كولاج
رغداء زيدان/سوريا
يتخذ الفن في أحيان كثيرة منحى غرائبياً في جانبه الإبداعي, فنجد كثيراً من الأعمال الفنية المبهرة للعين والعقل على حد سواء وقد استمدت مادة إبهارها من طرافة فكرتها ومن عبقرية منفذها.
ولئن كان الكولاج وهو ذلك الفن الذي يعتمد على قص ولصق كثير من المواد معاً لتشكيل لوحة فنية تحمل الكثير من المعاني والإيحاءات؛ فإنني لم أجد أفضل من استخدام نفس المصطلح (كولاج) لوصف كثير من الظواهر في بلادنا:
ـ عمارة على الطراز الغربي مؤلفة من عدة طوابق وبجانبها بيت من طابق واحد أو كما نسميه بيت (عربي). بالطبع فإن شرفات البناية المطلة على هذا البيت تكشف أهله مما يضطرهم لتغطية فسحتهم السماوية إما بصفائح من التوتياء أو بالخيزران أو حتى بالقماش السميك, وبنفس الوقت نجد أن أصحاب الشقق في تلك العمارة قد رقعوا شرفاتهم بواجهات زجاجية أو سواتر قماشية حتى يحفظوا خصوصيتهم وتسترهم الذي يحرص عليه أهل بلادنا بخلاف الغربيين الذين لا يهمهم أمر التستر في شيء, ولكن بما أننا استوردنا النموذج المعماري الغربي فلابد من عمل (كولاج) ما, لكي يناسب هذا الطراز نمط حياتنا المتحفظ.
ـ واسطة نقل عامة عبارة عن باص لنقل الركاب وخدمتهم, نجد أنه تحول إلى شيء يشبه وسيلة الشحن لنقل البضائع وذلك عندما يحمل أكثر من طاقته الاستيعابية بكثير, بل إن السرفيس الصغير الذي صُمم بحيث يكون جميع ركابه جلوساً استطعنا أن نعمل كولاجاً خاصاً به وصرنا نرى ركاباً فيه يجلسون القرفصاء في ممره الضيق, والسبب طبعاً نزعتنا الفنية المبدعة التي تدفعنا دفعاً لابتكارات كولاجات خاصة جداً!
ـ شوارع مسفلتة من المفروض أنها تستخدم كطريق للسيارات والدراجات والناس بسهولة ويسر بعد أن تُنظم عن طريق شاخصات التوقف وإشارات المرور. نجد أننا اخترعنا لها كولاجاً هو عبارة عن مطبات وحفر وخنادق تجعل من مسألة الوصول إلى المكان المطلوب نوعاً من المغامرة التي ترضي كثيراً من محبي الأكشن. والتي تغري كثيرين بعمل سباق لقطع الحواجز واجتياز العقبات!.
ـ امرأة بلباسها الذي يحاكي صرعات الموضة الغربية التي لا تراعي كما يعرف القارئ الكريم أي جانب للحشمة أو التستر نجدها وقد تحايلت على هذا العيب (عيب الكشف) بأن لبست عدة قطع فوق بعضها البعض لتحقق الحشمة المطلوبة في مجتمعنا المحافظ, فنجد مزيجاً من الألوان والأشكال فوق بعضها (وقد يكتمل هذا الكولاج بالحجاب الذي تلبسه كثير من نسائنا كما نعلم) مما يشكل عملاً فنياً يوحي باستلاب حضاري لا أجد له تبريراً.
صور عديدة لكولاجات كثيرة نجدها في كل مكان نذهب إليه. تسبب في أحيان كثيرة فوضى قبيحة, وتشويهاً غريباً, وإحساساً بالضيق لكل من يرى هذه المظاهر أو يعيش معها. وذلك بعكس الفن الصرف الذي يجعل الفوضى الكولاجية عملاً ناطقاً بإيحاءات كثيرة تبهر العقل والروح معاً (في بعض الأحيان طبعاً, وليس دائماً!).
ولكن هذه الكولاجات المحلية في الوقت نفسه تدل على أن مجتمعنا يملك القدرة على تطويع ما لا يطوّع من أشياء هي عبارة عن مظهر صارخ لتأثرنا بالنموذج الغربي في كل مناحي حياتنا سواء كان ذلك في عمارتنا أم في لباسنا أم في تعاملاتنا أم في طريقة استخدامنا للتقنيات وغيرها. صحيح أن هذا التطويع يكون في معظم الأحيان عبارة عن فوضى قبيحة ولكن للأمر وفق وجهة نظري جانب إيجابي يحتاج إلى دراسة إجتماعية وملاحظة علمية حتى نستطيع معرفة الآليات التي يستخدمها المجتمع للتأقلم مع المستجدات دون أن يفقد هويته وخصوصيته.
ترى لو أننا طورنا نموذجنا الحضاري الخاص الذي يراعي خصوصيتنا ولا يتعارض مع ثقافتنا وديننا هل كنا سنجد هذه الكولاجات المضحكة المبكية في آن معاً؟ أم أننا كنا سنجد مزيجاً حضارياً جميلاً ومريحاً ومعبراً ويكون بنفس الوقت عملاً كولاجياً متناسقاً ومبهراً للعقل والروح معاً؟!