فقه التغيير 3
فضيلة الاستماع
من جزئيات البناء الداخلي الذي نسعى له حالياً ، اتقان فن الحوار ، كي نتفاهم ، وكي لايكون حوارنا حوار الطرشان ، و عندما يصبح اتقان فن الحوار بدهية عندنا نقطع شوطاً هاماً في طريقنا نحو إعادة البناء ...واسمحوا لي أن أعرف إعادة البناء بأنها تعني الإصلاح والترميم ، ولاتعني هدم البناء ثم إعادة بنائه ، فنحن إصلاحيون ، ولسنا ثورويين ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول [ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ] ، وكلمة أتمم تعني ما أقول من التكميل والاستكمال كما يقول الشيخ سعيد حوى يرحمه الله . كما أن إعادة البناء هي خطوة في تغيير الأنفس الذي نفعله ، كي يغير الله أحوالنا ...
واللبنة الأولى من أجل اتقان فن الحوار اتقان فضيلة الاستماع ، وأقول فضيلة لأن من يتصف بها هم الفضلاء فقط ، ولاتظن أنها سهلة ، وأنصحك أن تجرب مرة أن تقول لنفسك في هذه السهرة لن أتكلم أبداً ...وبعد دقائق تجد نفسك انزلقت إلى الكلام ( أتوماتيكياً ) لأنك لم تتعود ولم تتدرب على ( فضيلة ) الاستماع ...
وفضيلة الاستماع هي المعنى الدقيق للمثل القائل : ( إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) ...ويجب أن ندرب أنفسنا وأولادنا وإخواننا على هذه الفضيلة . وإليكم هذه الأقصوصة :
في ظهر يوم من صيف عام (1972) كنت في حماة ، وبيتي في القرية طبعاً ، كنت ذاهباً أتناول الغداء في مطعم من الوجبات السريعة ، كي أعود فأنام القيلولة لأنني مرتبط بعمل في المساء ، وقابلني زميل الشباب الأخ محمود السقار ( أبو منقذ) فقال : أين تذهب ؟ قلت : أتغدى في المطعم . قال : تعال تغدى عندي .( وكنا في شارع المرابط على بعد أمتار من بيته ) قلت له : جزاك الله خيرا ، دعني أتغدى في المطعم في دقائق ثم أعود فأنام قليلاً قبل عمل المساء . قال : عندي مقلوبة بالسمن العربي ، وجنبها اللبن العربي . قلت له عوافي ، ارجوك دعني أذهب إلى المطعم كسباً للوقت ، قال عندي عدد من المدرسين الأخوة أحبابك . قلت هنيئاً لكم جميعا . السوق أقل وقتاً ..وأخيراً قال : عندي الشيخ سعيد حوى ..عندئذ قلت : أنا موافق ومشيت معه إلى بيته ...
كانت آخر مرة رأيت فيها الشيخ سعيد عام (60 أو 61 ) وكان يرتدي اللباس الافرنجي ولحيته قصيرة ( إخوانية ) ، وغابت عني صورته لأنه سافر إلى السعودية ، وقرأت كتبه الأصول الثلاثة ( الله ، الرسول ، الإسلام ) وأعجبت بها جداً ...
دخلت مع الأخ أبي منقذ فوجدت عدداً من الأخوة مدرسي التربية الاسلامية ، وكنت مدرس الفلسفة الوحيد بينهم ، وأخ ضابط طيار يرحمه الله من زملائنا ، وأخ من عامودا يرحمه الله ، ورأيت رجلاً يلبس ثوباً أبيض ويلف شاشاً على رأسه ، ولحيته طويلة ، وهذه الصورة تختلف كثيراً عن الصورة المحفوظة لدي في ذاكرتي للشيخ سعيد ، ( ولم أحدث الصورة بل لم أكن أعرف التعامل مع الكمبيوتر يومها )،لذلك لم يخطر في ذهني أبداً سوى أن هذا ( الدرويش) مؤذن المسجد المجاور ...
وكان المدرسون يتسابقون إلى التقاط خيط الحديث فيشرقون ويغربون ، وهكذا ساعة من الزمن ، ثم وضعت المقلوبة وتناولنا الغداء ، ثم تابعنا الحوار ....
