هل كان نزار قباني حمساوياً
باسل ديوب
يحلو لكتاب المارينز على اختلاف ماركاتهم،طمس كل المشهد الفلسطيني الذي يتلخص بأرض اغتصبت وشعب مشرد، والإبقاء على تفصيل يتعلق بالإيديولوجية الدينية لحركة حماس ومن ثم العزف على هذا الوتر نغمات تعتبرها نشازاً الأغلبية الساحقة من المواطنين العرب،المتدينين بالفطرة،وبحكم آلية دفاع ذاتية تجد بعدها في الهوية الإسلامية،و بحكم فطرة عدل وكرامة لا تستند إلى حقول معرفية ولا إلى ترسيمات و مقاربات وكليشيهات فارغة .
ولهؤلاء الكتبة ،ومعظمهم من فلول اليسار المهزومين ،الذين شرعوا بقرع أبواب ممثلي الرجل الأبيض في بلادنا، بعد أن تأبطوا كراسات رثة عن العلمانية وتمكين المرأة وحقوق الإنسان والانتخابات الحرة والمحاصصات الطائفية والعرقية وتمجيد الإقليمية " خارطة تسكع " ، بما أن مصطلح خارطة طريق كمنهج للحلول الأمريكية للقضية الفلسطينية وغيرها أخذ مجده عند هؤلاء فأصبحنا نرى من يطالب بخارطة طريق للقضاء على"جرائم الشرف "وخارطة طريق لإصلاح سياسي وخارطة طريق لتوحيد المعارضة ، حتى أن نائب الرئيس فاروق الشرع تساءل ذات مرة لماذا لا يكون لمسار التفاوض السوري - الإسرائيلي خارطة طريق هو الآخر ؟
لكن ما علاقة خارطة الطريق بنزار قباني وحمساوية قد يكون الرجل عليها وأخفاها عنا ؟
أذكر أن طلاب جامعة حلب وزعوا قصيدة "المهرولون " على نطاق واسع ذات يوم كمنشور تحريضي واحتفوا بها يوم صدورها بعيد توقيع الراحل ياسر عرفات اتفاق أوسلو في العام 1993 بشكل بالغ .
كانت قصائد نزار قباني توزع على أبواب الوحدات السكنية في الجامعة وتلصق على الأبواب والأعمدة كمنشور سياسي ، من يمكن له أن يحتج على قصيدة تتداول كمنشور ؟
كانت تلك القصيدة حدثاً فرض مصطلحاً جديداً هو " الهرولة " على الأدبيات السياسية والإعلامية العربية ،وجعل من العرب " الغاربة " في طورهم "الهرولائي " نحو بساطير جنرالات العدو لتقبيلها منبوذين تماماً أمام أمتهم كما جعلت منهم في طورهم " الاعتدالي " ملحمة الصمود في غزة مرمى لأحذية الغاضبين.
قال نزار في تلك القصيدة ما يمكن قوله في اتفاق إذعان مدمر، كلاماً مطابقاً لما تقوله حماس والجهاد الإسلاميتان والجبهة الشعبية الماركسية بدرجة أقل، قباني الذي كان حتى ذلك الوقت مذموماً من قبل اليسار بوصفه "برجوازياً " لا يكتب في الواقعية الجديدة،اليسار الذي تأبط كراساته وتسكع بين المقاهي وبين السفارات الغربية ومراكزها الثقافية ومنازل دبلوماسييها،بحثاً عن فرصة عمل .
قد يكون الكلام في حضرة الشعر لغواً، لكن في قصيدة "المهرولون" بيان صارخ لقضية فلسطين وتوصيف سياسي دقيق في حنايا الشاعرية الرائعة :
تَرَكُوا عُلْبةَ سردينٍ بأيدينا
تُسمَّى (غَزَّةً)..
عَظمةً يابسةً تُدعى (أَريحا)..
فُندقاً يُدعى فلسطينَ..
بلا سقفٍ لا أعمدَةٍ..
تركُنا جَسَداً دونَ عظامٍ
و يداً دونَ أصابعْ...
و رغم ذلك لا يمل كاتب عقلاني من كتابة المقالة بـــقفا المقالة "لإيجاد البديل الناعم للمقاومة المكلفة المدمرة التي تتسبب بها قوة رجعية غير تقدمية (يقصد حركة حماس أقسم بالله العظيم هكذا يقول).
"علبة سردين وعظمة " هو وصف أكثر من سياسي لغزة - أريحا وهما البنية التحتية لمجتمع يهتم بـ"استراتيجية بناء مدني فلسطينية،تمنح الأولوية للتعليم والاقتصاد وحسن الإدارة وتنقية الأجواء العامة والثقافة " على ما يذهب عقلانيو الزمن الشخبوطي .
