخ محمد
عام 1940 كانت الجيوش الألمانية قد اجتاحت معظم دول أوروبا شرقاً وغرباً، ويممت هذه الجيوش وجهها نحو فرنسا، وقبل أن تجتاح باريس وتدخلها تطوع المارشال (بيتان) الذي كان يعتبر في فرنسا بطلاً قومياً، فقد أوقف زحف الألمان عند فردان في الحرب العالمية الأولى، وكلل انتصار الحملة الفرنسية الأسبانية تحت قيادته ضد الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب عام 1926.
أقول تطوع المارشال بيتان – من باب خشيته كما يزعم من تدمير العاصمة الفرنسية باريس – ليكون رجل النازية في فرنسا، فوقع مع ألمانيا هدنة في حزيران عام 1940، وأوقف العمل بالدستور الفرنسي، وتقلد منصب (رئيس الدولة) في فيشي، وصار دمية بيد الحاكم الألماني العسكري (لافال).
ورفض جنرال صغير مغمور وغير معروف هو الجنرال ديغول موقف رئيسه بيتان التخاذلي، الذي عمل على تكبيل المقاومة الفرنسية ومنعها من التوسع في مقاومتها للألمان المحتلين، وراح يلاحقهم كما تفعل القوات الألمانية الغازية.. ويقدم للمحتل الألماني الخدمات والتقارير ويتعاون معه ضد المقاومة الفرنسية.
الجنرال ديغول الذي عمل تحت إمرة المارشال بيتان ما بين عامي 1920 و1940.. رفض الانصياع لقائده وتمرد عليه، بعد أن استسلم للغزاة الألمان، واستمرأ المنصب الهلامي (رئيس دولة) الذي تبوأه في ظل الحراب الألمانية، وحمل لواء مواصلة القتال والمقاومة بالتعاون مع الحلفاء، وأدار ظهره إلى بيتان وترك فرنسا إلى بريطانيا، وهناك من وراء الحدود أنشأ (اللجنة الوطنية لفرنسا الحرة)، وأدار عمليات المقاومة وأعد الفرنسيين لمقاومة المحتل وتمكن من تحرير فرنسا بأسلحته المتواضعة وبقايا الجيش الفرنسي الذي أعاد تنظيمه وتسليحه.. وعاد بطل المقاومة الفرنسية إلى فرنسا ودخل باريس واستقبل من أهلها – الذين دفعوا ثمن التحرير أنهاراً من دمائهم، وجبال من ركام خراب بيوتهم ومؤسساتهم - استقبال الأبطال، ونفس هذه الجماهير حاكمت المتخاذل بيتان بتهمة الخيانة وحكمت عليه بالموت عام 1945.
ما جعلني أستعرض الحالة الفرنسية هو وجه الشبه بين ما جرى لغزة وما جرى لباريس.. فقد دمر الغازي النازي والغازي الصهيوني ذينك المدينتين وترك باريس وغزة قاعاً صفصفاً.. وأجريا الدماء أنهاراً في المدينتين، وكانت النتيجة واحدة قهر المحتل النازي في باريس، وقهر المحتل الغازي الصهيوني في غزة، وانتصرت المقاومة في باريس، وانتصرت المقاومة في غزة.. وكل ما جرى على المدينتين هو ثمن الحرية وكرامة الأمة وعزتها.. فثمن الحرية كما قال شوقي:
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يُدق
واليوم يعيد التاريخ نفسه، فبعد أن كان بيتان بطلاً قومياً نراه ضعف واستكان واستسلم للألمان بحجة انه ليس باستطاعته مقاومة القوة العسكرية الألمانية الطاغية القاهرة، فجعل من نفسه خادماً لها ,أميناً على مصالحها دون مصالح فرنسا والفرنسيين.. وهذا ما آل إليه حال السلطة الفلسطينية.. فبعد أن كان ياسر عرفات رمزاً للمقاومة الفلسطينية بمواقفه الشجاعة التي دفع ثمناً لها حياته، ليخلفه حفنة من المتهالكين على المناصب الخلبية الهلامية، مستسلمين متخاذلين مرتهنين للعدو الصهيوني كما فعل بيتان، بحجة أنه لا يمكن للفلسطينيين بصواريخهم العبثية وأسلحتهم البدائية من الصمود والتصدي للآلة العسكرية للعدو الصهيوني، الذي تفوق على ثلاثة جيوش عربية مجتمعة عام 1967، وأنه لا يمكن أن يتحقق الحلم الفلسطيني في إقامة دولتهم – بزعمهم - إلا عبر الحوار والتفاوض والانبطاح على عتبات البيت الأبيض، ليحقق لهم ذلك الحلم، وقد مضى على تلك المفاوضات العبثية ما يزيد على ستة عشر سنة، ولم تتوقف إسرائيل منذ بدايتها وحتى الآن عن اغتصاب الأرض الفلسطينية وإقامة المستوطنات وبناء الجدار العنصري العازل، وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية، مدناً ومزارع وقرى وبيارات، وارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين وسوقهم إلى السجون والمعتقلات وتجويعهم وحصارهم وقهرهم وإذلالهم.
وكما رفض ديغول تخاذل بيتان واستسلامه، رفضت حماس في غزة الاستسلام والتخاذل وقررت المقاومة، ورفضت التفاوض والاعتراف بالعدو الصهيوني، وتمترست بسلاحها المتواضع وتحصنت بالجماهير الفلسطينية الرافضة للاستسلام، وقاومت وصمدت وانتصرت وأفشلت كل مخططات العدو الصهيوني، وفرضت عليه تغيير المعادلة أمام الحقائق المستجدة على الأرض.. وجعلته يستجدي التهدئة ووقف إطلاق الصواريخ العبثية التي أحالت حياة المستوطنين إلى كابوس رعيب أقضَّ مضجعهم.. وجعلت هذه الصواريخ العبثية نحو ثلاثة أرباع المليون من الصهاينة ينحشرون في المخابئ والملاجئ.. وكسبت المقاومة الفلسطينية الشارع العالمي والعربي والإسلامي.. فقد خرجت الألوف المؤلفة في عواصم الدنيا ومدنها منددة بالعدوان الإسرائيلي وجرائمه ضد الإنسانية، وراحت منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني تلاحق قادة مجرمي الحرب الصهاينة النازيين في كل محافل القضاء العالمية.
ختاماً أدعو المتخاذلين والمستسلمين إلى قراءة التاريخ والتمعن بأحداثه، حتى يكتشفوا صواب المقاومة وخطأ ما يدعون إليه من المفاوضة والتخاذل والاستسلام، لأنهم لن يحصدوا إلا الخيبة ولعنات الجماهير.