الفساد إذ يصبح الثابت الوحيد
هشام منور
كاتب وباحث فلسطيني
على الرغم من اعتراف الإسرائيليين أنفسهم بتعدد منابع الهجرة إلى فلسطين المحتلة وتنوعها إلى درجة يصعب معها تحديد ألوان الطيف العرقي والسكاني لمجتمع المستوطنين الإسرائيلي، رغم وجود أعداد لا يستهان بها من الصهاينة الذين ولدوا وعاشوا على أرض فلسطين، إلا أن النظام السياسي والاجتماعي داخل "إسرائيل" قد فشل حتى الآن في تكوين لحمة اجتماعية وسياسية وعرقية واحدة لمجتمع كان الأساس في تشكيله، على حد زعم مؤسسيه، دينياً محضاً، إلا أنه حتى هذا الثابت الوحيد والقاسم المشترك بين المهاجرين إلى الكيان الصهيوني لم يستطع زيفه أن يصمد طويلاً أمام الاختلافات الدينية والمذهبية التي عرفها المجتمع الصهيوني مباشرة إثر فترة تأسيسه، ولا يزال.
ويبدو الإسرائيليون اليوم قد وجدوا عاملاً جديداً يجمعهم ويوحد من شتات تفرقهم، في ظل تفكك معظم العوامل الأخرى وتهاويها أمام الأزمات التي يعرفها كيانهم الهش أصلاً. إذ بات الفساد، الذي ينخر كالسوس في جسد المريض المتهالك، سمة مشتركة بين أفراد الطبقة السياسية الحاكمة في "إسرائيل". بالطبع فإن فساد رأس السمكة لا يمكن عزله بحال من الأحوال عن الفساد الاجتماعي المستشري في واحدة من أكثر دول العالم فساداً حسب تقدير المنظمات العالمية العاملة في توصيف وإحصاء هذا الشأن. إلى الحد الذي باتت فيه مكافحة الفساد واحداً من أهم أولويات الجهاز القضائي في الكيان الصهيوني، متقدماً بذلك على الأخطار الخارجية الكثيرة التي تعصف وتتهدد مستقبل الكيان المأزوم.
"ميخائيل لندنشتراوس" مراقب الدولة والموكل إليه متابعة قضايا الفساد في إسرائيل لم يتوان عن وصف الحال بحكم منصبه بالقول: « لا يوجد أهم من مكافحة الفساد الذي يهدد بتفكيك المجتمع الإسرائيلي، والذي أصبح بنظر المجتمع الدولي مجتمعاً فاسداً، بل لقد تحولت إسرائيل لتكون من الدول الرائدة في احتضان الفساد العالمي». معلقاً بذلك على لائحة لاتهام التي قُدمت بحق "فلاديمير غوسنسكي" أحد أكبر رجال الأعمال في “إسرائيل”، وواحداً من أكثر الشخصيات المؤثرة في الاقتصاد، في سياق اتهامه بتبييض أموال بعشرات الملايين من الدولارات عبر فرع بنك "هبوعليم" الإسرائيلي.
بل إن خطر الفساد المستشري في الكيان الصهيوني بات، من وجهة نظر أهل الشأن أنفسهم، يفوق خطر الانتفاضة الفلسطينية أيام ذروتها!؟ كما عبر عن ذلك مراقب الدولة الإسرائيلي الأسبق القاضي المتقاعد "إليعازر غولدبرغ". لقد بلغ الفساد في إسرائيل مرحلة متقدمة جداً في ظل تناثر الدعاوى التي يرفعها مراقب الدولة يومياً على أفراد الطبقة السياسية الحاكمة، وآخرها الدعوى التي أطاحت برأس رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت" إلى الحد الذي وصف فيه رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق "أبراهام بورغ" الوضع في الكيان المتهالك صراحة بأن «إسرائيل غدت دولة من المستوطنين تقودها زمرة من الفاسدين» ليس إلا!؟.