ونزار قباني لم يكن يوماً فتحاوياً ولا حمساوياً ولا يوالي القيادة العامة ، و لم يجلس في أي وضعية "جبهوية " أو " انبطاحية " حتى لا نضطر لذكر أكثر من 12 جبهة تحرير ناضلت و تناضل من أجل نفس القضية التي تتجلى برايات ماركسية أو إسلامية أو قومية أو وطنية أو " ارتزاقية " إنما هي راية القضية نفسها بكل ما فيها من "عدالة جوهرية لا تتقادم ولا تستلب " كما يرى محقاً ياسين الحاج صالح قبل أن يسارع بعد ذم عمالة سلطة أوسلو لمحور الاعتدال وأمريكا وربما إسرائيل ، وعمالة حماس لسورية و إيران ومواجهتها ( الحالية )الــرجعية الـ " فئوية ،غير أخلاقية، وعقيمة لا يمكن أن تنتصر" ،في مجاهل مجرة باب التبانة لإستحضار بديل خطير هو " القوة الناعمة " وهو بديل ثالث يحاكي تماماً النظرية الثالثة للأخ القائد أبو منيار معمر القذافي،وكتابه الأخضر .
نزار قباني، لم يكن مع أي نظام عربي لذاته رغم رثائه عبد الناصر وتغنيه بحرب تشرين ، ببساطة نزار قباني عربيّ فلسطينيّ القضية ،يريد فلسطينه مع الرجعيين ومع التقدميين ،مع اليساريين ومع اليمينيين،مع العمال ومع أرباب العمل،مع حماس وفتح (بفروعها كلها)،والشعبية ،والجهاد والديمقراطية والتحرير والنضال والقيادة العامة و الصاعقة.
كان يريد فلسطين ،وفلسطينه مقدمة على كل شيء آخر ، و كان يحب جورج حبش وياسر عرفات،ولو كان بيننا ، لكان حول كرسي الشيخ أحمد ياسين النقال بعد قصفه بصاروخ أمريكي صولجاناً شعرياً يليق بشهيد مثله سقط على باب المسجد مع رفاقه المصلين.
على الذين يتذمرون من "تدفيش" أو " ركل " جلاوزة الأمن لأقفيتهم في عاصمة عربية فيتفجر إحساسهم بالغضب والرفض لدرجة الحلم بميليس مسيحاً مخلصاً أن يتخيلوا مشهد قتل أحمد ياسين والمصلين معه بصاروخ ،و مشهد قتل نزار ريان ،وسعيد صيام، وأبو علي مصطفى القادة الشرفاء نظفيي الكفوف وهم في مقدمة من يضحون في سبيل الحرية وليتيخلوا كيف يكون شعور الفلسطيني تحت الاحتلال،وأية ظروف يعيشها وتملي عليه شكل نضاله ، وحسبه فقط ألا تستهدف ظهره خناجر أشقائه المعتدلين والعقلانيين والعدميين والمتخاذلين والمطبعين .
إن نزار قباني المجرد عن الأحقاد والأهواء السياسية لم يكن إلا ليكتب ما يليق بفرسان كهؤلاء وهو القائل عندما يبقى ضمير الشعب حياً كفتيل القنبلة لن تساوي كل توقيعات أوسلو خردلة .
المهرولون
-1-
سقطت آخر جدرانِ الحياءْ.
و فرِحنا.. و رقَصنا..
و تباركنا بتوقيع سلامِ الجُبنَاءْ
لم يعُد يُرعبنا شيئٌ..
و لا يُخْجِلُنا شيئٌ..
فقد يَبسَتْ فينا عُرُوق الكبرياءْ…
-2-
سَقَطَتْ..للمرّةِ الخمسينَ عُذريَّتُنَا..
أو يرعبنا مرأى الدماءْ..
و دخَلنَا في زَمان الهروَلَة..
وو قفنا بالطوابير, كأغنامٍ أمام المقصلة.
و ركَضنَا.. و لَهثنا..
و تسابقنا لتقبيلِ حذاء القَتَلَة..
-3-
جَوَّعوا أطفالنا خمسينَ عاماً.
و رَموا في آخرِ الصومِ إلينا..
بَصَلَة...
-4-
سَقَطَتْ غرناطةٌ
-للمرّة الخمسينَ- من أيدي العَرَبْ.
سَقَطَ التاريخُ من أيدي العَرَبْ.
سَقَطتْ أعمدةُ الرُوح, و أفخاذُ القبيلَة.
سَقَطتْ كلُّ مواويلِ البُطُولة.
سَقَطتْ كلُّ مواويلِ البطولة.
سَقَطتْ إشبيلَة.
سَقَطتْ أنطاكيَه..
سَقَطتْ حِطّينُ من غير قتالً..
سَقَطتْ عمُّوريَة..
سَقَطتْ مريمُ في أيدي الميليشياتِ
فما من رجُلٍ ينقذُ الرمز السماويَّ
و لا ثَمَّ رُجُولَة...
-5-
سَقَطتْ آخرُ محظِّياتنا
في يَدِ الرُومِ, فعنْ ماذا نُدافعْ؟
لم يَعُد في قَصرِنا جاريةٌ واحدةٌ
فعن ماذا ندافِعْ؟؟
-6-
لم يَعُدْ في يدِنَا أندلسٌ واحدةٌ نملكُها..
