القِيَم التي عادت مع الشهداء
ياسر علي
عاد الأسرى.. والشهداء الأسرى!
اكتست العظام لحماً ودماً وصورة وجهٍ واستعادت ذاكرتها.
نزعت الأرقام واتخذت الجثامين أسماءها وجنسياتها وأعلام بلادها و.. حريتها. واستعادت الأسماء عائلاتها وأهلها الذين استقبلوها مودّعين، أو ودّعوها مستقبلين، لا فرق.
المهم أن الحدث تمّ بالزغاريد والدموع، ودفنوها مكرّمة فخورين بها.
عادت لتعود..
عادت من الأسر.. لتُدفن بكرامة ثم تعود لاحقاً مع العائدين، في ختام حكاية النكبة المريرة.. وحتماً ستعود!
لقد عادت أول مرة بسلاحها واستُشهدت هناك.. ولو بقيت حيّة لرجعت إلى «أرض الملاذ» كي تواصل نضالها حتى يوم العودة الكبرى. أعادوها اليوم لتكريمها، ولكي تعود لاحقاً «عودة حرّة وكريمة وكاملة» ودون قيد أو احتجاز أو حتى رقم.
العودة فكرة طهورية منطلقة من الحق الإلهي والديني والتاريخي والإنساني والسياسي والاجتماعي والقانوني، لذلك لا يصحّ أن تكون منقوصة أو فاقدة لإحدى الصفات الثلاث: الحرة والكريمة والكاملة.
هؤلاء لم يذهبوا لأهداف خاصة أو شخصية، وبالتالي دُفنوا في مقبرة الأرقام.. المدفونون في مقبرة الأرقام ذهبوا إلى فلسطين يحملون مضامين وأفكاراً وإصراراً على العودة دفعتهم للذهاب إليها والاستشهاد على ترابها هناك.
هؤلاء الذين عادوا، ليسوا من أصحاب المناصب الرفيعة، بل من حَمَلة المضامين والقِيم الوطنية التي ماتوا دونها، دون أن تموت هي، وكيف تموت حين تكون «كلماتنا مثل عرائس الشمع، فإذا مِتنا من أجلها بُثت الروح فيها».. وكذلك القيم التي يحملها الثوار حين يموتون دونها..
نستعيد الشهداء الأسرى ونستعيد تلك القيم والمفاهيم، (العودة الكاملة، والنهر والبحر، والثورة مستمرة، الأرض لنا، ويوم الأرض، وبلادي بلادي،..)، ونستعيد الاعتزاز بفكرة الموت من أجل الوطن، بل ونستعيد زغاريد النساء الثكالى في استقبال جثامين شهداء الوطن.
مظاهر ومشاهد استعادَتْها المخيمات الفلسطينية في لبنان لم تأتِ من فراغ، بل هي تجليات غليان البركان الكامن في نفوس اللاجئين والمتراكم على مدى ستين عاماً من النكبة. ولن تكون صرخة في فراغ، فإن لها ما بعدها.
لو قُدّر لهؤلاء الشهداء أن يعودوا أحياء، وقارنوا القيم التي حملوها معهم إلى فلسطين بالقيم التي حلّت بعدهم، لََصُدِم معظمهم من هذا الواقع.
إذ كيف سينظر شهداء حيفا ويافا ونهاريا وزرعيت إلى واقعنا، وهم الذين قدموا أرواحهم من أجل تحرير الأراضي والديار التي أُخرج آباؤهم منها. وما الذي سيشعرون به حين يعلمون أن بعض من أرسلهم قد تخلى عن الأرض التي استشهدوا عليها، أي الأراضي المحتلة عام 1948.
بعض الشهداء عاد، فوجد فصيله قد تخلى عن القِيم التي حملها معه.. أو تخلى عن مسيرة التحرير والمقاومة والعودة.. أو حتى تلاشى ويكاد لا يستطيع أن يتبنى شهدائه.
أما الشهداء العرب، فحتى كتابة هذه السطور لم يتسلم جثثهم أي مندوب رسمي للدول التي ينتمون إليها إلا الكويت وسوريا.
هؤلاء الذين تركوا ديارهم وأوطانهم من أجل قضية «كانت» مركزية في المنطقة، تتبناها الأنظمة والشعوب وتتبنى أساليب النضال المختلفة من أجل استرجاعها. واليوم صارت المقاومة منبوذة كأسلوب لتحقيق أهداف القضية مركزية. بل لقد تمّ تجزيء القضية المركزية نفسها جغرافياً وسياسياً ومرحلياً.
باختصار.
عاد الشهداء، فلسطينيين ولبنانيين وعرباً من جديد يحملون القيم التي كانت قائمة قبل اتفاقات التسوية. عادوا وعاد إلى الشعب الفلسطيني فرحُه وعنفوانُه اللذان لم يغيبا أصلاً، وإن غابت مظاهرهما.
أيها الشهداء:
عدتم، ويكفيكم فخراً أنكم أعدتم الغليان إلى شعوبكم، لتؤكد من جديد على الثوابت الفلسطينية، فلا تكترثوا للدول المتخليّة، والفصائل الضامرة والمتلاشية، والسياسات المتغيّرة. فالتعويل كله، بعد الله، على الشعب وبركانه الكامن.
أيها الشهداء:
حللتم أهلاً.. وإن أنكرتكم أنظمة! ووطئتم سهلاً.. وإن أُُقفلت في طريقكم حدود