والحال أن شيوع الفساد في الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل، والذي يعكس الحالة المجتمعية التي يمثلها في نهاية المطاف، تتنوع أسبابه وعوامله «بدءاً من تأثير المافيا السياسية الانتخابية، وتراجع القيم الأخلاقية في المجتمع، إلى انتشار ثقافة المتعة، وتوغل القيم الغربية، مروراً باختلاف الأجيال وتغير المفاهيم لدى الجمهور، وصولاً إلى شيوع الفضائيات وبروز انعكاس العولمة. وقبل كل ذلك ومعه الانعكاسات المادية والأخلاقية للاحتلال الغاشم للأراضي الفلسطينية وما تبعه من سلوك عنصري داخل الكيان مع فلسطينيي ال 48 وفلسطينيي ال 67 في الضفة الغربية وقطاع غزة»[1].
ويبدو التفسير المنطقي الوحيد أمام المتابع للشأن الإسرائيلي كامناً في غلبة النزعة المادية التي تتصف بها "الشخصية اليهودية" بوجه عام على نفوس رجالات السلطة السياسية داخل إسرائيل، في ظل غفلة النظام القضائي والمجتمع على حد سواء وانشغال كامل أركان ومرافق الدولة في تجييش وتجيير إمكانات الكيان لمواجهة الأخطار الخارجية التي تحدق به في ظل نضوب خزان الهجرة إلى إسرائيل، وتراجع حجم الدعم المادي والسياسي الذي كان يحظى فيه، وتضاؤل بريق الأفكار الثورية والرومانسية التي لطالما خدع بها مؤسسو الكيان المهاجرين الجدد لإقناعهم بالهجرة أولاً، والبقاء تالياً.
ويرى كثير من المتابعين والمحللين أن استمرار فضائح مسلسل فساد الطبقة الحاكمة في إسرائيل، إذ يعبر عن حالة صحية تكشف عن قدرة المجتمع، إن جاز لنا التعبير، على كشف خطاياه (لا أخطاءه) وتصحيحها قبل فوات الأوان، بالمقارنة مع دول أخرى لا تمارس فيها هذه الآلية، إلا أن لانكشاف ملفات الفساد آثار تدميرية كبيرة تتعلق بزعزعة ثقة المواطن "الإسرائيلي" بمؤسساته الحكومية، وقناعته بفشلها في إدارة الملفات الداخلية بعد فشلها في إدارة نظيرتها الخارجية. مما يهدد النظام السياسي الإسرائيلي وينذر بقرب وفاته واندحاره، وهو النظام الذي طالما تغنى بتحليه بمبادئ الديمقراطية والشفافية في منطقة لم تسمع بها من قبل!؟.
فضلاً عن الأضرار الفادحة التي تلحق بصورة إسرائيل جراء ذلك، إلى الحد الذي قام فيه السفراء الإسرائيليون في الخارج بتنبيه وزيرة خارجيتهم إلى حجم الإحراج الذي يتعرضون له إثر عقد أي لقاء مع مسؤول أو صحفي غربي يطرح الأمر معهم، لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
على الرغم من تعدد مصادر الخطر الخارجي الذي يتهدد الكيان الصهيوني والأزمات المتلاحقة التي يشهدها، إلا أن ظهور ملف الفساد في هذا التوقيت الذي يشهد تراجعاً حاداً في مدى ولاء الإسرائيليين لقادتهم وحركتهم الصهيونية قد يشي بأن افتعال الأزمة واستغلال توقيتها ربما يكون لغايات أخرى غير ما هو معلن من رغبة في تقويم الوضع وإصلاحه، إذ لطالما حرصت "إسرائيل" على إيجاد عامل ما لتوفير اللحمة الداخلية المفقودة دوماً في ظل حالة التراخي العسكري التي تعرفها، والهزائم المتوالية الذي يعرفه مشروعها التمددي في المنطقة، فهل يتحول الفساد ومحاربته إلى ثابت جديد يوحد شرذمة المهاجرين حول غاية واحدة جديدة؟!.
[1] - لمزيد من التوسع عن حالة الفساد ومدى استشرائها داخل الكيان الصهيوني، يمكن مراجعة التقرير الصادر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بعنوان: "الفساد في الطبقة السياسية الإسرائيلية".