وكدت أقول لصاحب البيت : لقد ضحكت علي وقلت عندي الشيخ سعيد !! أين هو ؟؟
ولكن الصبر طيب وهو من فضائل الحوار أيضاً ...
ووصل الحوار بيننا إلى : كيف يستفيد مدرس التربية الإسلامية من درسه ومنهجه في دعوة الطلاب إلى الحركة الإسلامية ؟
عندئذ قال صاحب البيت نريد أن نسمع رأي الشيخ سعيد ، فدهشت عندما اعتدل ذلك ( الدرويش ) الذي لم يفتح فمـه طوال أكثر من ساعة كنا نتسابق فيها إلى الكلام ، اعتدل في جلسته ثم بسمل وحمد الله وصلى على رسوله وبدأ الكلام الممنهج والسلس والمبرمج ينطلق من فمه ، وفوراً تأكد لي أنه الشيخ سعيد بذاته عندما ربطت كلامه بكتبه التي قرأتها أكثر من مرة ...
عندئذ سكت الجميع ، وتكلم الشيخ سعيد لمدة أقل من ساعة ، أشبع الموضوع من خبرته وعلمه ... وكان هذا اللقاء سبباً في دعوته لي إلى لقاء خاص في بيته يرحمه الله كان بعد شهرين أو ثلاثة من ذلك الموعد ، وكان لقاء مع أربعة من الأخوة ، لقاء لا أنساه ماعشت ، وتجدني أحفظ الحوار الذي دار بيننا يومذاك ...
والشاهد أن الشيخ سعيد يرحمه الله وهو أستاذ الحاضرين كلهم ، لم يتكلم وبقي صابراً يسمع ، حتى فهم كلاً منا من طروحاته التي كان يطرحها ( أو يهرف بها ) ، وبقي صامتاً حتى طلب منه الكلام ...
فهل نتمثل هذا الموقف ، ونتدرب عليه ، وعندما نكون في مجلس ، لانتكلم حتى يطلب مننا صاحب المجلس أن نتكلم ، أو على الأقل نطلب إذناً من صاحب المجلس فإن سمح لنا تكلمنا ....
لا أخفي عليكم أنني أكابد مع بعض الأحباب هذه القضية منذ سنوات ، وقطعنا شوطاً بسيطاً ، وصار الأخوة يتقبلون أن يكون للمجلس عريف ينظم دور الكلام فيه ، وفي بعض الأحيان تمشي السهرة على مايرام ، وأحياناً تفشل ، ويمسك الكلام أخ ويتمسك به ويأخذ عهدة ثالثة ...وخامسة ...وعاشرة .... ويبدأ بعض الأخوة بالانصراف احتجاجاً ...وهو لايزال ممسكاً بخيط الكلام ....
فهل ندرب أنفسنا أولاً وأولادنا ثانياً وإخواننا ثالثاً على فضيلة الاستماع ، ولعل ذلك من باب تغيير ما بالأنفس كي يغير الله ما بالقوم ...وعندما نقتنع ونتدرب يمكن تحقيق هذه الفضيلة ...
وفي مجموعة يابلدي الاستماع أن تقرأ حوارات الأخوة ، وتحذف مالا تريد قراءته ، وأظن أن أغلبنا يحذف ، والحذف استماع سلبي ، وأفضل منه أن نقرأ مايكتبه إخواننا في المجموعة ، ثم لاتدلي برأيك لأن الأخ أبا سنان لم يطلب منك ذلك ...
لو طبقنا هذه الفضيلة لنزل عدد الرسائل في اليوم الواحد من (40- 50) إلى خمسة رسائل فقط في اليوم نقرأها ونتمعن فيها ونفهمها جيداً ونستفيد منها ...
فهل يجرب إخواننا وأحبابنا أعضاء هذه المجموعة الحبيبة ، والتي صارت لنا قبيلة بعد أن اغتربنا عن أهلنا وقبيلتنا ثلاثة عقود ، هل نجرب فضيلة الاستماع
لأنها البند الأول من إحسان الحوار ....