سَرَقُوا الابوابَ, و الحيطانَ, و الزوجاتِ, و الأولادَ,
و الزيتونَ, و الزيتَ, و أحجار الشوارعْ.
سَرَقُوا عيسى بنَ مريَمْ
و هو ما زالَ رضيعاً..
سَرَقوا عيسى بن مريَمْ
و هو ما زالَ رضيعاً..
سرقُوا ذاكرةَ الليمُون..
و المُشمُشِ.. و النَعناعِ منّا..
و قَناديلَ الجوامِعْ...
-7-
تَرَكُوا عُلْبةَ سردينٍ بأيدينا
تُسمَّى (غَزَّةً)..
عَظمةً يابسةً تُدعى (أَريحا)..
فُندقاً يُدعى فلسطينَ..
بلا سقفٍ لا أعمدَةٍ..
تركُنا جَسَداً دونَ عظامٍ
و يداً دونَ أصابعْ...
-8-
لم يَعُد ثمّةَ أطلال لكي نبكي عليها.
كيف تبكي أمَّةٌ
أخَذوا منها المدامعْ؟؟
-9-
بعد هذا الغَزَلِ السِريِّ في أوسلُو
خرجنا عاقرينْ..
وهبونا وَطناً أصغر من حبَّةِ قمحٍ..
وطَناً نبلعه من غير ماءٍ
كحبوب الأسبرينْ!!..
-10-
بعدَ خمسينَ سَنَةْ..
نجلس الآنَ, على الأرضِ الخَرَابْ..
ما لنا مأوى
كآلافِ الكلاب!!.
-11-
بعدَ خمسينَ سنةْ
ما وجدْنا وطناً نسكُنُه إلا السرابْ..
ليس صُلحاً, ذلكَ الصلحُ الذي أُدخِلَ كالخنجر فينا..
إنه فِعلُ إغتصابْ!!..
-12-
ما تُفيدُ الهرولَةْ؟
ما تُفيدُ الهَرولة؟
عندما يبقى ضميرُ الشَعبِ حِيَّاً
كفَتيلِ القنبلة..
لن تساوي كل توقيعاتِ أوسْلُو..
خَردلَة!!..
-13-
كم حَلمنا بسلامٍ أخضرٍ..
و هلالٍ أبيضٍ..
و ببحرٍ أزقٍ.. و قوع مرسلَة..
و وجدنا فجأة أنفسَنا.. في مزبلَة!!.
-14-
مَنْ تُرى يسألهمْ عن سلام الجبناءْ؟
لا سلام الأقوياء القادرينْ.
من ترى يسألهم عن سلام البيع بالتقسيطِ..
و التأجير بالتقسيطِ.. و الصَفْقاتِ..و التجارِ و المستثمرينْ؟.
من ترى يسألهُم عن سلام الميِّتين؟
أسكتوا الشارعَ.. و اغتالوا جميع الأسئلة..
و جميع السائلينْ...
-15-
... و تزوَّجنا بلا حبٍّ..
من الأنثى التي ذاتَ يومٍ أكلت أولادنا..
مضغتْ أكبادنا..
و أخذناها إلى شهرِ العسلْ..
و استعدنا كلَّ ما نحفظ من شِعر الغزَلْ..
ثم أنجبنا, لسوء الحظِّ, أولاد معاقينَ
لهم شكلُ الضفادعْ..
و تشَّردنا على أرصفةِ الحزنِ,
فلا نم بَلَدٍ نحضُنُهُ..
أو من وَلَدْ!!
-16-
لم يكن في العرسِ رقصٌ عربي.ٌّ
أو طعامٌ عربي.ٌّ
أو غناءٌ عربي.ٌّ
أو حياء عربي.ٌّ ٌ
فاقد غاب عن الزَّفةِ أولاد البَلَدْ..
-17-
كان نصفُ المَهرِ بالدولارِ..
كان الخاتمُ الماسيُّ بالدولارِ..
كانت أُجرةُ المأذون بالدولارِ..
و الكعكةُ كانتْ هبةً من أمريكا..
و غطاءُ العُرسِ, و الأزهارُ, و الشمعُ,
و موسيقى المارينزْ..
كلُّها قد صُنِعَتْ في أمريكا!!.
-18-
و انتهى العُرسُ..
و لم تحضَرْ فلسطينُ الفَرحْ.
بل رأتْ صورتها مبثوثةً عبر كلِّ الأقنية..
و رأت دمعتها تعبرُ أمواجَ المحيطْ..
نحو شيكاغو.. و جيرسي..و ميامي..
و هيَ مثلُ الطائرِ المذبوحِ تصرخْ:
ليسَ هذا الثوبُ ثوبي..
ليس هذا العارُ عاري..
أبداً..يا أمريكا..
أبداً..يا أمريكا..
أبداً..يا أمريكا..